فاطمة المحسن أسئلة في التاريخ .. أسئلة في الحداثة

فاطمة المحسن أسئلة في التاريخ .. أسئلة في الحداثة

علي حسن الفواز
تسعى الباحثة فاطمة المحسن عبر حفر أرشيفات التاريخ العراقي المعاصر الى إثارة الكثير من الأسئلة حول مفاهيم النهضة والثقافة والمكان والشخصيات، وما تعالق بها من أشكال معقدة للصراعات والازمات التي ارتهن الى معطياتها وطبائعها الواقع العراقي وسماتها في المشهد السياسي والثقافي والديني.

في كتابها «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث» تضعنا الباحثة امام إغواءات هذه الاركولوجيا، وأمام تعقيداتها التاريخية والمفاهيمية دفعة واحدة، اذ انحنت بدءا على استحضار مفهوم النهضة كسياق توصيفي للتعاطي مع التحولات الثقافية العميقة في العراق الحديث، وكسياق منهجي وضع قراءة هذه التحولات بمثابة كشّاف لما تضمره من شفرات وعلامات تعبّر عن مخيال الهوية الوطنية، وعن صراعاتها ازاء الحداثة، وازاء النزعات الدينية والقومية، وكأن هذه التحولات وشواهدها اضحت القياس «المثالي» لتلمس مفهوم النهضة. فهل كان التوصيف النهضوي الذي اعتمدته الباحثة دقيقا في معاينة اشكالات الواقع الثقافي واستقراء صفحاته منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؟ وهل وجدت الباحثة اشتراطات تمثلاتها لمفهوم النهضة من خلال ثقافة العراق الحديث؟
هذه الاسئلة هي مدخل اولي لتلمس ماعمدت اليه الباحثة من اجراءات ادركت اهميتها وضرورتها، على نحو يجعل نزوعها المنهجي بمواجهة توصيف تاريخ هذه النهضة، فضلا عن نزوعها الى اجراءات تحليلية تستكنه الباحثة من خلالها عقد حساسيات هذه النهضة واختلاطها مع الثقافي والديني والسياسي.
في المقدمة تضعنا الباحثة امام موجّه قرائي محدد بظواهر التحولات الثقافية، وبزمن هذه التحولات من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهذا التحديد يسبغ اجراءاته على طبيعة هذه القراءة من خلال عقد مقارنات مع المحيط العربي الذي عاش اشكال مقاربة لما سمي بـ «ظاهرة النهضة» اذ ارتبطت هذه الظاهرة بتأثير الثقافات المجاورة، وبدء انهيار نموذج الدولة الشمولية، وصعود موجات التحديث في العالم، وكذلك الارتباط بـ «نتائج الاصلاح الديني»، واستعادة بعض وجوهها العقلانية والتحديثية من خلال ما طرحه العاملي والنائيني. فضلا عن تأثير «الطبيعة الشعرية للنهضة الادبية، والتبادل بين القول الشعري وطبيعة التحديث الادبي» (ص10) والذي عدّته الباحثة بانه من أبرز «مميزات عصر النهضة العراقي».
ضم الكتاب تسعة فصول، انحنى الفصل الاول على معالجة المفاهيم وتمثلاتها للنهضة والثقافة في العراق الحديث، اذ عمدت الباحثة عبر قراءتها الى سياحة تاريخية وتوصيفية لهذه المفاهيم في سياق ما تفترضه من اجراءات وصراعات وتشكلات، خاصة ما يتعلق بطبائع هذه الصراعات والاجراءات مع تحولات سياسية خطيرة بدءا من نهاية الدولة العثمانية وانتهاء بالاحتلال الانكليزي وتأسيس الدولة العراقية عام 1921، والتي افرزت بطيعة الحال تشكلات جديدة انعكست على الواقع الجديد، وعلى أنماط العلاقات السياسية والثقافية والاجتماعية، والتي اصطنعت لها بالمقابل اشكالا رمزية لمفاهيم الدولة والهوية والثقافة، ومنها ما يتعلق بالتحولات الحادثة في أنماط الخطاب الديني والثقافي خاصة في «واقعية اللغة المكتوبة في الادب العراقي بعد نشوء الدولة، وطبيعتها، وميكانيكية تمثلها للمقولات الجديدة، ومحاولة تقربها من مواضيع الحياة اليومية، وتواتر مصطلح العلم والعقل والمكتشفات الحديثة في مفرداتها واستغراقها في التأكيد على المستقبل والنهضة» (ص26).
