أشهر اضراب عمالي في تاريخ العراق الحديث..رسوم البلديات سنة 1931 واضراب اصحاب المهن والصنائع

أشهر اضراب عمالي في تاريخ العراق الحديث..رسوم البلديات سنة 1931 واضراب اصحاب المهن والصنائع

د . زينة شاكر الميالي
عانت الفئات الحرفية منذ بداية قيام الدولة العراقية في العشرينيات من الضرائب والرسوم المفروضة عليها وعبّرت عن استيائها بطرق كثيرة منها الإضراب عن العمل، لكن هذه الاحتجاجات أخذت طابعاً جدياً في سنوات الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929 تمثّلت بالإضرابات والاحتجاجات ورفع العرائض إلى البرلمان والوزارات، مما يعني تحول مسألة الضرائب والرسوم إلى محرك قوي لفئات اجتماعية مختلفة من سكان المدن.

عندما تولى نوري السعيد رئاسة الوزارة في الثالث والعشرين من آذار عام 1930 أقر لائحة قانونية جديدة لرسوم البلديات، وقد أقرّ البرلمان العراقي هذه اللائحة في العاشر من مايس عام 1931 وتوجت بالإرادة الملكية في الثاني من حزيران عام 1931 فقوبل هذا القانون بسخط عام من الطبقة العاملة، كما قابلته جماهير الشعب والأحزاب السياسية بموجة من الاستنكار، وذلك عن طريق عقد الاجتماعات والقيام بالمظاهرات ورفع الاحتجاجات، إذ لم يكن الوضع الاقتصادي يسمح بفرض رسوم جديدة على أصحاب الحرف التي تضمنها القانون الجديد، هذه الأحداث أصبحت الشغل الشاغل لدائرة التحقيقات الجنائية التي أخذت ترفع تقارير خاصة عن عمل جمعية أصحاب الصنائع التي تقود الاحتجاجات و في مقدمتهم محمد صالح القزاز، فذكرت في تقرير لها انه في العاشر من مايس عام 1931م عقد اجتماع في مركز جمعية أصحاب الصنائع حضره نحو أربعمائة شخص من دون ذكر أسمائهم، وقد افتتح الاجتماع محمد صالح القزاز بقوله "إنّ الحكومة منعتهم من الاجتماع في الرويال سينما كما كانت غايتهم وقال بأنه قد أصبح الاضطهاد درجة لاتطاق وختم خطابه طالباً من المؤسسات الأخرى مساندة الجمعية عند قيامها بإضراب عام"، كما القى كل من مكي الاشتري وسليم زلوف وعبد الستار عبد الجبار وسلمان الروزخين خطباً حماسية دعوا من خلالها إلى الثورة ومحاربة الاضطهاد الحالي، وذكر تقرير التحقيقات أنه منذ ثلاثة أو أربعة أيام أخذت جمعية أصحاب الصنائع تستغل الاستياء الذي أحدثه قانون رسوم البلديات، حيث نظمت مضابط احتجاجية لغرض الاشتراك في الإضراب العام من محمد صالح القزاز ومكي الأشتري وغيرهما.
في الوقت ذاته أخذت إدارة التحقيقات المركزية تراقب عمل الأحزاب التي استغلت هذه الأحداث لمنفعتها كون أنّ المشاغبات الدائرة حول قانون البلديات قد أتت ملائمة إلى رغبات حزب الإخاء الوطني والحزب الوطني، إذ أخذت بإنعاش روح الاهتمام فيما بينهما، وكانت التحقيقات تقوم بدس مجندين سريين من شتى أرباب العمل للولوج داخل هذه الاجتماعات ونقل الأحداث إليها بصورة تقارير خاصة ترفع بعدها إلى مدير الشرطة العام والى المعتمد السياسي البريطاني ووزير الداخلية ودائرة استخبارات القوات الجوية لغرض الاطلاع عليها واتخاذ الإجراءات اللازمة. وأكدت مديرية التحقيقات ان هذه الاجتماعات الحزبية أخذت تمتد إلى بقية الالوية، ففي الحلة عقد اجتماع لحزب الاخاء الوطني في الثامن والعشرين من حزيران حضره حوالي مئتي شخص منددين بالوزارة والقانون وحثّوا الحاضرين على الاحتجاج علناً أمام المتصرف في اليوم التالي، كما أخذوا بالتجوال في الأسواق طالبين من الأهالي غلق حوانيتهم والذهاب إلى مقر الحزب لغرض التجمع والاحتجاج أمام السراي.
