كيف اقيم للحلاج قبر رمزي في بغداد ؟

كيف اقيم للحلاج قبر رمزي في بغداد ؟

جواد البياتي
في خريف 1977 كنت في مهمة استطلاع صحفية في دور الأرامل التي يطلق عليها الكرخيون محلة المنصورية المحاذية لمرقد ومقبرة الشيخ معروف الكرخي، لاحظت شخصاً يحوم حول مبنى بائس مندس بين تلك المنازل. كان يبدو عليه الأهتمام ويسأل عن مفتاح ذلك المنزل الذي تقوم بداخله قبة خضراء فقيرة، اثار ذلك لدي فضولاً للتعرف على هذا الرجل وهذا المنزل ذو القبة الخضراء.

انه الدكتور كامل مصطفى الشيبي استاذ الفلسفة الاسلامية في جامعة بغداد والمبنى يضم مرقد الولي الكامل والرجل المتصوف منصور الحلاج، كانت فرحة ذهبية للتعرف على احد ابرز الشخصيات التي مرت بتاريخ بغداد وتجذرت فيه، حاول الاستاذ الشيبي حينها استغلال الفرصة في مشاركته لتعريف الناس بهذا المرقد المهم الذي لا يقل مقاماً عن غيره من المتصوفة في بغداد أمثال الجنيد البغدادي وعمر السهروردي والأمام الغزالي ومعروف الكرخي وسواهم.

