نظرة في رحلة صلاح جياد مع اللوحة

نظرة في رحلة صلاح جياد مع اللوحة

عندما يكون النسيان وسيلة ابداع
يوسف الناصر
في واحدة من لوحاته وضع صلاح جياد مجموعة من اشاراته واشكاله ورموزه ، كل واحدة في مربع او مستطيل او شكل مختلف على ارضية سوداء ، يفصلها حاجز خطي رقيق عن التي الى جورها ، وجوه وايد وعيون واصابع ومقاطع من اجساد ، اهلة واشكال حيوانات . لوحة ( كشف الحساب ) ، اسميها ، لانها سجل غير مكتمل للثيمات المبثوثة على امتداد مسعاه الفني ,والتي تتكرر بتطويرات وتحويرات تمليها طبيعة اللوحة .

وغرضي من هذا المثال هو الاشارة الى تمرين الفنان المتواتر على الايقاع ذاته والذي حافظ على عالمة الخاص الذي حمله معه من العراق ، اذ يبدو صلاح جياد نواة ثمرة عراقية محلية - بالامكان ملاحظة عناصرها في الكثير من الفنانين العراقيين من مجايليه - لم ينتج عن عملية انباتها خارج بيئتها غير ثمارها التي طلعت هي منها ، اذ لم يتغير لون الثمرة الجديدة ولا طعمها . استمر صلاح يحاول اشباع موضوعته التي قطعه عنها انقلاب الاحوال في العراق واضطراره للهجرة هربا من ظلم البعثيين الذين استولوا على الحكم وبطشوا بالناس وهدموا الثقافة . بقي صلاح يرسم تحت هاجس مادته الاولى مكررا اشاراته واشكاله ، ليس في ذلك ما يعيب ، بقي سيزان يرسم تفاحاته زمنا طويلا ، لكنها كانت تزداد علوّا كل مرة حتى تجاوزت شجرتها .
هنا لابد لي من ان انوه الى فكرة اخرى عارضة في معنى احتفاظ صلاح بافكارة الاساسية عن اللوحة ومهمة الرسم بالاشارة الى سبب قد يبدو غريبا ، وهو ان صلاح ما احتاج وجوده في الغرب لكي تتفتح موهبته الكبيرة ، فقد كانت متفتحة ومورقة من قبل . مع انه اضاف الكثير للوحته من وجوده في فرنسا واضطلاعة على الفن الاوروبي . هذا الامر يقودني اليه دائما سؤالي لنفسي وانا اراجع لوحات صلاح : من اين يغترف صلاح كل هذا الدفق في اللون والخط والشكل وهو القليل الفضول الزاهد عما يجري خارج حدود يومه وحياته الخاصة ؟ ، واضيف ، ان صلاح نوع من الفنانين النادرين الذين لا يحتاجون الى الكثير من التجريب والبحث والرسم لتطوير رؤاهم وادواتهم ، تكفيه حلقاته وركائزه المتباعدة ليوصل بينها جسرا رائعا . لكني لا اتغافل عن قوة التيار الهادر الذي يجري تحت ذلك الجسر ويلطم دعائمه.
تقدم لوحات صلاح التي رسمها في السنوات الاخيرة صورة مراوغة للنظرة الاولى ، اذ يتزاحم خليط من الاشكال ضمن بنائها المتين الواضح الحدود ، خليط من خطوط عنيفة وضربات فرشاة متقاطعة وقوية ، اجزاء من اجساد ووجوه شائهة ، مرسومة بطلاقة وحيوية تجمعها وشائج غامضة ، لكن تلك الاشكال الحرة والبناء المتين لا يسعيان، بالضرورة ، لهدف واحد ، ( حفل صاخب داخل بناء محكم الجدران ) ، هكذا تبادر الى ذهني وانا اراجع مجموعة اللوحات تلك ، والجدران هنا ، بالطبع ، لا تكبّر صوت موسيقى الحفل بقدر ما تكتمه. فنان ذكي مثل صلاح لابد وان يعرف ذلك . على اني لابد وان اذكر هنا ان ذلك النوع من ( المعترك ) هو ليس كل ما انطوت عليه تلك اللوحات ، فالفنان يعود هنا وهناك الى موضوعات اثيرة الى نفسه ، تبدو مثل فواصل واستراحات ،موضوعات هي خليط من اشكال فولكلورية و ( بغداديات) وحتى ابعد من ذلك زمنيا ، الى تكوينات جذورها في الفن الاسلامي ، تذكر بفنان العراق الواسطي .
