في ذكرى رحيله في 16 آذار 1945 الرصافي .. مواقف وذكريات

في ذكرى رحيله في 16 آذار 1945 الرصافي .. مواقف وذكريات

اعداد : ذاكرة عراقية
رأي الجواهري في الرصافي
لما حلّت ذكرى وفاة الرصافي كتب الاستاذ الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري كتب مقالة نشرتها «الثبات» في عددها الثاني والتسعين في 18 جمادى الثاني 1371 هجرية المصادف للاثنين السابع عشر من مارس (آذار) 1952م، عنوانها:

لماذا عاش الرصافي وسيعيش بعد موته؟
كان الرصافي عظيماً لأن عظمته تعلن عن نفسها بنفسها. وكان أبرز ما في هذه العظمة أنها كانت تكشف بكل جرأة عن مواطن الخلل فيها.
وكان الرصافي زعيماً لأنه لم يرد أن يكون زعيماً!.
وكانت شخصيته الناضجة بالألم والطموح الصادقين مصدر شعره، وكان شعره بوصفه هذا حلقة الوصل بينه وبين الجماهير الناضجة نفسها هي بهذا الألم وتلك المطامح.
وكان الرصافي شريفاً لأنه لم يدع بانسباغ حلة (الشرف) عليه فضفاضة لا خروق فيها ولا رتوق!.
وكان الرصافي وطنياً وشعبياً لأنه كان صورة صادقة لوطنه ولشعبه في لسانه ومجلسه وسمره ومقهاه.
وكان الرصافي كل ذلك، وفوق ذلك لأنه كان كذلك.. وليس أنه أراد أن يكون.. أو يدعى.. أو قال أو نظم أو كتب.
لقد كان الرصافي هو الرصافي.. صاعداً ونازلاً.. مجيداً وغير مجيد، ثائراً ومسالماً.. ولهذا فهو خالد.
ولهذا أيضاً كان موته عبرة لكثير من «الأحياء»!.
من مختلف الأوصاف وليس من الأدباء وحدهم الذين يطنطنون وينقنقون.. ويدعون.
إن الرصافي الميت لحي وان هؤلاء الأحياء لميتون.
أن الرصافي عاش في حياته، وبعد موته، لأنه كان هو الرصافي نفسه في اليقظة والصحوة والشدة، والبيت والمقهى والفندق والبرلمان، لأنه كانالرصافي نفسه في الباطن، وفي الظاهر في الضمير واللسان، في النية وفي التطبيق.
لأنه لم يكن «منافقاً» ولا «مرائياً» ولا ذا وجهين أو أكثر ولا ذا لسانين أو أكثر.

