توماس كـون.. الرجل الذي غيّر نظرة العالَم للعِلم

توماس كـون.. الرجل الذي غيّر نظرة العالَم للعِلم

يوسف العتيبي
قبل اكثر من خمسين عاماً , قامت دار النشر التابعة لجامعة “شيكاجو” بطباعة أحد أكثر الكتب تأثيراً في القرن العشرين.
كثير من عامّة الناس –إن لم يكن أغلبهم – لم يسمعوا بالمؤلف “توماس كـون” ولا بكتابه “بُنية الثورات العلمية” ولكنّ أفكار هذا المؤلف أثّرت في تفكيرهم غالباً. هذا التأثير يتمثّل في استخدامهم أو سماعهم لكلمة (تحوّل البارادايم) أو (تحوّل النسق الفكري)

وهذا المصطلح من أكثر المصطلحات التي يتم استخدامها ويساء فهمها أيضاً عند الحديث عن التطورات الفكرية. ومما يؤكّد ذلك أنّك عندما تبحث عن هذا المصطلح في محرك البحث “جوجل” ستظهر لك عشرة ملايين نتيجة. كما أن البحث في الموقع التجاري الشهير “أمازون“ يُظهِر ثمانية عشر ألفاً وثلاثمائة كتاب تحوي هذا المصطلح. بالإضافة إلى أنّ كتاب “بنية الثورات العلمية” أكثر الكتب الأكاديمية التي يتم الاقتباس منها في أبحاث وكتب أخرى. فهذا الكتاب وما يحويه من أفكار يُعَد من أسرع الكتب انتشاراً على الإطلاق.

المقياس الحقيقي لأهمية “كـون” لا يكمن في مدى انتشار إحدى أفكاره ومفاهيمه المُعدِية ولكن أهمّيته تكمن في أنه استطاع لوحده من تغيير طريقة تفكيرنا حول الوسيلة المنظّمة الوحيدة التي استخدمتها البشرية لفهم العالَم. قبل “كـون” كانت نظرتنا للعلم تحت تأثير أفكار فلسفية تتمحور حول الطريقة التي من المفترض أن تحدّد خطوات الممارسة العلمية “المنهج العلمي” بالإضافة إلى أن التقدم العلمي سابقاً كان يُعَرّف بـ ” إضافة حقائق جديدة لحزمة الحقائق القديمة أو زيادة دقة النظريات العلمية, و–في بعض الحالات النادرة – تصحيح الأخطاء السابقة” كما هو وصف موسوعة ستانفورد الفلسفية. وبعبارة أخرى, كنّا قبل “كـون” ننظر للعلم حسب نظرية “whig” التاريخية التي تفسّر التاريخ العلمي بأنّه عبارة عن السعي التدريجي الطويل للباحثين والمنظّرين وأصحاب التجارب العلمية نحو الحقيقة أو على الأقل نحو فهم أفضل للعالم الذي نعيش فيه.
تفسير “كـون” للتطور العلمي يختلف جذرياً عن تفسير “whig”. هذا التفسير الشائع يرى التقدم العلمي عبارة عن نمو تدريجي منتظم بينما تفسير “كـون“يرى نموّاً غير منتظم – مراحل متعاقبة من التقدم العادي والتقدم الثوري حيث مجموعة من الباحثين في مجالات معيّنة يصطدمون بـ أوقات عصيبة من الشك والقلق والحيرة. هذه المراحل الثورية – على سبيل المثال التحوّل من ميكانيكا نيوتن إلى ميكانيكا الكم– تتزامن مع تقدّمات فكرية ومفاهيميّة هائلة تضع الأساس للتطورات اللاحقة وهكذا تستمر. حقيقة أن هذا التفسير لا يبدو مذهلاً لنا الآن في وقتنا الحالي هو – بوجهٍ ما– المقياس الحقيقي لنجاح“كـون“. ولكن في عام 1962 أثار هذا التفسير بكل جوانبه جدلاً واسعاً بسبب التحدّيات التي واجهها بصفته تفسيراً يقف في وجه المسلّمات الفلسفية القوية التي كانت تفسّر طبيعة العلم ومنهجه.