وعمدت الباحثة في الفصل الثاني «النهضة العراقية / تواريخ افتراضية» الى توظيف آلية كشف تقوم على اساس التعرّف على ما أسمته بـ «إرهصات التحديث في العراق» (ص36) من خلال استقراء التواريخ الاولى للنهضة، والى مدونات بعض المؤرخين الذين استشرفوا زمن هذه النهضة، خاصة في التعاطي مع بعض مشاريع الولاة العثمانيين، وصولا الى ما أسمته الباحثة بـ «نهضة فيصل الاول في العام 1921» (ص41).
استقراء الباحثة لحيثيات مفهوم النهضة وضعها امام آليات فحص «الاتصال الحضاري وادب الرحلات» باعتبارهما مصدرا لتعقيد هذا المفهوم اساسا، ولاستحضار قراءة النهضة العراقية في ضوء ما تمخض اجرئيا من قراءة هذا المفهوم، حيث تضع الباحثة «الحركة غير المسبوقة للعلماء والمتأدبين البغداديين في السفر ووصف البلدان الاخرى» (ص45) أساسا للتعرّف والكشف، خاصة ماسجله «ابو الثناء الالوسي» في سفراته وكتبه من شواهد، وتأثره بعلماء عصره الذين اقرأ لهم، وكذلك ما تمخض في سفرات سليمان فيضي، ومحمود احمد السيد وغيرهم، والتي جعلت هذا المفهوم اقرب الى ما هو ثقافوي في توصيف النهضة والتعريف بها في تجارب الشعوب الاخرى.
وعمدت الباحثة في الفصل الثالث «المثقف العراقي» الى التعريف بهذا المثقف في سياق ما تقترحه النهضة من إجراء وتوصيف، اذ وضعت هذا التوصيف ازاء استحقاق اجرائي يضع قيمومة ثقافة النهضة على اساس انها تقوم «على التجاذب بين عناصر التقليد والتجديد داخلها، اذ كانت فكرة التقدم تستهوي مجموعة كبيرة من الكتاب والمشتغلين في ميادين الابداع وبينهم رجال الدين» (ص 56) أي ان مفهوم المثقف يخضع الى المزواجة التي تتسع لوعي اشكالات الصراع بين القديم والجديد، والى توصيف عمومي تشترك فيه النخب التي تعيش ارهاصات هذا الصراع، وقد اعتمدت الباحثة العديد من الشواهد لتأكيد ما ذهبت اليه من خلال طروحات محمد بهجت الاثري في مروياته، وفي كتابات محمود أحمد السيد والذي استقرأت الباحثة عبر رواياته تحولات الوعي الجديد، وطبائع الصراعات التي تواجه مصائر ابطاله وهم يعيشون عقد هذا التحول التاريخي والنفسي والثقافي، وكذلك ما اقترحته مؤلفات سليمان فيضي الايقاظية من حوارات، وما اثارته حينها من جدل داخل الوسط الثقافي العراقي.
واحسب ان الفصل الرابع «الاصلاح الاسلامي» يمثل قراءة مفصلية للمشهد العراقي الذي يعيش تاريخيا ازمة صراع عميقة تقوم على ما هو مكرس رمزيا في الثقافات الدينية والشعبية، حيث عمدت الباحثة الى استجلاء ظواهر التجديد في هذه الثقافات من خلال قراءة تحولاته الداخلية، وعلاقاتها مع غيرها، خاصة فيما يتعلق بصراع المذاهب، وجدل الافكار حول هذه المذاهب وتعاطيها مع مفاهيم النهضة، وعلاقتها بالعقائد، ونظرتها الى الاصلاح، والاجتهاد والمشروطية، وكذلك النظر الى التجديد في جوهر هذه العقائد الشيعية والسنية.