رفائيل بطي يكتب عن اول لقائه بالرصافي
عرفت الرصافي بشعره ثم قابلته لأول مرة سنة 1920، كما وصفت هذه المقابلة في مقال كتبته على طلب لصحيفة عراقية في عدد خاص ارصدته لذكراه. وكما اشار صديقي الاديب الضليع الاستاذ مصطفى علي في كتابه عن الرصافي. وامتدت معرفتي بالشاعر النابغ طوال السنين حتى وافى حمامه. وفي فكري عنه شيء كثير كما ان حياته باطوارها ومعالمها تستوقف المتأمل في مراحل كثيرة. واعني ان يسعفني الزمن لأؤدي الواجب للادب والتاريخ في تدوين مشاهد واراء في هذا الصدد.
ويحضرني الساعة موقف ومشهد لشاعر الشعب والاديب الحر. اما الموقف فعندما انشد الرصافي لاميته في احتفال ادباء الشعراء بامين الريحاني، فكانت قصيدته هذه معلقة عصرية ضمت ما يجيش في صدر الأمة من احساس قوي بالكرامة العراقية وبألم كظيم من كابوس الاستعمار واثر السياسة الغشوم في النفوس. ويكفي ان اذكر ان جماعة من الشباب الوطني كانوا اعدوا نسبا كثيرة من هذه القصيدة الخالدة مكتوبة (بالتابيرايتر) صاروا يوزعونها على شهود الحفلة ومعظمهم قد خرجوا سكارى مفتونين بما عبر شاعرهم عما تهجس به خواطرهم وتفيض صدورهم وستبقى هذه القصيدة مأثورة للرصافي تغني عن مجلد ضخم في وصف الحالة النفسية للشعب يومئذ ازاء السياسة المفروضة عليهم. ويكفي ان تكون القصيدة قد غطت على كل ما قيل في تلك الحفلة بما فيها رائعة الريحاني نفسه من شعره المنشور في وصف الحرية ورسالتها الى الشرق. الرصافي اسم مستعار لشاعر كبير !!
لا ادري هل جُمعت الذكريات التي كتبها الشاعر الكبير بشارة الخوري المشهور بالأخطل الصغير، ونشرها في المجلات العربية في الثلاثينيات؟. ولو قيض لهذه المذكرات الاحياء في كتاب مستقل، لأصبحت تحفة ادبية رائعة تضاف إلى روائع كاتبها، وإضمامة تاريخية نفيسة عن الأدب العربي الحديث في اوائل القرن العشرين . فهي تضم معلومات طريفة على جانب كبير من الأهمية، وتكشف أسراراً خطيرة من حياة الأدباء العرب، وتعاونهم الوثيق في سبيل حياة أدبية بعيدة عن القهر الفكري والسلطوي .
يذكر الخوري انه كان يشك في ان يكون الرصافي اسما لرجل من لحم ودم يستهدف لنقمة السلطان ولمن في بغداد من الرجعيين أعداء الإصلاح. غير أن معروف الرصافي لم يلبث ان قدم بيروت في اوائل شباط 1909، فتم الاجتماع به في (قهوة البحر )، وقد ذهب اليها الخوري مع الشاعر اسعد رستم، فاذا هو يحيط به الشيخ رشيد رضا والشيخ محيي الدين الخياط والشيخ مصطفى الغلاييني ومحمد افندي الباقر،وكان الرصافي مجببا معمما، ولم يطل الصافي مقامه في بيروت لانه كان في طريقه الى الاستانة وقد دعي اليها ليتولى انشاء جريدة (اقدام). وما ذكره الخوري كان مشابها لما ذكره نعوم لبكي في مقال له في جريدته (المناظر) التي اصدرها في امريكا واعتقد فيها ان الرصافي توقيع مستعار لشاعر عربي كبير يخشى اظهار اسمه الحقيقي لخشيته من السلطات العثمانية .
فانبرى للرد على لبكي المرحوم محمد كرد علي في مقالات له على صفحات جريدة (المؤيد) القاهرية . وكثر الاخذ و الرد بينهما، واستطاع كرد علي ان يثبت ان الرصافي لقب لشاعر بغدادي لامع يدعى معروف الرصافي . وقد قرأت في مقال كتبه الاب لويس شيخو اليسوعي بعنوان ( الحماسة الدستورية ) في مجلته ( المشرق ) لعام 1909 ما يفيد ان الرصافي الشاعر الوحيد الذي طالب بخلع السلطان عبد الحميد، بل دعا الى اسقاط الملكية واقامة الجمهورية في قصيدة (رقية الصريع).
ولم تلق المهمة التي قصدها الرصافي في الاستانة التوفيق، فقرر العودة الى وطنه، فمر ثانية ببيروت، يقول الاخطل الصغير:عادالرصافي في اواخر عام 1909 فاقبل توا على إدارة جريدة (البرق) - كان الاخطل يصدرها، وكنا ساعتئذ نهم بنزهة في الجبل، فلم يتردد الرصافي في قبول دعوتنا لاسيما وقد كان الريحاني في (الفريكة)، فأطبقنا به واحتللنا صيوانه وقد كان يصحبنا الاديب الفكه المرحوم الياس خليل يمتعنا بنكاته حينا وبصوته حينا . في الحق انها متعة الانفس ومشتهاها، الرصافي والريحاني يلتقيان للمرة الأولى تحت وابل من الاحاديث العلمية والاراء في الالوهية وتاثير القمر في الجاذبية ومكانة المرأة الشرقية من الرجل.

