خالد الحلِّي
ملحمة "جلجامش” ليست أطول وأجمل نص أدبي وصلنا من حضارات الشرق القديمة فحسب، بل يرجح أن تكون أقدم ملحمة شعرية في العالم، إذ أنها سبقت بثمانية قرون ملحمتي "الإلياذة و"الأوديسة" لليوناني هوميروس اللتين نظمتا في القرن العاشر قبل الميلاد كما تؤكد معظم المصادر. وقد شاعت ملحمة "جلجامش” عقب تأليفها حوالي عام 1800 قبل الميلاد في جميع أرجاء المنطقة، وترجمت إلى عدد من اللغات المتداولة في ذلك الوقت،
وظل الاهتمام بها مستمراً منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم رغم مرور ما يقارب الأربعة آلاف سنة على ظهورها. وهي اليوم موضع اهتمام وتقدير على صعيد عالمي، و قد صدرت تراجم عديدة لها بمعظم اللغات الحية. وتلخص الملحمة حياة وأعمال جلجامش ملك مدينة أور السومرية وسعيه إلى الخلود، وتنبض تفاصيلها بتأملات في الإنسان ومسألة الحياة والموت ومعنى الوجود.
هذه الملحمة كانت محور كتاب أصدره الباحث والمفكر السوري فراس السواح تحت عنوان "جلجامش ملحمة الرافدين الخالدة"، وقد جاء هذا الكتاب تطويراً لمؤلفه "كنوز الأعماق-قراءة في ملحمة جلجامش"، و عمل فيه على إغناء المقدمة التاريخية التي تضع النص في إطاره الزمني والثقافي، وتوَسَع في الدراسة الفنية والجمالية، وفي مسائل النقد النصي التي تلقي ضوءاً على تطور النص والتغيرات التي طرأت عليه عبر حياته الطويلة. كما زود هذا الكتاب بملحق يحتوي على إعداد درامي للملحمة، وضعه تحت تصرف المسرحيين العرب وقدمه لجمهور القراء، كي يستمتعوا بقراءة حرة للنص تعفيهم من القفز فوق الفراغات والتشوهات الموجودة في الألواح الفخارية الأصلية، والتي تنعكس في أية ترجمة أمينة للملحمة.
لقد أطل علينا هذا الكتاب بـ 3 6 6 صفحة من القطع الكبير، متضمناً بالإضافة إلى الإعداد الدرامي للملحمة ثمانية فصول تضمن اثنان منها الملحمة الأكدية، والنص البابلي القديم، والنص البابلي الوسيط، والنص المتأخر/الأساسي، والنص الكامل للملحمة البابلية.
إن ملحمة "جلجامش” نص شعري طويل مكتوب بالأكدية البابلية، وموزع على اثني عشر لوحاً فخاريا. وقد وُجدت الألواح في مكتبة آشور بانيبال تحت أنقاض القصر الملكي بالعاصمة نينوى. ويذكر المؤلف أن نص نينوى هذا يدعى بالنص الأساسي أو المعياري، لأنه "الشكل الأدبي الأخير الذي اتخذته الملحمة بعد فترة طويلة من التطور والتغير دامت قرابة ألف عام. ويتميز هذا النص الأساسي عن بقية النصوص السابقة عليه، بأن ألواحه الفخارية خرجت سليمة نسبياً، وفي حالة تسمح بقراءة متسلسلة رغم الكسور الحاصلة في بعضها والتشوهات التي اعتورت الكثير من سطورها. ونص نينوى هو سليل نص أقدم منه بكثير دوّن خلال العصر البابلي القديم، واستلهم كاتبه عدداً من النصوص الأدبية والأسطورية السومرية التي تدور حول ملحمة جلجامش، وبعض الأخبار المتفرقة المتداولة عنه، وحاك من ذلك كله، وبطريقة مبدعة خلاقة، نصه الذي ندعوه اليوم بالنص البابلي القديم".
يؤكد السواح وهو يتحدث عن خلود ملحمة جلجامش كعمل فني يتخطى حواجز الزمان و المكان أنها رغم مرور أربعة آلاف عام على تدوين نصها الأكدي، مازالت مقروءة من قبل "البشر من شتى الثقافات في جهات العالم الأربع اليوم، وكأنها كتبت خاتمة الأمس. نمشي مع بطلها في تجواله كأنه كلّ منا، يحدثنا ونحدثه كأن واحدنا يمشي وظله، أو كأنما يناجي نفسه. فجلجامش لم يعد ذلك الملك القديم الذي عاش في مدينة أوروك السومرية في زمن ما من تلك الأزمان القديمة السابقة للميلاد، وقصته لم تعد قصة فرد معين عاش دورة حياة خاصة به، بمحدوديتها ومشاغلها الذاتية، بل لقد صار رمزاً من رموز المشكل الإنساني، وصارت قصته حواراً مفتوحاً حول الشرط الإنساني".
