أمام بوابات المنفى، فاضل السلطاني يتساءل: «لماذا ضللتني يا أبي؟»

أمام بوابات المنفى، فاضل السلطاني يتساءل: «لماذا ضللتني يا أبي؟»

تيسير نظمي
«اتونابشتم.. يا أبي الحكيم
هل قلت لي يوماً
إن الآلهة يسكنون على ضفة الفرات؟
إجتزت البحار السبعة:
قتلت وحش الغابة،

حتى وصلت
لكني لم أجد غير الوحوش
على ضفة الفرات.
لماذا ضللتني يا أبي؟»
تصلح القصيدة أعلاه من آخر ديوان «محترقاً بالمياه» للشاعر العراقي فاضل السلطاني لأن تكون مفتاح عالمه الشعري ورؤاه حاملة إرثاً من المعاناة العراقية الصادقة التي لا تخلو من كبير إرث السياب لكن دون إفتعال أي تفاؤلية أيديولوجية ليست إبنة مرحلتها التاريخية ودون أن تندغم تماماً أو تفقد استقلاليتها الشعرية أو الفكرية عن عالم بدر شاكر السياب الشعري وتجربته. ولعل هذا ما جعل لقصائد الديوان بطبعته الأولى عام 2000 عن دار الوراق للنشر في كل من لندن وبيروت لونها الأشد قتامة والأقل ميلودرامية مما يسم تلاوين الشعر العراقي الحديث لدى جيل من الشباب الذين يكتبون الشعر ضمن ثقافة المنفى مع الإحترام لتنوع وتباين وجهات النظر من المسببات الموجبة لخيار المنفى ضمن الخيارات المتعددة أحياناً لدى المثقف العراقي الحتمية منها في شقها السياسي والتي تجبرنا تجربة الشاعر في هذا الديوان على إحترامها . فقد بدأت قصائد فاضل ص7 على النحو التالي:

«صباح الخسارات.. طبت صباحاً
وألت تجمّعني
وتطلقني
على شرفاتك ... طيراً قتيلاً»
غير مفضية – كما جل قصائد الديوان – لغير نهاياتها القاتمة وأقلها قتامة ، الموت ، الذي يكبل تجربة الشاعر وقصائده ويغلف معظم قصائد الديوان بتلك النهاية / الخلاص كشيء وكملاذ حتمي ويسيطر على أجواء عالمه بما لا فكاك منه . يختتم القصيدة التي أوردنا مقطعها الأول قائلاً ص11:

«تفتح بوابة ثم ندخل...
شيئاً فشيئاً سنهدأ ...
ثم ننام
طويلاً ... طويلاً « .
وعلى امتداد صفحاته الـ (110) لا يزيد قارئ فاضل السلطاني سوى اكتئاباً وبأساً أشبه بكآبة الراثين والفلاسفة واليائسين والمتصوفة في منافيهم الإجبارية أو الطوعية وليس شرطاً أن يكون المنفى هنا مكاناً بقدر ما هو زمان ضائع ومفقود.
«لمذا ضللتني يا أبي؟» سؤال في أشد لحظاته صدقاً وطهارة ، وجودي أحياناً وفي أحيان أخرى ميتافيزيقي أبعد من بشارات السياسيين وطموحاتهم وانشغالاتهم . والاقتصاد في البوح ليس سمة شعرية وحسب بل أنه ينال من عناوين الديوان التي جاءت على النحو التالي:

صباح، ذلك الشيء ، يداك، التمثال ، يوماً ما، نداء ، غمرأة، سنة أخرى ، زيارتان ، المنفى في عامه السابع عشر ، نشيد آخر ، مقعد فارغ في أمسية شعرية، شجرة ، أسئلة فائضة، المجنون، النهر أمامي، إيقاع، عندما الوقت كي نموت ، أما – أد- جي، زيارة إلى مسجد عقبة بن نافع ، نزهة في المغرب العربي، أغنية ، باث، فان كوخ، تضليل.
والعناوين التي تبدو طويلة ظاهراً مثل « مقعد فارغ في أمسية شعرية» عملياً استطالة اللغة فيها الأفقية تعبير شعري عن استطالة الفراغ وتأكيد على خلو المقعد رغم طول الأمسية الشعرية تلك بانتظار مستمعة لن تجيء . يقول فاضل، وهذا متن القصيدة كاملاً:

« يمتد ظل القصيدة الطويل
ليفترش مقعداً فارغاً،
هرب من قصيدة قديمة لنازك الملائكة
و دسّ نفسه بين المقاعد في قاعة مليئة
فاضحاً قلقه الذي ينخر خشبه العتيق
بانتظار مستمعة لن تجيء» .
وباختصار، يحيلك فاضل السلطاني في كل قصائد الديوان ، حتى تلك التي عن فان كوخ، إلى الهم العراقي والمنفى دون كبير عناء ويظل بأسرك بداخله دون منحك فرصة أمل بالتطهر أو الخلاص قبل أن تكتب عنه ، عنك ، مما يجعل من فن الكتابة الأداة والمطهر في ىن واحد و لايبقى في ذاكرتك بعد كل ذلك سوى الشجن.