وحمل الفصل الخامس عنوان «حركة الافكار، تشكل الوعي الجديد» لتضعه الباحثة بمثابة اطلالة على كل المقدمات التي أسهمت في حراك الافكار، وفي التمهيد لحركة التجديد، بدءا من ماتركته قصص الرؤيا وعمليات المثاقفة التي اثرتها وسائط الترجمة، والإشارة الى «منجزات علماء الغرب ككوبرنيكوس ودارون ونيوتن واينشتاين وافكار سبنسر وديكارت ونيتشه ولوبون» (ص 114) وما اشاعه هبة الدين الشهرستاني والزهاوي من افكار وقراءات وفرضيات في الوسط الثقافي العراقي، فضلا عن ماشاعته «الايديولوجيا كدعوة وتنظيم» في الاشاعة للافكار الجديدة، خاصة تلك الافكار التي باتت مثارا للجدل على ايدي الشاعر معروف الرصافي واثره الشعري والثقافي، وكذلك الافكار التي اقترنت باتجاهات «الفكر الاشتراكي والعروبي الحداثي» وصولا الى ما يتصل بأفكار ساطع الحصري ومرجعياتها المتأثرة بالفكر القومي الالماني والتي أثارت الكثير من الجدل حول مفاهيم تشكيل الامة، والنظر الى الدولة والقومية، والموقف من العملية التربوية والتاريخ والتعليم. وانتهاء بالحديث عن اثر النظرية الماركسية وطبيعة اثرها الفكري على عصر النهضة عبر استقراء ما اثارته هذه النظرية من اندفاعات ثقافية وسياسية بشّر بها مجموعة من المثقفين في اوساط متعددة من المجتمع العراقي.
فصول الكتاب الاخرى تمثل تأسيسا على ما استشرفته الباحثة من استدلالات لتوثيف هذه النهضة كمفهوم وكاجراء، اذ عمدت الباحثة الى معالجة هذا المفهوم من خلال اثر الطبيعة المهيمنة للادب في تاريخ النهضة، حيث تمثل هذه الطبيعة الوجه الاكثر بروزا وتمثلا، حتى ان البعض يتهم هذه الطبيعة بانها خلقت ما يشبه الاستبداد الشعري في التاريخ الثقافي.
واحسب أن الباحثة قد وضعت القيمة الثقافوية للادب في سياق تاريخي فاعل، وبما يجعل اثره يمثل الصور الاكثر سطوعا وتعبير عن جوهر التحولات في الوعي وفي المواقف وفي النظر الى المتون المعرفية والادبية الاخرى، لان هذه المتون هي تعبير عن ولادات ثقافية، وعن سجالات وعن علاقات وعن افكار، وعن تثاقفات عصفت بالواقع الثقافي، وبما يجعل هذا الواقع اكثر تأثرا بكل التحولات الكبرى التي عاشتها الحياة العراقية.
ولعل ما يميز هذا الكتاب هو القراءة الجادة واستغراقها في معاينة عوالم العديد من الشعراء والروائيين، خاصة معروف الرصاقي والزهاوي اللذين ظلا بمنأى عن الدراسات الجادة، وعن استقراء اثرهما في اشتغالات التجديد الشعري والثقافي، وكذلك قراءة الاثر الثقافي المهم لشخصية اشكالية مثل روفائيل بطي الذي كان مثالا للمثقف المعرفي، والمثقف المتجاوز الذي يحوز عبر حساسيته العالية على وعي استثنائي للنظر في قضايا اشكالية كالتجديد، وعدم الركون الى عقد المقدس في التاريخ واللغة. فضلا عن استقراء الكتاب ضمن سياقه المنهجي للتعريف برواد النهضة الافتراضية في العراق، بعيدا عمّا يحملوه هؤلاء الرواد من حساسيات ومرجعيات دينية وقومية وطائفية، حيث وضعتنا الباحثة امام فضاء تاريخي ومعرفي حاشد، لكنه محكوم وبوعي منهجي ادرك اسباب اجراءاته، وامام معطى ما استنبطه من احكام ونتائج تمثلت فاعلية النهضة كاثر ثقافي فاعل في صناعة تاريخ العراق المعاصر.