كما عقدت جمعية أصحاب الصنائع وبإيعاز من حزبي الاخاء الوطني والوطني العراقي اجتماعاً في مقر حزب الاخاء الوطني بتاريخ الثالث من تموز عام 1931 تقرر فيه أن يبدأ الإضراب في الخامس من الشهر نفسه وبعلم دائرة التحقيقات الجنائية وبإيعاز من الأحزاب المعارضة للسلطة مؤكدين أن الإضراب سيستمر لمدة أربعة أو خمسة أيام، لحين تنفيذ مطاليبهم، كما وأشارت دائرة التحقيقات الجنائية في تقاريرها إلى خطب الشخصيات المشبوهة وهم كل من رشيد عالي الكيلاني ,وجعفر أبو التمن, وياسين الهاشمي الذين أشاروا إلى الأضرار الناتجة عن دخول العراق عصبة الأمم وضغوط الحكومة ضد معارضيها السياسيين، مما يعني دعم زعماء الحركة الوطنية المعارضة للإضراب.تضمنت مطاليبهم إلغاء قانون رسوم البلديات الجديد، النظر في قضية العمال العاطلين، إلغاء قانون ضريبة الدخل الموضوع عام 1927، إطلاق سراح كافة الموقوفين، الاحتجاج على قسوة الشرطة وعلى منع عقد الاجتماعات في المعاهد الدينية والأحزاب.
في صباح الخامس من تموز عام 1931 أعلن عن الإضراب العام بمساعدة حزبي الاخاء الوطني والوطني العراقي، وفي السادس من تموز اتسع الإضراب الى عدة مناطق من بغداد منها باب الشيخ، والتجمع بالقرب من برج الساعة في السراي في الوقت الذي طلب ياسين الهاشمي منهم المداومة على الإضراب، في الوقت ذاته رفع كل من جعفر أبو التمن وعلي جودت الأيوبي جملة من الاحتجاجات على أعمال الحكومة الشديدة في التعامل مع المنتمين لهذين الحزبين وعلى قسوة الشرطة مع المضربين رفعت إلى نائب الملك علي، من بينها قيام دائرة التحقيقات بالتعاون مع الشرطة العامة باستخدام رجالها للقيام بإثارة الخوف والرعب في صفوف المنتسبين للحزبين وغير المنتسبين لا سيما الداخلين إلى بناية الحزبين.
وعلى الرغم من اجراءات الحكومة فقد استمر الإضراب مما دفعها إلى غلق جمعية أصحاب الصنائع في بغداد وأمرت بتوقيف محمد صالح القزاز ورفاقه، وفيما كان الإضراب في بغداد يسير إلى نهايته إذا به ينتقل إلى بعض المدن العراقية كالسماوة والناصرية والديوانية وسوق الشيوخ والبصرة التي خرجت عن سيطرة الحكومة لمدة يومين ونصف مساندة للإضراب، ويعدّ هذا الإضراب الذي استمر لمدة أربعة عشر يوماً، ضربة نوعية إذ استخدم سلاح الضغط الاقتصادي لتحقيق مطالب الشعب. وعلى الرغم من انتهائه إلا ان السلطة وبالتعاون مع الشرطة ودائرة التحقيقات الجنائية مارست مختلف الوسائل للقضاء على هذه الحركة منها وسيلة شق صفوف العمال، إذ أوعزت وبالتعاون مع دائرة التحقيقات إلى شخص اسمه سليم المصري بتشكيل جمعية تضم عمال الميكانيك الذين يشكلون معظم أعضاء جمعية أصحاب الصنائع وأخذت تغري العامل في محاولة لشق الحركة وعندما أخفقت في ذلك لجأت السلطة إلى وسيلة أخرى وهي دس بعض العملاء ورجال التحقيقات الجنائية ممن انتموا للجمعية وهم غير معروفين لها سوى امتهانهم الميكانيك، وفي أثناء انتخابات الجمعية ادعوا ان القزاز قد زوّر الانتخابات وذلك حينما عرفوا انهم لم يفوزوا وفشلوا كما هجموا على صندوق الانتخابات وكسروه ومزّقوا الأوراق متهمين القزاز بالتزوير، فجاءت الشرطة وألقت القبض على القزاز وعدد من رفاقه، إذ كان غرض الحكومة من ذلك اتهام الجمعية بالتصرف غير الشرعي، مما أدى إلى إغلاقها وهذا الأمر لايتم إلا بمساعدة دائرة التحقيقات الجنائية التي أصبحت العمود الفقري لدائرة الشرطة، وبالتالي فإن مرحلة الثلاثينات قد أوجدت بدايات النضال الطبقي والتناقضات بين العمال والبرجوازية.

عن رسالة ( التحقيقات الجنائية في العراق ... )