كان من السهولة ملاحظة ان لوحات صلاح تتجه بيسر نحو هدف محدد وواضح ايام الدراسة والاندفاع الاول ، - نحن لا نتحدث دائما عن فترة دراسة فنان الا باعتباره تلميذا ، صلاح من القلة الذين كانوا فنانين ايام دراستهم – فالشاب الموهوب لديه ما يكفي من الثقة والقدرة على انجاز لوحة جميلة في سياق التيار العام لفن الستينيين ، لكن عالم البراءة ذاك سرعان ما اهتزت جدرانه امام الاهداف والافكار الجديدة التي بدأت بالنفاذ الى عالم اللوحة من خارجها ، افكارا اتخذت اشكالا سياسية وايديولوجية ووطنية . اتسعت الان مهمة اللوحة وصار المطلوب منها ان تؤدي وظيفة جديدة . اتجهت اعمال العديد من الفنانين في تلك الفترة نحو نوع من وسيلة الايضاح وترجمة الخطاب الادبي ، لكن ذلك السيل الوافد لم يتخذ شكل عصف جارف عند صلاح ، فقوة الوانه وخطوطه وحريته قدمت مدخلا امنا للاستجابة للفروض الجديدة ، ساعده في ذلك انتشار وشعبية بعض الصياغات الجاهزة التي منحها ابعادا جديدة ، واعلام صديق بدى مزهوا بالمواهب التقدمية الشابة .
هذه الصياغات تطورت لاحقا الى شكل يمكن وصفه بدون تعميم : مساحة رئيسية يحتلها شكل او مجموعة اشكال قوية التكوين ، تصبح احيانا مثل قوس او قبة او وجه مندفع من احدى جهتي اللوحة ، تنتشر حواليه او داخله اشكال ( تجريدية ) اساسها الخط والحركة وضربات فرشاة حادة فيها ايحاءات لاشكال تراثية او ذات صلة بالبيئة المحلية ،لا ضرورة هنا لوجود صلة سببية بين الشكل ( الاناء ) والاشكال اللاحقة ، وقد يتعارضان احيانا ، نوع من المتعارضات التي اصبحت جزءا مقبولا وعاديا في حياتنا اليومية ، مثل قفص الطيور ومحتواه وطعم النبيذ وقنينته ، وكل ذلك ملون بمهارة يمكن تتبع جذورها الى (انطباعية عراقية) رائدها فائق حسن ، (اسس حافظ الدروبي جماعة الانطباعيين سنة 1953) .
تبدو الوجوه والايدي واجزاء الاجساد وما يذكّر بهيئة الانسان او الحيوان وكانها اضيفت الى بناء اللوحة الجاهز ، بينما تبدو اللوحة من زاوية اخرى وكانها ابتدات بهذه الاشكال ثم انتُزِعت وجُرّدت واختُزلت قليلا قليلا مع نمو اللوحة حتى غابت او كادت .
لم يشأ صلاح للوحته ان تحسب على باب التجريد والبحث الجمالي الخالي من الغرض النفعي المباشر ، كما انه لم يرد لها ان تبقى لصيقة بالبيئة والايديولوجيا والمعاني الجاهزة ، جعل بينها وبين الارض فراغا للتنفس وتمدد الخيال ، حيث تظهر اندفاعات روحه بوضوح ، وميله للجمال المجرد واللعب وحرية الطفولة . افكر احيانا ان صلاح جياد كان يقاوم نفسه ونوازعه ويكبح بشدة رغبته الهائجة بالانطلاق والتحرر ، وذلك من اجل ان يؤدي ما كان يظنّه واجبه الانساني والاخلاقي ، لكنه لم يكن وحيدا في ذلك ، اذ كانت تلك احدى مظاهر ازمة ( وطنية ) لم يساعدعلى تجاوزها بيسر قلة الخبرة والثقافة النظرية وقوة المثال .
لم يكن الاميركي ( جاكسون بولوك ) يريد ان يرسم مشاعره ، كان يقول انه يريد ممارستها على القماشة ،لكن صلاح جياد لم يمنح نفسه ترف خيار كهذا، بقي يصارع نازعي بولوك ، رغبة الذات الحرة التواقة للانطلاق وممارسة واجب تمليه الافكار والتربية ، لوحة حرة تمارس دورها في الحياة باعتبارها لوحة ، واخرى تبحث عن دور مباشر في المعترك الاجتماعي والسياسي ، والنتيجة ان صلاح كان يسمح لنوازعه العميقة ان تتمدد على سطح اللوحة ، ان يمارس مشاعره ، ولأنه معلم يجيد الاقناع فانه ، يعطي ثقافته الفنية ورقيبه اليقظ فرصة ان يضعها في سياق محدد ويضبط ايقاعها . لم يستطع صلاح ان ينسى ما تعلمه عندما يكون النسيان وسيلة ابداع .