والذي زاد الأمر سوءاً لفلاسفة العلم هو أن “كـون” نفسه كان فيزيائياّ ولم يكن فيلسوفاً. وُلِدَ “كـون” عام 1922 في مدينة “سينسيناتي” التابعة لولاية أوهايو ودرس الفيزياء في هارفارد حيث تخرّج بمرتبة الشرف عام 1943. بعد ذلك اضطرّ للعمل في وحدة الرادار أثناء الحرب. وبعد الحرب عاد“كـون” إلى هارفارد لتحضير رسالة الدكتوراة في الفيزياء والتي حصل عليها عام 1949. تم اختياره بعد ذلك للانضمام للمجموعة التي تضم نخبة أساتذة الجامعة وكان سيستمرّ في دراسة فيزياء الكم إلى آخر أيام حياته لولا أن طُلِبَ منه تدريس مادة عن العلم الطبيعي لطلاب العلوم الإنسانية حيث كانت هذه المادة جزء من المنهج التعليمي آنذاك. كان رئيس هارفارد الإصلاحي “جيمس كونانت” هو صاحب فكرة وضع هذه المادة العلمية وإلزام الطلاب بدراستها لأنه كان يؤمن أنّهُ لا بّد لكل شخص متعلّم أن يعرف شيئاً عن العلم الطبيعي.
كانت هذه المادة العلمية تتمحور حول الدراسة التاريخية للعلم ولذلك اضطر “كـون” لدراسة نصوص علمية قديمة بالتفصيل للمرة الأولى بالنسبة له (كان الفيزيائيون – ولا يزالون – لا يحبّون التعمّق في التاريخ). دراسة “كـون” لنصوص أرسطو كان بمثابة تجربة ثورية أثّرت على حياته ومساره المهني بشكل كبير.
يقول “كـون“:
“السؤال الذي أردت أن أجيب عليه كان: إلى أي حد كان أرسطو مُلِمّاً بعلم الميكانيكا ؟ وكم ترك لغيره – مثلاً غاليليو و نيوتن– أن يكتشفوا ؟” حينها علِمتُ أن أرسطو لم يكن يعرف شيئاً عن الميكانيكا على الإطلاق! هذا الاستنتاج كان شائعاً آنذاك وقد يكون – مبدئياً–استنتاج صائب , ولكنّي وجدتُ أنّهُ استنتاجٌ مُشكِل لأنّي أثناء قراءتي لنصوص أرسطو بدا لي أنّهُ لم يكن جاهلاً بالميكانيكا فحسب , بل اتّضح أنهُ عالم فيزيائي سيء بشكل مؤسف. فيما يتعلّق بالحركة على وجه الخصوص, كانت كتاباتهُ مليئة بالأخطاء الفادحة سواءً في صياغتها المنطقية أو في اعتمادها على الملاحظة.
الجانب الذي هاجمه “كـون” هو نقطة الضعف المركزية في تفسير “whig” للتاريخ العلمي . بمعايير الفيزياء الحديثة يبدو أرسطو غبيّاً, ولكنّنا نعلم أن هذا غير صحيح. اكتشاف “كـون” الكبير كان نتيجة استيعابه المفاجئ لحقيقة أنّهُ لكي نفهم العلم الأرسطي يجب علينا أن نعرف المناخ الفكري الذي كان يعمل أرسطو خلاله. يجب أن نفهم – على سبيل المثال – أنّهُ بالنسبة لأرسطو فإن كلمة “حركة” تعني التغيّر بشكل عام وليس انتقال الجسم الفيزيائي من موضع لموضع آخر كما هو تعريفنا للحركة في وقتنا الحاضر. وبعبارة أشمل ,لكي نفهم التطور العلمي يجب علينا أن نعرف البُنية الفكرية التي يعمل العلماء بمقتضاها. هذا الاكتشاف هو الأساس الذي بنى عليه “كـون” كتابه العظيم.
بقيَ “كـون” في هارفارد حتى عام 1956. وبعد أن فشل في الحصول على وظيفة دائمة في الجامعة انتقل لجامعة كاليفورنيا في بيركلي حيث ألّف كتابه الشهير هناك. وتمت ترقيته إلى مرتبة “بروفيسور” عام 1961. في العام التالي نشرت دار النشر التابعة لجامعة شيكاجو كتابَهُ وعلى الرغم من أن الطبعة الأولى كانت تقع في 172 صفحة إلا أن “كـون” – بطريقته المعهودة – كان يتحدث عن الكتاب بوصفه محض مسودّة بدائية أو نموذج أوّلي. كان يُفضّل بالتأكيد أن يكتب ما يقارب 800 صفحة طويلة ومملّة.
ولكن حجم هذه المسودّة البدائية وقابليّتها للقراءة كانا عامِلَين مُهِمَّين لنجاح الكتاب فيما بعد. على الرغم من أن الكتاب في بداياته لم يشتهر بالسرعة المطلوبة حيث تمّ بيع 919 نسخة في عام 1962-1963 إلا أنه في منتصف عام 1982 تم بيع أكثر من ستمائة وخمسين ألف نسخة وعدد النسخ حتى يومنا الحالي تبلغ مليون وأربع مئة ألف نسخة. كتاب بهذا الحجم والانتشار يقارب في شهرته سلسلة روايات هاري بوتر العالمية.