الرصافي ونوري السعيد
كتب الصحفي الرائد عبد القادر البراك الذي كان من مريدي الرصافي :
أن (نوري السعيد) الذي كان حريصاً على مودة الرصافي بصفة كونهما من (القرغول) المحلة المشهورة في بغداد وللصلات التي تجمعهما بالمجمع البغدادي رشح الرصافي للنيابة عن لواء (العمارة) في الانتخابات التي أجراها لابرام معاهدة 30حزيران1930، وقد نجح في مسعاه، ودخل الرصافي البرلمان ليقاوم المعاهدة بأعنف خطاب معزز بالأدلة المنطقية والعلمية وعارض عدداً من مشاريع الوزارة السعيدية، ويوم استقال اقطاب المعارضة للمعاهدة (ياسين الهاشمي) و(رشيد عالي الكيلاني) و(علي جودت الأيوبي) احتجاجاً على سياسة الوزارة هاجمهم الرصافي بخطاب شديد اللهجة، وقد سلك مثل هذا السلوك في تعليقه على استقالة (ناجي السويدي) أحد معارضي المعاهدة حيث قال الرصافي ان (السويدي استقال من المعارضة ولم يستقل من النيابة) ويبرر الرصافي هذا «التناقض» في مواقفه بأنه يعارض السياسة، ولا يعارض منتقدي هذه السياسة لأنهم يضطلعون بمهام أخرى لصالح الشعب... وهو بهذا يقنع نفسه بأنه يرد الجميل لأصدقائه!.
ولقد أساءت القصيدة التي نظمها في تهنئة (نوري السعيد) بنوال وسام الرافدين الى سمعته السياسية فلم يكترث لذلك في ظاهر الحال. وأنا لا أصدق ذلك لأني كنت أجد الرصافي في أخر ايامه يضيق بالنقد، وبصورة خاصة فيما يتعلق بالسلوك العام!.
وكان مما كلفته هذه القصيدة من متاعب ان صديقه المرحوم (كامل الجادرجي) وكان يوم ذاك المدير المسؤول لجريدة (الشعب) الناطقة بلسان الحزب الذي يترأسه (ياسين الهاشمي) لما قدم الى المحكمة لنشره قصيدة اعتبرت ماسة بالذات الملكية سألت المحكمة (كاملاً) عما اذا كان يرضى بـ(الرصافي) حكماً فأجاب بالرفض وقال ان الرصافي محسوب على الحكومة وأنها ساعدته بالمال لطبع ديوانه ومن غير المعقول وهو منتفع من الحكومة أن يعطي حكماً ضدها!.
وكانت المساعدة التي قدمت للرصافي مبلغ 300 دينار لطبع ديوانه على أن تسترد منه لقاء نسخ من الديوان واستقطاع اقساط من مخصصاته النيابية، وبعد ان حرم الرصافي من عضوية المجلس النيابي، عجز عن اداء الاقساط المتبقية عليه وهي لا تزيد عن (العشرين ديناراً) اقترح الشيخ محمد رضا الشبيبي وكان وزيراً للمعارف في وزارة ياسين الهاشمي عام 1935 ان تشطب من خزينة الدولة باعتبارها من المبالغ غير القابلة للتحصيل! وكانت السلطة يومذاك قد شطبت ديوناً مترتبة بذمة عدد كبير من الأثرياء المحسوبين على السلطة بمثل الحجة التي أحتج بها الشبيبي لتشطب الدين المترتب بذمة الرصافي!.