قراءة مقارنة بين مجموعتي «النشيد الناقص» و «محترقا بالمياه»
شوقي بغدادي*
ما كدت أفرغ من قراءة مجموعة» محترقا بالمياة» حتى شعرت بالإغراء، إغراء الدخول في عالم فاضل السلطاني الشعري، والكتابة عنه. كان لا بد إذن من العودة إلى مجموعته السابقة» النشيد الناقص»، إذ لا يكون هذا الدخول ممكناً من دون مرافقة الشاعر منذ بداياته، فهل كانت المجموعة الأخيرة مجردة امتداد يكرر فيه الشاعر نفسه، أم أنه امتداد متطور يغتني بأبعاد جديدة من دون أن يقطع مع ثوابته الأساسية. وبهذا المعنى فإن قراءتنا أقرب إلى المقارنة ، ومن هنا نبدأ.
أول ما نلاحظه هو أن أعواماً ثمانية تفصل بين» النشيد الناقص» و» محترقاً بالمياه»، فقد صدرت الأولى عام 1992، والثانية عام 2000. وهي مدة طويلة نسبياً، وتقدم مؤشرا واضحاً يدل على أن فاضل السلطاني شاعر مقل لأسباب تخصه قد يكون التنأني أو الكسل أو مشاغل الحياةاليومية إحداها او بعضها أو كلها. ومهما كان الحل، فمن الواضح أن خيطاً أساسياً ينتظم بين المجموعتين هو» حياة المنفى» ، مما يشجع على افتراض وجود عالم شعري متكامل بينهما، وأنه عالم متطور كما سوف نلاحظ ليس بسبب العالم الزمني وحده وإنما بسبب تطور الرؤية الفنية ذاتها عند الشاعر.
في المجموعتين إذن يقف فاضل السلطاني ممزقاً بين المنفى والوطن وما يتصل بهذه الدراما من أبعاد نفسية واجتماعية وسياسية، فالعالم واحد هنا وهناك سوى أن عالم المنفى سيغدو واقعاً أكثر استقراراً في مجموعة» محترقاً بالمياه»، كما سيبدو الوطن أكثر نأياَ. ومن هنا ستتطور المضامين ليس من حيث النوع بل من حيث العلاقة وبالتالي تتطور الاشكال الفنية ليس من خلال المهارات اللغوية بل من حيث النضج النفسي الذي يتداخل مع النضج اللغوي، وقبل كل هذا سوف تتطور المشاعر ليس من حيث طبيعتها بل من حيث عمقها وقدرات الشاعر على مراقبتها والسيطرة عليها.
في المضامين
هنا سوف يتكرر الحديث عن حياة المنافي واسترجاع الوطن غير أن العلاقة بهذه الحياة الموزعة والممزقة بينهما سوف تتغير من مرحلة» الصدمة» إلى مرحلة» التعود». فالتماثل يتجلى في معظم الموضوعات تحت مثل هذه العناوين: « الولادة الثانية» و» مقطع من سيرة ذاتية» و» الرحلة» و» النفي»، في مجموعة» النشيد الناقص»، يقابلها في مجموعة» محترقاً بالمياه» مثلاً» صباح» و» يوماً ما» و» المنفى في عامه السابع عشر» و» أما-آر-جي». ولكن لأن العلاقة اختفت مع المنفى وبدأ « التعود» يهدد أوجاع الصدمة حتى ينيم حدتها، فأن موضوعات المنفى سوف تتضاءل في مجموعة» محترقاً بالمياه»، أو تتخفى فلا تتلامح إلا من خلال موضوعات أخرى تبدو مستقلة عنها-ظاهرياً- كما في مقطوعة» فان كوغ»- الرسام الهولندي المشهور بإسلوبه الانطباعي وحياته البوهيمية البائسة- ومقطوعة» تضليل» مثلاً حين نواجه موضوعات جديدة تمتص المنفى لكنها لا تلغيه بل تلونه بأصباغ ذاتية-بالشاعر- أقل عكراً وحدة معاً مما كانت عليه في» النشيد الناقص». ففي مقطوعة» فان كوغ» يبزع المنفى فجأة في