قال الاستاذ الشيبي ان بغداد تضم رفات الآلاف من رجال التاريخ بشتى طرائقه وعلومه وأفكاره بما في ذلك قبور الخلفاء انفسهم والتي درست بعضها وبقي البعض الآخر منها. ومن الغرابة بمكان ان ما بقي من قبور المدافعين عن الفقراء والمظلومين والمضطهدين وبعض رجال العلم ما زال مهملاً تتجاهله السلطة ويقوم على خدمته العوام من الناس ايماناً منهم بأنه من رجال الله اما اصحاب السلطان والقوة والجبروت فقد هبت بهم رياح الله وساخت بهم طبقات الأرض. ومن غرائب الأمور ان الحلاج لم يدفن في قبر ولم يلف في كفن وبرغم حقد السلاطين والخلفاء فقد أبى ذكر الحلاج أن يلغيه التاريخ فسخر من آمن برسالته ان يقيم له قبراً رمزياً يشير الى كبريائه مثلما يشير الى عار السلطة التي عاش في عهدها.
انا الحق في مطلع القرن العشرين، احيا الرحالة والباحث الفرنسي ماسينون ذكر الحلاج حين زار بغداد عام 1908 ضمن بعثة آثارية بخصوص قبر الحلاج وكتب عن عبارته (أنا الحق) بحثاً القاه في مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في اثينا عام 1912، وقام بنشر ديوانه وكتابه (الطواسين) وأخباره والنصوص التي دارت حوله، كما توّج ذلك برسالة مطولة للدكتوراه بعنوان (عذاب الحلاج) فنبه بذلك الأدباء والشعراء والباحثين في الشرق والغرب الى اهمية الأدبية والتاريخية والفكرية كما نبههم قبل ذلك فيتيز جيرالد الى عمر الخيام وجمال رباعياته.
ومنذ النصف الاول من القرن السابق اصبح الحلاج رمز الشهيد الحر والزعيم المؤثر والانموذج الرفيع الباذل من اجل مبادئه فكتب عنه كبار الشعراء والادباء العرب مثل عبد الوهاب البياتي وعلي احمد سعيد وعدنان مردم بك السوريات والقاص اللبناني ميشال فريد غريب وهذا ما كان يهيئ له الدكتور الشيبي في كتاب كامل.
كيف اقيم للحلاج قبر رمزي
كان اول من اهتم بقبر الحلاج وزيراً عباسياً مؤمناً بأفكاره وهو ابن المسلمة (علي بن الحسن بن أحمد) 1007- 1059م وهو الوزير القائم بأمر الله العباسي الذي حكم بين 1031- 1075م فقد تعييه سنة (1045م) ركب الى جامع المنصور واتى الى تل فنزل وصلى عليه ركعتين هذا موضع مبارك وكان قديماً بيت عبادة، وعنده صُلب الحسين بن منصور الحلاج وكانت تلك هي اول اشارة الى قبر الحلاج او البقعة التي صلب فيها. كما كانت اول دفاع حقيقي مكشوف عن هذا الرجل الذي يجمع كل اعلام التاريخ الاسلامي انه اغتيل ظلماً. بل ان المؤرخ العراقي ابن الطقطقي الموصلي صاحب كتاب (الفخري في الاداب السلطانية) في القرن الثالث عشر الميلادي بان قبر الحلاج في الجانب الغربي من بغداد وقريب من مشهد الشيخ معروف الكرخي. وعندما دخل سليمان القانوني مدينة بغداد عام 1535 اقام لقبر الحلاج بناء جميلاً، حيث جاء في كتاب (بيان المنازل) للمطراقي المرافق لحملة سليمان القانوني بأن المهندس المعماري الكبير سنان هو من بنى قبر الحلاج من بين حوالي (500) بناء في بغداد. ويبدو ان هذا البناء العثماني الذي عاصر مشهد الشيخ عبد القادر الكيلاني والأمام ابي حنيفة واتمام مشهد الكاظمين، ظل من دون ترميم ولا تجديد حتى عام 1907 برغم كل من كتبوا عنه كماسينون والدكتور زكي مبارك 1948 والاستاذ عادل كامل1970.
ضاعت معالم القبر عندما احاطت به دور الأرامل التي شيدتها الحكومة في هذه المنطقة فأصبح القبر ضمن احدى الدور في زقاق ضيق بلا منفذ (عكَد) لكن مختار محلة المنصورية بادر مع بقية اهل المحلة بترميم القبر وتم ايصال الماء والكهرباء اليه ووضع لافتة تعريفية على واجهة القبر، وبعد وفاة المختار تبرع فرحان العبدلي وهو شاب لطيف من اهل المحلة في الثامنة عشر من عمره يعمل في دكان للحلاقة اخذ على عاتقه مراجعة الدوائر ذات العلاقة لخدمة ضريح منصور الحلاج لكن الاوقاف كانت ترفض مشاركتها لأنه لا يتمتع بموقع تجاري يعمل منه كما يذكر فرحان الحلاق، اما الحاج حامد محمود المعلم المتقاعد احد سكان محلة المنصورية فهو من ذوي النزعات الصوفية الذي كان وراء دعم نشاط فرحان في تحركاته لخدمة الضريح، هذا المعلم الذي يصفه فرحان بأنه كان يلبس دشداشة رثة يطلق عليها (ثوب الجهاد) وفي بداية هذا العام 2016 قررت مع مجموعة من المثقفين والفنانين زيارة قبر منصور الحلاج في الزقاق المواجه للباب الرئيس لمستشفى الكرامة التعليمي العام في الكرخ فوجدناه مغلقاً واخبرنا بان المفتاح مع السيد فلان الذي ذهب لدفن أمه في مقبرة الشيخ معروف ولم يتسن لنا الدخول اليه. يقول الدكتور كامل الشيبي المهتم بتاريخ الحلاج وفكره، ان الاستاذ ماسينون احصى في عام 1920 عدد الكتب التي تعرضت لذكر منصور الحلاج فوجدها 1736 طبعت في ثمان لغات ويقول ان العدد قد تجاوز الألفين اليوم (ايلول 1977). ان رجلاً يدافع عنه الغزالي وعبد القادر الكيلاني ونصير الدين الطوسي ويرثيه جمال الدين الرومي والعطار ويشيد بذكره الزهاوي والرصافي ومحمد اقبال وعبد الوهاب البياتي وكبار المفكرين، حريّ بأن تهتم بضريحه الدوائر الرسمية في الدولة واضاف في حينه انه اتفق مع مجموعة من الكتاب والفنانين والشعراء البغداديين مثل محمد غني حكمت وشاكر حسن آل سعيد وقحطان المدفعي رحمهم الله الذين تقدموا بطلب الى مؤسسة السياحة لتجديد الضريح والاهتمام به وفق الصورة التي نفذها بها المهندس سنان، ولكن هذه المؤسسة والمؤسسات الاخرى تجاهلت هذا الطلب. ومات الدكتور الشيبي في ايلول 2006 من دون ان يسمع احد صوته الصادق النبيل. ولم يكن منصور الحلاج هو المهمل الوحيد من بين الشخصيات التي اثرت بتاريخ بغداد بل هناك الفقيه احمد بن حنبل صاحب أحد المذاهب الأربعة وكذلك مرقد الصوفي عمر السهروردي والشيخ جنيد ومرقد البهلول وحكاية المثيرة للجدل، وقبر الشاعر ابو نواس وضريح الامام الغزالي وسواهم الكثير من رجالات الفكر والفلسفة والتصوف الذين عاشوا في بغداد وعرفوا من علمها وادبها وحضارتها. خرج الحلاج يوماً على الناس في جامع المنصور ببغداد صارخاً (ايها الناس إعلموا ان الله أتاح لكم دمي.. فأقتلوني تؤجروا، فليس للمسلمين في الدنيا شغل أهم من قتلي) .