سوسيولوجا الخراب في رواية «انتهازيون... ولكن»  للروائي علاء مشذوب

سوسيولوجا الخراب في رواية «انتهازيون... ولكن» للروائي علاء مشذوب

حيدر جمعة العابدي
«انتهازيون... ولكن»... للكاتب علاء مشذوب الصادرة عن دار سطور لسنة (2016)، رواية تتحدث عن تصدعات وتحولات جرت في العراق قبل وبعد الاحتلال،كما أنها تميط اللثام عن وجوه أدمنت التخفي خلف أقنعة الدين والعادات والتقاليد التي لا خلاص منها إلا عبر كشف ألاعيبها وخبث مضمراتها النسقية التي جعلت من العراق بلداً يئن تحت سطوة الفساد والقمع والإقصاء ومصادرة الحقوق.

تحاول الرواية عبر فضائها السردي فك بعض طلاسم الفساد والتخلف والخراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي حل بالعراق بعد الاحتلال وصولا إلى تجارب الحكم المتعاقبة عليه.ولكونها رواية تعج بالتفاصيل والأحداث، لذا اعتمد الكاتب فيها لغة مباشرة توحي للقارئ بأنه أمام أحداث وتفاصيل حقيقية تكشف زيف وفساد كل من امتهن العمل السياسي، وهو ما يحيلنا إلى القسم الأول من العنوان (انتهازيون) وهي تهمة أصبحت متداولة اجتماعيا بعد الاحتلال تطلق على الطبقة السياسة الفاسدة،ما يعكس واقعية السرد. أما القسم الثاني من العنوان (ولكن) الذي يفيد الاستدراك أي عدم نفي الحكم أو تثبيته يحيلنا على الجانب غير المباشر(المتخيل) لهذه التحولات، ما يسهم في شحن المتن السردي بمعانٍ ودلالات مكثفة تحيل إلى ما وراء الواقع والأحداث عبر فعلي التأويل – التنوير- المتضمن في عناوين الرواية الفرعية لتضعنا داخل زمن دائري مغلق على عوالمه يمثل زمن الحكاية (ستة رمضانات) كل رمضان له طعم ولون مختلف وذلك لفتح نوافذ المضمرات النسقية للظهور مجددًا (رمضان أصفر، رمضان اخضر، رمضان بلون صدر الحمام، رمضان يشبه الآخرين، رمضان بلون العراق الجديد، رمضان ليس الأخير).
تدور أحداث الرواية حول قصة عائلة أدمنت فعل انتهاز الفرص للصعود إلى مراكز القرار السياسي لذلك تحتال على بعضها البعض للوصول لأهدافها بطرق غير قانونية، وبسبب الطمع والجشع وحب التملك الذي تعودت عليه، وجدت في الفراغ السياسي والثقافي الذي شهده العراق بعد الاحتلال مظلة لها للوصول والتبرير لأفعالها بأعذار دينية واجتماعية مقبولة شعبيا، وهو ماجعل من العمل السياسي عبئا واضحا على الحياة العامة وأحد أهم العوامل المساعدة في خراب الواقع الاجتماعي والاقتصادي، والنفسي في عراق ما بعد التغيير،ولتأكيد هذا الدور المائز والخطير كان للبعد السسيو- ديني دور مساهم في هذا الخراب يتمثل في أبطال الرواية التي تتشكل من عائلة واحدة (جبار، حسون،ناهض،فائز،خالد، صباح أختهم،والأب،والأم) فضلا عن شخصيات أخرى تكاد تكون ثانوية (سلوى، توفيق).
التقنية المتبعة والتي يجري عبرها تقديم القصة في الرواية تتشكل وفق أسلوب التهكم والسخرية الممزوجة بلغة نقدية ناقمة على واقع يراوح داخل زمن واحد هو الماضي الذي يتخلل الحاضر ويخنق المستقبل وهو ما يحاول أن يكشف عنه الكاتب من خلال شخصياته التي يمكن لنا تصنيفها على أنها مسطحة لا تتغير صفاتها على طول الرواية -أي ترى الحياة من بعد واحد وعين واحدة، وفق انتهازيتها وطمعها الأبدي. يقوم بناء الرواية على عقدة مركزية هي السبب والنتيجة، التي تتطلب من المؤلف الضمني التعليل والتفسير المستمر لما يجري من أحداث والتي تصل ذروة الصراع فيها إلى أيام الانتخابات، حيث يكون الفائز فيها من يمتلك أكثر من الآخر للوصول إلى أهدافه بغض النظر عن مدى شعبيته وحسن سمعته لذا كان الفوز هو النتيجة المتوقعة دائما،ما أضاع على الكاتب جانب المفاجأة وترك حرية الاستنتاج من قبل القارئ، يتضح ذلك في القسم الثاني من الرواية (رمضان أخضر) عندما قرر جبار الترشيح للانتخابات يصف لنا المشهد على لسان راوٍ عليم ومشارك في صنع الأحداث وتغير مسارها (كانت الوعود التي أغدقها جبار على أهله وإخوته،تسلب لبهم،فقد وعد أرملته الثانية بأن يجعل زوجها (عادل) الذي توفي في حادث سيارة شهيدا وثائرا حتى اغتيل من قبل النظام البعثي، ما يجعلها تحصل على مكاسب كثيرة،... اما حسون فقد وعده، بان يجعله سجينا سياسيا... ووعد خالدا بأن يسحبه معه إلى مجلس المحافظة كي يكون حمايته الشخصية) ص91
المكان هو الآخر مكان حميم أو ما يسمى بالمكان الأليف المنسجم مع قاطنيه أبطال الرواية الذين عاشوه بمن فيهم الكاتب الذي عاش فيه ثم انتقل بخياله ليعيش فيه، لذا فإن تفاصيل هذا المكان حاضرة وبقوة في مسار الأحداث قبل التغيير وبعده لذلك أضحى يشكل للجميع ملاذا نفسيا وإيديولوجيا (مرجعا) تتبلور منه مخططاتهم وصفقاتهم السرية.
هناك تنوع في صيغ الخطاب لكنه تنوع يفتقر لرؤية تتضح فيها أهداف الرواية والكيفية التي عن طريقها تقديم ذلك المتن والتي تتمثل في إدانة لكل أشكال الانتهازية السياسية والاجتماعية، لكن ما نجده هو تمييع هذه الإدانة في تفاصيل فرعية شتت الخطاب إلى أكثر من اتجاه ودلالة ومعنى افتراضي حتى بات الكل متهما وبريئا في نفس الوقت. وفق الكاتب في تقسيم الأحداث المهمة ضمن عناوين فرعية ذات دلالات رمزية وثقافية وتاريخية ودينية (رمضان) فمع كل رمضان هناك واقع مختلف لكننا لم نستشعر ونتلمس هذه الدلالة سوى في بعدها الافتراضي (اللون) وهنا نفرق بين آليتين متكاملتين الأولى ترتبط بقصدية الكاتب في وسم العنوان لتحديد النص والمعنى الحرفي له داخل النص بشكل مباشر (مع كل رمضان هناك تحول في سير الإحداث) أما الثانية التي نبحث عنها فهي العنوان بوصفه علامة تؤسس لدال لا يكتمل إلا بمدلول العنوان غير المباشر (التأويل) الذي يستثير القارئ أثناء قراءته للرواية، لذا كانت العنونة تحيل لشيء ناجز (أضحت الحياة في العراق من كل رمضان مهجورة)ص128 وهو معنى مباشر كون الصوم يتطلب من المسلم الامتناع عن الأكل والشرب لفترة طويلة إضافة لقسوة المناخ في العراق وهو ما يعطل الحياة، لكن غابت الدلالة الشاملة لهذه الرمضانات التي تتجلى في كون الدين هو البديل الشرعي لغياب القانون المدني والدولة المدنية الحديثة القادرة على بسط الحقوق والعامل الأكثر سطوة على الوعي الجمعي للعراقين.