لدى حديثه عن معنى الملحمة ورسالتها الأخلاقية والفلسفية يذهب السواح إلى أن جلجامش الفرد لم يؤسس لفردية فوضوية خارجة عن الكل، ساعية وراء أهدافها وغاياتها المستقلة والمتضاربة مع غايات الجماعة والبحث الإنساني المشترك، بل لقد جعل من نفسه النموذج الذي يمكن لأية شخصية في الجماعة أن تتشكل وفقه وتنسج على منواله، ليغدو المجتمع فريقاً من الأحرار لا حيواناً بآلاف العيون. وهو بتطوره الشخصي من الفردية الفوضوية إلى الفردية الجماعية المنظمة، ومن الاهتمام بالمصير الخاص إلى العناية بالمصير الإنساني، إنما يحدد المسار الذي يحرر الأفراد ويربطهم في آن معاً، في مسيرة الإنسانية الكبرى نحو معرفة الذات ومعرفة الكون.
وفي هذا الإطار يرى أن الأسطر الأولى من الملحمة، التي تتحدث عن مآثر جلجامش وأعماله، لا تتطرق إلى بحثه عن الخلود، بل تركز على الحكمة التي اكتسبها بكدحه الطويل المرير. وهي بذلك تستبق النهاية التي توصل إليها، وعودته سالماً غانماً راضياً، يحمل كنزاً من المعرفة والحكمة التي هي هدف الإنسان في هذه الحياة ومصدر سعادته. لقد فشل جلجامش في الحصول على عشبة الخلود، ولكنه توصل إلى معرفة معنى الحياة وغايتها. ذلك المعنى الذي يكمن في : الحرية مع الآخرين ومن أجل الجميع. في الفعل الحر الخلاق، لا من أجل خلود الذكر الفردي، بل من أجل أهداف إنسانية شاملة. في استنفاذ حدود الممكن وإبقاء الأبواب مفتوحة على غير الممكن، لأن الممكن وغير الممكن نسبيان في كل زمان وأوان. وأخيراً في الحكمة والمعرفة اللتين نطرق بهما باب المستحيلات.
ويتطرق المؤلف إلى جانب مهم هو أثر الملحمة في ثقافات العالم القديم، فيتحدث عن تأثير الملحمة على كثير من الكتب والأساطير هنا وهناك، مؤكداً أن جلجامش تعلم من جملة ما تعلم، وعلمنا، أن معنى الحياة قائم في المعرفة والحكمة التي نكتسبها ونسلمها لمن يرث الأرض بعدنا، وفي الفعل الحضاري الخلاق. وهاهي حياة الملحمة من بعده تثبت أنه كان على حق. فإضافة إلى ذيوع الملحمة بنصها في جميع أرجاء الشرق القديم، فإن أفكارها قد ساهمت بنصيب، يليق بها، في الحياة الفكرية والروحية لحضارة المنطقة والحضارات المجاورة، وأخذت مكانها في حضارة الكون القائمة. ألسنا جلوساً الآن، في أوائل القرن الواحد والعشرين الميلادي نقرأ جلجامش ونحاوره، كأن ألوف السنين الماضيات قد ذابت ؟
لقد احتل الإعداد الدرامي للملحمة الذي وضعه المؤلف خمساً وثمانين صفحة من صفحات الكتاب، وهو لا يقدم أية رؤية خاصة به –كما يؤكد ذلك-، و لا يحتوي على أية إسقاطات فكرية أو فلسفية معاصرة، إنه النص القديم نفسه بجميع أفكاره وشخصياته وتسلسل أحداثه. ورغم أنه لجأ إلى إضافة عدد قليل من المشاهد القصيرة غير الموجودة في النص الأصلي، لضرورات فنية من جهة ولتوسيع الفضاء المحيط بالحدث من جهة أخرى، إلا أنه بقي أميناً لخطاب الملحمة وحوارها ودقائق أحداثها. لقد أراد لها أن تخرج في صورة بصرية درامية تعكس أجواءها الأصيلة دون تدخل أو توجيه أو تفسير مقحم. ولتحقيق هذه الغاية على الوجه المرجو، اعتمد لغة ذات جرس شعري يستحضر الجو الملحمي للنص الأصلي، يبعد القارئ أو المشاهد عن واقع اليوم ليضعه فيما يشبه عالم الماضي. كما استخدم جملاً قصيرة وتعابير تؤدي المعنى بإيجاز وقوة ومباشرة، وتجنب في صياغتها وانتقائها أسلوب الخطاب العربي الحديث وأسلوب الخطاب العربي الكلاسيكي في الوقت نفسه، في محاولة لخلق لغة حيادية يمكن لها أن تحمل مفاهيم النص وصوره وطريقته في التعبير عن حكمته وأفكاره.
سبق لهذه المادة ان نشرت
في صحيفة المدى 2006