فقهاء الظلام .. القامشلي مدينة العجائب

فقهاء الظلام .. القامشلي مدينة العجائب

مدحت صفوت
قراءة سليم بركات «ورطة»، لكنها جميلة، فلا مفر من الدهشة، ولا فكاك من المتعة، حيثما وليت وجهك شطر كتاباته فثمة ثراء تخييلي يغريك بالجري وراء فك الألغاز وحل المعميات، يتداخل الواقعي بالغرائبي والعجائبي، ويختلط في «المتاهة» الجنون بالعقل، المنطق بالهذيان، الشك باليقين، والواقع بالحلم، لتدرك حينها أنك في قلب المغامرة، ولا سبيل للعودة إذن.

في أولى رواياته «فقهاء الظلام»، عمد بركات «1951-» إلى إنتاج نص مراوغ يصعب تحديد مركزه، أو السيطرة على معانيه المتشظية والمتناثرة، مستخدماً اللغة غير المدجنة التي يكتب بها أشعاره أيضاً. ويصعب مع نص كهذا أن تتلخص في سطور أحداثه وحكاياته المتشعبة، التي تدور في مدينة «القامشلي» السورية (شمالي البلاد)، ويقطنها غالبية من الأكراد وخليط من السريان الآشوريين والعرب والأرمن. ومع ذلك تظل حكاية ولادة «بيكاس» نقطة البدء ووصل الانتهاء.
تنطلق حكاية بيكاس بالأب المُلا بيناف والحديث عن تجارته التي تتعرض للتدهور، وتبدأ تحولات اقتصادية واجتماعية تطرأ على أسرة من أسر المنطقة الشمالية، من خلالها تتضح معالم تاريخ المدينة وطبقاتها السكانية، والظروف الاجتماعية وغيرها. لكن الهدف ليس تبيان ذلك، ولا الوقوف على طوبولوجية القامشلي، وإنما المسعى هو «بيكاس» الذي ينتظر ولادته أبوه، ومع مجيء الابن الذي يعني اسمه «الاسم الوحيد» باللغة الكردية ويكتب بها على النحو «بي كه س»، كذلك مسار حياته «واحداً» وغير متكرر، تبدأ هنا الحكاية العجيبة؛ فالطفل الوليد ينمو بشكل سريع جداً، حتى يبلغ سن الرجولة خلال ساعات قليلة «ينمو في الساعة سنوات، ويعرف عن الأشياء من دون أن يكون قد رآها أو تذوقها من قبل، ويعد دفاتر أبيه دفاتره هو». ولضخامة الحدث وعظمته تنقلب البلدة رأساً على عقب، وتتعدد ردود الفعل على وليد يكبر في الساعة ثلاث سنوات، وتكتمل الغرابةُ بطلب المولود الزواج من البلهاء ابنة عمه «سينم»، والاسم بالأصل مسمى جبل في كردستان، ويطلق الأكراد على أبنائهم أسماء الجبال، كذلك هو نوع من الورود تنمو في جبال كردستان، وتعني «العيون الكبيرة» أيضاً.
تتم مراسم الزواج بين كائن «خرافي» تقريباً وفتاة مألوفة تقريباً أيضا، وبعد ذلك يختفي بيكاس، كأنها إشارة إلى التحول الذي طرأ على حياة آدم الأول بإدراك المتعة الزوجية واكتشاف المعرفة. يبحث الملا بيناف عن حل لورطة اختفاء ابنه فيقرر دفن «مخدة» مدعياً موت «الطفل الخارق»، وأثناء عملية الدفن يفاجأ الملا بوجود بيكاس داخل المقبرة، ويختفيان معاً وهما يتحاوران حول دفتر ورثه بيناف عن أبيه حسين بن كوجري.
الكتابة صعبة المراس، والمهمة عند مؤلف «هياج الأوز» ليست هينة، يقول: «في اليوم الأول لجلوسي إلى ورقة بيضاء كي أكتب الرواية، قررت خوضها بجسارة اليائس من واقع الرواية. رواياتي صعبة، أعرف ذلك. فسيفساء مدروسة، أعرف ذلك. متقاطعة الواقع كلعبة بلا ميثاق. لو رغبت في سهل من السرد، وحيوات مبذولة في الشارع، كنت فحت على نفسي، في الواقع الضحل للرواية العربية المحطمة الخيال والإشكال، سخاء من المديح والترجمة، أنا صعب، وكتابتي اشتغال قدري علي واشتغالي على قدري». ويشيد بركات عوالمه وهو يدرك أن الكمال يعمي، حيث الرهان رهان على كمال الوحشة الأقصى للكينونة، ورهان الحرية على أتمه في سباق المعنى، حسبه أن يكتب هكذا، دون تفسير، في اتجاه نفسه التي تقامر بها الكتابة وأقدارها.