دعوى “كـون” الرئيسية في هذا الكتاب هي أن الدراسة الدقيقة للتاريخ العلمي تكشف أن التطور في أي مجال علمي يحدث عبر مراحل متعاقبة. أطلق على المرحلة الأولى اسم “العلم الاعتيادي” – أو العمل الروتيني , في هذه المرحلة يقوم مجموعة من الباحثين المشتركين في بنية فكرية واحدة تسمّى “بارادايم” أو “نسق فكري” يقوم هؤلاء بمحاولة حل المشاكل الناتجة عن الفروقات بين ما تظهره الملاحظات العلمية والتجارب وبين التوقّعات التي يفترضها هذا النسق الفكري المشترك “البارادايم“. غالباً هذه الفروقات يتم حلّها إما بتعديلات طفيفة على البارادايم المشترك أو باكتشاف أخطاء في الملاحظات والتجارب. يقول الفيلسوف “إيان هاكينج” في مقدمته الرائعة لكتاب “كـون“: العلم الاعتيادي لا يهدف إلى الابتكار ولكن يهدف إلى توضيح وتنقيح المفاهيم العلمية السائدة , إنّه يكتشف ما يتوقّع أن يكتشفه.
المشكلة تكمن في أنّ هذه الفروقات تتراكم عبر الزمن حتى تصل لمرحلة تدفع بعض العلماء للتشكيك في النسق الفكري أو “البارادايم” نفسه. حينها يدخل هذا المجال العلمي في مرحلة أزمة – على حد تعبير “كـون– تتمثّل بـ ” تزايد المطالبات بتفسيرات واضحة , الرغبة في تجربة أي شيء , التعبير عن السخط وعدم الرضا , الرجوع للفلسفة ومناقشة صحة المبادئ الفلسفية” في النهاية يتم حل هذه الأزمة عن طريق تغيير جذري ثوري في نظرتنا للعالم حيث يتم استبدال البارادايم الناقص الحالي بآخر جديد. هذه العملية هي ما يُعرَف الآن بـ ” تحوّل البارادايم” أو “تحوّل النسق الفكري” , بعد أن يحصل هذا التحوّل يرجع المجال العلمي للمرحلة الأولى التي ذكرناها ( العلم الاعتيادي) ويستمر الحال على هذه المرحلة حتى يحصل التحوّل مرة أخرى وهكذا.
هذا الاختصار المخلّ الذي ذكرناه للمرحلة الثورية لا يوفي بحق تعقيد و عمق فكرة “كـون“, يجب أن تقرأ كتاب “بُنية الثورات العلمية” لكي تفهمها بشكل أوضح. ولكن بشكل عام هذا الاختصار يوضّح لماذا كان هذا الكتاب بمثابة صاعقة مدويّة بالنسبة للفلاسفة والمؤرّخين الذي صاغوا تفسير “whig” التاريخي للتقدم العلمي الذي ذكرناه سابقاً.
للتوضيح دعونا نلقي الضوء على مرحلة “العلم الاعتيادي” عند “كـون“. أكثر فلاسفة العلم تأثيراً في عام 1962 كان “كارل بوبر” الذي وصفهُ “هاكينج” بأنّهُ ” العالم الأشد تأثيراً في كتاباته على العلماء التجريبيّين “. لخّص كارل بوبر جوهر المنهج العلمي في عنوان أحد كتبه ” الفرضيات والتخطئة“. وِفقاً لبوبر, العلماء الحقيقيّون ( على خلاف المحلّلين النفسيّين مثلاً) يتميّزون بمحاولة تخطئة ورفض نظرياتهم بدلاً من محاولة إثباتها. ولكن نظرية “كـون” تنصّ على أن محاولة رفض النظريات العلمية المتضمّنة داخل البارادايم أو النسق الفكري السائد هو آخر شيء يريد أن يفعله “العلماء الاعتياديّون“.
أثار “كـون” غضب الكثير عندما وصف الممارسة العلمية بأنّها ” مجرّد حل ألغاز وأُحجيات“. و كأن رحلة الجنس البشري الشاقة نحو المعرفة مشابهة لمحاولة حل الكلمات المتقاطعة في مجلة التايمز. ولكن في الحقيقة حساسية هؤلاء النقّاد كانت مفرطة. اللغز أو الأحجية هي شيء يوجد له حل , وهذا لا يعني أن العثور على الحل سهل أو أنه لا يتطلب جهد مستمر وإبداع فكري. على سبيل المثال , رحلة البحث الشاقة المكلّفة عن بوزون “هيجز” والتي أثمرت نتائجها مؤخّراً في معامل سيرن النووية تُعتَبر مثالاً رئيسياً لـ “حل الألغاز” الذي كان يقوله “كـون” لأن وجود هذا الجُسَيم كان مُتَوقّعاً وِفقَ البارادايم السائد أو ما يُعرَف بـ ” النموذج المعياري” لفيزياء الجسيمات.
