الطاهر وحكاية مدام بوفاري

الطاهر وحكاية مدام بوفاري

علي حسين
ليس امتع من قراءة اعمال العلامة علي جواد الطاهر غير الجلوس اليه والاستماع الى احاديثه ، كان موعده لزيارة المكتبة التي أعمل فيها مساء كل اربعاء، يدخل المكتبة باناقته التي تنم عن روحه الشبابية وابتسامته التي لاتفارقه وسؤاله الدائم : هل وصلت كتب جديدة بالفرنسية؟ كان الراحل الطاهر قد حصل على الدكتوراه من السوربون ،

وعلى مدرجات الجامعة ظل يحتفظ بنصيحة استاذه محمد مهدي البصير في أن يغترف أولاً من تجربة الغرب في الأدب واللغة، ولهذا نراه يكتب :" إني لم أطمح من الدراسة في فرنسا إلا من أجل الإلمام بادب آخر عالمي " .وذات يوم تجرأت وانا اشاهده منهمكاً في قراءة عناوين الكتب لأسأله عن رأيه بالادب الفرنسي ، إلتفت إلي وعلى وجهه إبتسامته المعهودة : هذا سؤال طويل وعريض، هل تعرف إن عمر الادب الفرنسي من عمر الحضارة الاوروبية. صَمتُ ولم أكن أدري بماذا أُجيب، وعندما شاهد حيرتي اقترب مني وهو يقول : عندما عشت في باريس خمسة أعوام وكم شهر ، كنت مثلك أعتقد أنني أستطيع أن أتعرف على معظم ما كتبه ادباء فرنسا، لكنني عدت وأنا لم اقرأ سوى عشرات الكتب.
قلت له : أنا قرأت فلوبير وستندال وبلزاك وموبسان ورحت أعدد،
قاطعني قائلا : هل قرأت حقاً فلوبير؟
قلت : نعم حكاية الزوجة الخائنة؟
وابتسم عميد النقد العراقي : الزوجة الخائنة، تعني مدام بوفاري
قلت وأنا اعتقد إنني استطعت أن أثير اهتمام الناقد الكبير : نعم هي مدام بوفاري .
وراح الطاهر يشرح لي ما فات على هاوي قراة مثلي : لقد ولد فلوبير شغوفاً بالادب، لكنه يمتاز عن معظم أدباء عصره بانه كان دقيق الملاحظة، دائما ما ينصح الأدباء بان يروا جيداً، وأن ينظروا الى كل ما يريدون التعبير عنه نظرة طويلة وبانتباه ليكتشفوا فيها صورة جديدة لم يروها من قبل ولم يكتب عنها أحد "، بعدها يكمل الطاهر : هل تدري أن فلوبير عندما أراد ان ينهي حياة مدام بوفاري بالسم، أخذ يقرأ عن السموم وتأثيراتها، وكان يذهب كل صباح الى أحد المختبرات ليسمع حديثاً عن أخطر أنواع السموم، وكان يدوّن العديد من الملاحظات، وكان أحياناً يمضي يوماً او يومين في كتابة سطر واحد ولهذا أمضى في كتابة مدام بوفاري أكثر من ستة أعوام ".
ثم أخبرني الطاهر انه ما من رواية أثارت جدلاً مثلما أثارته رواية مدام بوفاري التي كتبت عنها عشرات المؤلفات ، وكان أبرزها حسب قول الطاهر ما كتبه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في كتاب تجاوزت صفحاته الـ 3000 صفحة ".
ويضيف الطاهر : يخبرنا سارتر في كتابه كبير الحجم هذا ، أن هناك عددا من الأسباب دفعته الى أن يكتب عن فلوبير، أول هذه الاسباب إن قلة فقط من الشخصيات في تاريخ الأدب، تركت وراءها كل هذا الكم الذي تركه فلوبير من معلومات وتفسيرات تتعلق بأدبه.
أتأمل مؤلفات علي جواد الطاهر والتي تنوزعت بين النقد وتحقيق التراث والسيرة والترجمة ، وأسأل: هل كان يريد هذا الناقد والمترجم والباحث عن جذور الثقافة العراقية الوطنية أن يقول لنا انه لايزال يحتفظ بنصيحة طه حسين التي قرأها في احدى كتبه ": عليك بالتبصر في المعرفة والدقة في البحث" ؟، هل كان يريد أن يدلنا على نفسه وهو يعيد على اسماع طلبته الحكمة الجميلة التي نطق بها ابراهيم بن سيار النظام استاذ الجاحظ حين قال: العلم لا يعطيك بعضه الا اذا اعطيته كلك؟ فنراه يمضي في دروب الثقافة والمعرفة يسعى الى اشياء من هنا ، وهناك ومنها بعض دروس في التواضع سطرها لنا في كتابه الممتع " اساتذتي " ، وفيه يقدم التحية لاساتذة تتلمذ على ايديهم وعرفهم عن قرب مثل مصطفى جواد ، والعلامة طه الراوي ، ومحمد مهدي البصير ، والقسم الاخر تعلم منهم من خلال كتبهم وكان ابرزهم طه حسين الذي سيكتب عنه :" وأول ما يتبادر الى ذهنك انك تلميذ لطه حسين، وعليك واجب الوفاء، لم تكن تلميذا له في صف او مدرسة او اي مكان محدد بسياج، ولكنك كنت تلميذا لأستاذ علمك معنى ان يكون الأديب مبدعا (…) وقد تفوق تلميذه من هذا النوع تلمذة من ذاك النوع" .
وكان التلميذ – علي جواد الطاهر – قد قرر ان يحمل بعضا من خصال طه حسين وحبه للمعرفة ثم الشقاء في سبيل بث شغف الكتاب عند طلبته ؟ وأي عام هو العام الذي مر ولم يصدر فيه كتاب للطاهر العراقي الروح، العربي الهوى والانتماء؟ .
يكتب فوكو:"إحدى مزايا المفكر هي أنه لا خيار له سوى المزيد من المعرفة"