الواقعية النقدية
تشخص الرواية في أغلب مفاصلها أوجه الفساد والخراب السياسي والاجتماعي الذي حل بالعراق، لذا هي تتبنى بعدا واقعيا ونقديا في رصدها لمصادر الخلل والفشل تلك،وبالتالي تحاول عبر أحداثها معالجة هذا الواقع عبر رؤية تتيح للكاتب رفض هذا الواقع عبر التشكيل الفني(السرد) من خلال إعطاء الذات قدرا كبيرا من الأهمية لا يقل عن أهمية المجتمع وذلك لإحداث تفاعل ما بين الداخل(ذات) الكاتب مع الخارج (العالم)لإيجاد حلول فاعلة قادرة على إعادة رسم عراق أفضل وهو ما يضعها ضمن تيار (الواقعية النقدية) الذي يعتمد على نقد الواقع الاجتماعي والثقافي والمشاركة في ايجاد الحلول (إصلاح) لهذا التراجع والتأخر يتضح ذلك في كثرة التفسيرات والتحليلات الواقعية على لسان الراوي المؤلف ومحاولته المتكررة في إعلان التمرد والنقد لهذا الواقع. الرواية بمجملها تحمل هما وطنيا وإنسانيا عاليا تمتاز بجرأة الطرح والنقد لكل من تسبب بهذا الخراب وهو ما يحسب للكاتب كما وتسعى لكسر حالة الصمت الشعبي والجماهيري أمام مصادر الفساد، لذا حاول الكاتب عبر نافذة السرد إعادة قراءة الواقع من منظور سسيو-ثقافي لفضح أسباب الخراب وتحديد مكامن الخلل والأزمة ومناطق تمركزها داخل الثقافة المجتمعية السائدة.