ان ضربات فرشاته العنيفة وخطوطه المضطربة هي شغل مخيلته الوثابة ومعاني روحه الغائرة في العمق ، اما اشكاله الطالعة من حرفة فائقة الجودة ، بما فيها تلك التي تطوي خطوطه وضرباته تحت جناحها ، فهي بنات ثقافته ومبادئه . ولكن اليس النفس والحرفة والثقافة هي مادة كل لوحة ناجحة ؟ نعم ، ذلك اذا خرجت من طور (الخليط ) الى طور ( المركّب ) هل نسينا دروس الكيمياء ؟.
كان صلاح بالنسبة لنا ، نحن الجيل اللاحق لجيله قليلا ، عضوا في مجموعة ليست كبيرة من رسامين مختلفين يمثلون الرسم الجديد في العراق ، ويمثلون حيوية وانفلات الحركة التشكيلية الناهضة والواعدة بالكثير ، الحركة المتحررة من مصيدة ( الحرس القديم ) ، اولئك روادنا واساتذتنا الافاضل الذين اسسوا حركتنا وطوروها ، لكنها غادرتهم مع الجيل اللاحق لتدخل متاهة لا تنتهي من اسئلة وبحوث ومنازعات عديمة الفائدة ، تكاد رتابتها ان تصير قدرا لا فكاك منه . كانوا ( صلاح ومجموعته ) يمثلون صورة ما نتطلع اليه ويجسدون احلامنا كفنانين شبانا ينتظرنا الكثير ، مندفعين بقوة باتجاه الحياة والفن .
كانوا أول جيل او مجموعة توفرت لها في العراق فرصة الانتشار غير المسبوق في اعلام البلاد من خلال الوسائل المختلفة كالتلفزيون والراديو والمسرح ، اضافة الى المادة الاساسية واقصد بها المطبوعات الملونة ، تلك التي عملوا فيها او نشرت اعمالهم ، مجلات وكتبا وملصقات وبطاقات ، كان في العراق انذاك نهضة طباعية لم تعرف البلاد مثلها من قبل ، جعلت الصور في متناول الجميع ، بينما كنا قبل ذلك نسمع عن اللوحات الجيدة اكثر مما نراها ، وكثيرا ما طبعت بالاسود والابيض او بالوان رديئة .
على اني لا استطيع منع نفسي الان من التساؤل ان كانت الصورة المليئة بالاعجاب والتقدير العالي التي نتداولها عن صلاح جياد هي صورته في تلك الايام ام هي صورته الان ، معظم معارفي واصدقائي من غير الفنانين ممن سالتهم عن صلاح وانا بصدد كتابة هذه الموضوع وقبل ذلك ، اشادوا بتجربة صلاح وعبروا عن اعتزازهم وحبهم للوحاته ، بل ان بعضهم ذهب ابعد من التعميم الى وصف الالوان والموضوعات وجمال التخطيط بالقلم الرصاص والحبر ، لكنهم اكدوا انهم يتحدثون عن ايام بغداد على الاغلب وانهم لم يروا الا القليل من اعماله بعد ذلك . على ان ابتعاد صلاح عن الاضواء وطبعه الشخصي المكتفي بنفسه والخجول ايضا ، لابد وان ساهم بذلك بقدر ما .
اضطر صلاح وبضعة اسماء واعدة من تلك المجموعة ثم جيلنا اللاحق الى قطع الحلم الجميل ومغادرة العراق والدخول في امتحان المنفى الصعب ، وهو مثل كثيرين منا اضطررنا ، من اجل توفير متطلبات العيش الاساسية ، لامتهان اعمال شتى ، فجلس في ساحة المونمارت في باريس يرسم العابرين ، واستمر على ذلك لسنوات طويلة تجاوزت العقود الثلاثة . هل كان سهلا على الرسام وضع مسافة بين استعمال الرسم ، موهبته ، لتمرين العيش الممظ هذا وبين انجاز مشروعه الفني الخاص ؟
بعد ان انتهيت من الكتابة انتقلت لمشاهدة مقابلة قديمة على اليوتيوب مع صلاح اجرتها محطة تلفزيون عراقي ، كان صلاح يتحدث عن نفسه وعمله بتواضع كبير ، كان حييّا ينظر الى الارض متجنباً عيني المذيعة المبتسمة ، بدا وكانه قد انجز للتو لوحته الاولى .