الأمر الذي أثار جدلاً فلسفياً واسعاً كان إحدى نتائج نظرية “كـون” المتعلقة بتحوّل النسق الفكري , يقول “كـون” أن الأنساق الفكرية المتعارضة غير قابلة للمقارنة. بعبارة أخرى , لا يوجد طريقة موضوعية لقياس قيمة كل نسق. على سبيل المثال: لا توجد طريقة لعمل مقارنة بين قيمة ميكانيكا نيوتن ( والتي تتعامل مع كرات البلياردو والكواكب لكن لا تنطبق على الجسيمات تحت الذرية) و بين ميكانيكا الكم (والتي تتعامل مع الجسيمات تحت الذرية). ولكن ألا يلزم من عدم القدرة على المقارنة بين الأنساق الفكرية بناءُ الثورات العلمية على أسس غير عقلانية (ولو بوجهٍ ما ) ؟ وفي هذه الحالة ألا تكون تحوّلات الأنساق الفكرية (تحوّل البارادايم) والتي نحتفل بها بوصفها فتوحات علمية , ألا تكون تلك الفتوحات مجرّد نتائج محضـــــة لمخالفة السائد – أو مخالفة ما يُعرَف بـ “سايكولوجية الجمهــــــــور” – ؟
كتاب “كـون” أثار العديد من النقاشات والتعليقات والتحليلات النقدية. تأكيده على أهمية ” اجتماع الباحثين المشتركين في نسق فكري معيّن” أدّى إلى إنشاء فرع أكاديمي يُعرَف بـ “اجتماعيات العلوم” حيث يقوم الباحثون بملاحظة المجالات العلمية ودراسة سلوك العلماء تماماً كما يدرس علماء الأنثروبولوجيا القبائلَ البدائية الغريبة وبالتالي يُعتَبَر العلم الطبيعي مجرد ثقافة من الثقافات المتنوعة في المجتمع ولا يتم النظر إليه على أنّهُ منتج مقدّس غير قابل للمسّ من منتجات عصر التنوير.
أما فيما يخصّ فكرته الكبيرة – تلك المتعلّقة بالبارادايم بوصفه بُنية فكرية تجعل العلم والبحث ممكناً – انتشرت هذه الفكرة انتشاراً واسعاً حتى أن التجّار وأساتذة مؤسسات الأعمال وأهل التسويق قاموا بتبنّي هذه الفكرة بوصفها طريقة لتفسير الحاجة لتغيّرات جذرية إبداعية عند منسوبيهم. وعلماء الاجتماع رأوا في تبنّي نسق فكري أو بارادايم معيّن وسيلة للحصول على الاحترام وعلى تمويل لأبحاثهم والذي أدّى إلى ظهور أنساق فكرية مَرَضيّة في مجالات مثل الاقتصاد حيث أصبح إتقان الرياضيات مقدّماً على فهم كيفية عمل المصرفيّة وإتقانها والعواقب التي اضطررنا إلى تحمّلها الآن.
الفكرة المثيرة حقاً هي استخدام فكرة “كـون” لتفسير إنجازه العظيم نفسه. بطريقته الهادئة , تمكّن “كـون” من بناء ثورة فكرية عن طريق تحويل نظرتنا وفهمنا للعلوم من السياق التاريخي الخاص بـ“whig” إلى “النظرة الكـونيّة” التي جاء بها. ومعظم ما يتم عمله الآن في تاريخ وفلسفة العلوم يُعتَبر من مرحلة العلم “الاعتيادي” وفق البارادايم الجديد ولكن الفروقات التي تحدثنا عنها (بين الملاحظات والتجارب العلمية وبين التوقّعات التي يفرضها البارادايم) بدأت الآن بالتراكم. “كـون” كان يرى أن العلم يعتمد بشكل أساسي على النظرية كما كان يعتقد “بوبر” ولكن العديد من الأبحاث العلمية الريادية تعتمد على البيانات والمعلومات أكثر من اعتمادها على النظريات. وبينما كانت الفيزياء هي مَلِكَةُ العلوم حين تأليف كتاب “بنية الثورات العلمية“, أما الآن فهذا الدور انتقل إلى علم الجينات الجزيئية والتكنولوجيا الحيوية. فهل ينطبق تحليل “كـون” على هذه المجالات العلمية؟ وإذا لم ينطبق , هل حان الوقت للتحوّل لـ بارادايم آخر؟
في الوقت الحالي, إن كنت تريد عمل قائمة بالكتب التي تودّ قراءتها قبل موتك, لا بد أن تكون تحفة “كـون” هذه من ضمن القائمة.