في «فقهاء الظلام» يعمل السارد على استباحة «الحدود الوهمية للرواية الكلاسيكية» وشروطها «القديمة» التي لم يعد بعضها يجلب خيراً أو يبعد شراً، بالتالي انتهى الأمر به إلى اللعب فتبدو صورة المدينة غير مرئية على وجه الدقة، تداخل الواقعي والتاريخي والميتافيزيقي والعجائبي، بات المكان سؤالاً ومفرداته البنوية لا تعتني بصياغة الإجابات، والأسئلة هنا محاولة للإفلات من التصنيف الجاهز، ومن أسر التصورات الإيديولوجية المعلبة، حتى وإن تقاطعت حكاية «بيكاس» مع تاريخ الأكراد أنفسهم، فأبويه «يرقبان فحسب. الأمور تأخذ مجراها خارج أي تدبير» كذا التاريخ الكردي مارق عن أيدي أبنائه وتتحكم فيه قوى إقليمية وخارجية وفقَ مصالحها.
مع بركات ندخل الأجواء، مقتنعين على أن النص -حسبما تقول سارة كوفمان لعبة؛ «فهو ليس عبثاً ولا متنافراً، ولا أحمق، إنه متروك لصدفة لعبة نرد، بذرة متعددة منقسمة دائماً مسبقاً، تشتتها الكتابة في كل اتجاه، كل ضربة نرد تشيد لعبة، تكون في آن واحد منفتحة ومنغلقة، تشيدٌ هو نداءُ للتفكيك، لبناء لعبة جديدة في البراءة».
بعد حادث الاختفاء «الأب ونجله» يروي السارد حكايات أخرى تنتمي في بنائها إلى الغرائبي وفوق الطبيعي، منها حكايات المهربين على الحدود التركية، وحكاية جد «برينا» أم بيكاس الذي يستشعر باتساع المسافات، وحكاية عفدي ساري والأصابع التي تنمو كالفطر، كذلك حكاية تحول ظلال رؤوس أهالي الحي إلى هيئة رؤوس كلاب.
في الرواية التي تدور أحداثها، حسبما نستنتج من بعض الإشارات، خلال الاحتلال الفرنسي، يحتشد السرد بالصور غير المألوفة والحوادث التي تنتمي إلى الأساطير والمرويات الشعبية. واستمراراً للعجائب يصل السرد إلى ولادة بيكاس الثاني بن بيكاس الأول، وإن جاء مغبراً «الهضبة؟ قلبي هناك، بين الجرار المدفونة، وغدي مغبر بما تثيره أقدام الماعز على سفح طوروس الشرقي». مع ولادة بيكاس الثاني تتوالى الانقلابات في حياة أهل المدينة حتى نصل إلى «إنهم يتقدمون، الآن، صوبَ بيكاس الذي ينتظرهم، بخطى أقرب إلى الهرولة التي بدأتها سينم. ولما بلغوه لم يفتح الرجل الغائص في السنين ذراعيه لهم؛ بل استدار ومضى، فتبعوه دون همس إلى الجهة المعلومة بتدبير غير معلوم. وشجرة الزيتون التي لم تكبر قط من وحشتها، استسلمت إلى قدرها النباتي، فلم تعد تفكر في شيء. أما الحشد المضيء، الذي كان يتقدم، صاعداً هضبة الهلالية غرباً، وهضبة الثكنة الفرنسية شرقاً، فقد اكتملت حلقة حصاره على المكان، حتى إن البيوت التي تململت، باحثة عن منفذ، عادت فهدأت، وهي ترى الزقزقات مسدودة على أتمها».
يصبح قدر «بيكاس» قدر مدينة كاملة، انطلاقاً من حدث عائلي بالأساس، ومع التداخل الفني تتضح مسيرة العائلة الكردية، وترزح تحت سياط القسوة والعنف، وتعاني سلسلة من الإخفاقات الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن الصراع القديم الخاص بالهوية الكردية وازدواجية طبيعة الكرد والتأرجح بين قوميتين عربية وكردية، ناهيك عن الاضطهاد السياسي، لتبرز الأسئلة الوجودية. وتطل المصائر المأساوية للشخصيات معادلاً موضوعياً لما مر ببعض الكرد في فترات تاريخية متباينة، ويسقط الجميع في شراك الموت والضياع والجنون، ويختفي الأب المُلا بيناف مع ابنه بيكاس الذي يتحول إلى شبح يسكن الغابات والظلام، وينتهي المسار ب«مجيدو بن عفدي ساري» و«حشمو» إلى الجنون، فيما يدخل «عفدي ساري» في عزلة لا نهائية.
عن الحوار المتمدن