العبارات الاخيرة حين نقرأ:» كف عني أنا الغريب القادم من أرض أخرى...» إلى أن يختمها بقوله:» يكفيني كرسيّ الفارغ/ عاهرات بابل/ شمسي المقطوعة العنق منذ ولدت»، مازجاً ببراعة بين الموضوع» صورة فان كوغ» والذات-حالة الشاعر- في أداء مبتكر. وفي مقطوعة» تضليل»، حيث تبدو جملة واحدة فقط مثل» اجتزت بحار العالم السبعة» كي توحي بعالم المنافي الذي بين التجلي والتخفي ينبهنا إلى أن الشاعر وهو يتعود على عذابات المنفى فأنه في الوقت ذاته يغتني بموضوعات جديدة تماماً كما في هذه المقطوعات» يداك» و» التمثال» و» « امرأة». ولكن هيهات أن تنجو الموضوعات الاخرى- وهي الاكثر- من هاجس الحنين إلى الوطن. وهذا ما نعنيه بالتماثل عن طريق التكامل وليس عن طريق التكرار. فالسؤال الذي طرحه الشاعر على نفسه قبل ثماني سنوات في» النشيد الناقص» حين قال في «مقطع من سيرة ذاتية» :» كيف سأحمل تسعاً من السنوات»، سيجيب عليه بعد هذه السنوات في» محترقاً بالمياه» بأسلوب ساخر مختلف تماماً حين يقول في قصيدة « المنفي في عامه السابع عشر»:» ما زال المنفى فتى قاصراً/ فكفي عن إغرائه أيتها المدن الحكيمة».
في الشكل الفني
يبدو التطور هنا خفيا أكثر إذ نكاد نواجه الأساليب ذاتها من حيث استخدام نمط التفعيلة، مع التنويع بينها أو مزجها بمقاطع نثرية في النص الواحد عبر أساليب المونولوج والحوار والاسقاطات التاريخية، واللعب على الاسطورة وغيرها من أساليب. كل هذا يتكرر في مجموعة» محترقاَ بالمياه»، غير أن النضج النفسي والثقافي سوف يحرر هذه الأساليب من إطار الخطابة والمناجاة نسبياً كي يغلب عليها الاسلوب المشهدي التصويري والذي يبدو حيادياَ مطمراً تحيزه العاطفي خلف صور المشهد. ففي كل مقطوعة تقريباً نشهد مشهداً صالحاً للتصوير كما في قصيدة» صباح» عبر مشاهد المدينة الاوروبية الضاجة بالبشر، وفي قصيدة» التمثال» عبر تفاصيلة الحجرية، وقصيدة « امرأة» عبر الغرفة الباردة، وهكذا. .. إضافة إلى الميل الواضح نحو التكثيف في استخدام اللغة، إذ تبدو مجموعة» محترقاً بالمياه» أحفل بالقصائد القصيرة جدأً كأنها ومضات، بل وحتى حين يطيل كما في قصيدة» أما-أر-جي» فإن الشاعر سيميل إلى التكثيف عبر الحوار ممزوجاً بالمونولوج في جمل خاطفة. وهذا شاهد لا على التعيين من مقطوعة « إيقاع»-ص 49-:» من الصباح للمساء/ يهبطون/ للاسفل العظيم/ ويصعدون/ للأسفل العظيم/ أصيح/ تمهلوا/ تزودوا ببعض خبز ونبيذ/ لكنهم يزدحمون فوق الجسر/أقدام وأذرع تنوس/ تهبط ثم تصعد/ فلم أعد أرى سوى الرؤوس/ ترنو إلي...تدعوني/ فأسسرع الخطو بلا خبز أو نبيذ/ للطريق».هذا الإسلوب المشهدي المركب من لقطات خاطفة في جمل قصيرة جدا... وباختصار هذه الكثافة المعبرة نكاد لا نجد لها شبيهاً في مجموعة» النشيد الناقص» إلا نادراً... فهل هو إيقاع العصر، عصر السرعة في المدن الكبرى المزدحمة؟ أم هو إيقاع الزمن الذي يلتهم عمر الشاعر؟ أيا كان فلا شك أن قصيدة» إيقاع» هي خير تجسيد لهذا التطور في استخدام اللغة والمجاز.
في الجو النفسي العاطفي
هنا أيضاً سنلاحظ امتداداً في المشاعر بين المجموعتين ولكنه متغير ومتطور. فإذا كان الامتداد يعني تكرار العزف على أوتار الحزن والوحشة إلا أن الاسطوانة الجديدة للجو العاطفي سوف تشعرنا بلا اصطناع أن حدة الانفعال تغدو أكثر استجابة للرقابة والسيطرة، إذ تتراجع الصرخات وتخفت نداءات الاستغاثة وضربات الهجوم العنيف على الخصوم بعد أن روضها الزمن ووقار العمر والحفر العميق في التجارب، كي تتحول إلى أصداء عميقة الأغوار لا تسمح بصعود رغوة الغليان إلى السطح، ولا بتدفق الحمم المفتوح كما في» النشيد الناقص»، هذه السمات التي تميز عادة مرحلة الفتوة والشباب، وهو الجو النفسي الغالب في « النشيد الناقص» . فإذا قرأنا فيها مثل هذه المقاطع: يا أهل بابل إني توكلت/ لن أشتري ثمنا/ لن أجيء بالبينات/ ولا الكتب المنزلات/ ولا الصحف المرسلات/ وليس عندي بشرى»، إلى أن يقول» والطغاة / يلدون طغاة»- من قصيدة» الولادة الثانية»-، أو كما في قوله من «مقطع من سيرة ذاتية»: « وتضيق المنافي/ كيف سأحمل تسعاً من السنوات/ كم رأيت/ كم سيبعدني البعد عني؟»، حيث تنفجر الجمل والتراكيب المتدافعة بمشاعرها الساخنة كحمم البراكين، في حين لا نواجه في» محترقاً بالمياه» إسلوباً من هذا النوع الحماسي جداً، بل نقرأ إسلوباً أكثر رصانة، وبالتالي أعمق شجناً كما في قوله:» يوماً ما/ سأغادر هذا المنفى للبيت/
يوماً ما/ سأغادر هذا المنفى للموت»، أو كما في « شجرة»:» أذكر الآن في الأربعين/ شجرة/ جنب بيتي تماما»، أو كما في «أغنية»:» طوال الليل/ ظلت الأغنية تتشبث بالجدران...»، وغيرها، حيث يبدو الحزن محزناً أكثر ذلك لأنه صار أهدأ وأعمق، وحيث تتسلل أحياناً نكهة السخرية المريرة التي تميز تجارب العمر الذي يوغل في الزمن، هذه النكهة التي تغيب تماما في» النشيد الناقص»، كي تتلامح في» محترقاً بالمياه» هنا وهناك معلنة عن امتياز إضافي للجو العاطفي كمرحلة يسيطر فيها الشاعر على منابعه ومجاريه أكثر مما كان عليه قبل ثماني سنوات. وإلا ماذا تعني هذه النكهة الساخرة في قوله وهو يحاور الشاعر بدر شاكر السياب:» وقال لي؟ أنت أيها المنافق يا أخي/ ألم تخضر جثتك بعد؟». فما في اخضرار الجثة سوى السخرية بالحياة نفسها حين تطول بلا جدوى؟ أو كما في قوله مخاطباً المدن الكبرى: فكفي عن إغرائه أيتها المدن الحكيمة!». وما هي من الحكمة في شىء؟.
وأخيرا...
هذه المقارنة بين البدايات والنهايات عند فاضل السلطاني تمدنا بالعناصر الأولى للدراسة المعمقة الطويلة النفس التي لا ندعي القيام بها في هذه الأسطر.
* نشرت المقالة في جريدة « تشرين السورية» بتاريخ 26/12/ 2002.