العراق والعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956

العراق والعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956

ميسون عباس الجبوري
اتخذ العراق وبقية الدول العربية على الصعيد الرسمي موقفاً واضحاً من العدوان، فقد عبرت الحكومة العراقية في بيان أذيع بعد عودة نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي من لندن بتأريخ الخامس من آب عام 1956 ويتلخص بحق مصر في تأميم القناة (كمقدمة) وباستعداد العراق للوقوف إلى جانب مصر فيما يضمن كرامتها وسيادتها واستقلالها (كخاتمة) وبالإشارة إلى الخطر الإسرائيلي (كوسط، دون أي إشارة لبريطانيا أو فرنسا).

من جانب آخر أذاعت وكالات الأنباء خبراً عن طلب مصر إلى العراق أن يتوسط في أزمة السويس وبرغم أن المصادر العراقية علقت على ذلك بقولها "إن العراق لم يقم بالوساطة بل بذل مساعيه الودية"، ولكنها عادت ثانية تؤكد هذه الوساطة وتأييد الولايات المتحدة لها في هذه الوساطة حتى ان السفير الأمريكي اجتمع مع نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي ثلاث مرات لهذا الغرض.
اتخذت الحكومة العراقية موقفاً توفيقياً بين التزاماتها في حلف بغداد وإسناد مصر والموقف الغربي، فقد أوضح بعض السياسيين أن ارتباط العراق بالحلف لم يحل دون تقديم المساعدة إلى مصر.من جانب آخر فقد أنذرت الحكومة العراقية في الحادي والثلاثين من تشرين الأول عام 1956 بريطانيا وفرنسا وأمريكا بأن العراق سيدخل حرباً فعلية ضد "إسرائيل" إذا لم توقف عملياتها العسكرية حالاً في الأراضي المصرية.
وفي الثالث من تشرين الثاني عام 1956 بعث الوصي عبد الإله رسالة شخصية إلى رئيس الوزراء البريطاني أنتوني ايدن، طالب فيها بوقف العمليات العسكرية واستنكر الأعمال العدوانية التي قامت بها كل من بريطانيا وفرنسا على مصر الشقيقة.كما عقد مجلس الوزراء اجتماعاً طارئاً استعرض فيه رئيس الوزراء نوري السعيد الأعمال العدوانية التي قامت بها إسرائيل والمخالفة لمبادئ هيئة الأمم المتحدة، كما بين أن الإجراءات التي اتخذتها حكومتا بريطانيا وفرنسا لا تتفق مع المبادئ الصحيحة المعروفة دولياً فقرر ما يلي:
1- الاحتجاج على حكومتي بريطانيا وفرنسا بخصوص الاعتداء المذكور.
2- لزوم مبادرة وزارة الدفاع إلى استكمال جميع الاستعدادات العسكرية التحشيدية لغرض مساعدة الأردن عند طلب الحكومة الأردنية المساعدة لدرء خطر الاعتداء الصهيوني على الأردن.
3- إعلان الإدارة العرفية تطميناً للحالة ودفعاً لكل احتمال.
في التاسع من تشرين الثاني عام 1956تشكل مجلس استشاري للملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله لتهدئة الرأي العام العراقي وقرر المجلس الاستشاري تجميد العلاقات السياسية مع بريطانيا وقطع العلاقات السياسية مع فرنسا.
أما على الصعيد الشعبي فقد قامت تظاهرات عنيفة أسفرت عن تعطيل الدراسة في كافة المعاهد العراقية وعندما خرجت تظاهرة من ثانوية الكرخ ببغداد تصدت لها شرطة السلطة السعيدية وأجبرت الطلاب على الاعتصام داخل المدرسة وأصيب العشرات من الطلبة بجروح.
كما قام الشعب العراقي بضرب المصالح البريطانية والمرافق التي تساعد العدوان، إذ قام العمال بنسف أنابيب النفط في كركوك وأرغموا حكومة نوري السعيد على قطع النفط العراقي وحدثت صدامات بين الجماهير الغاضبة وقوات الشرطة مما أدت إلى وقوع عدد كبير من القتلى والجرحى وقام الشعب العراقي بالإضرابات في مدن عديدة وكانت تلقائية حيث أغلقت المحلات التجارية بنسبة (80%).
أعلن الطلاب استنكارهم وأعلنوا الإضرابات التي شملت كل مدارس ومعاهد القطر وتصاعد النشاط الطلابي ليعلن موقف الجماهير من كل أمر يتعلق بمستقبلها الوطني والقومي وكانت التظاهرات استنكاراً للعدوان الثلاثي على مصر، ثم قامت السلطة الملكية بحملة اعتقالات واسعة شملت مئات الآلاف من الطلبة.
في العاشر من تشرين الثاني وبعد اجتماع الدول الإسلامية لحلف بغداد في طهران واجتماع الدول الإسلامية في بغداد أصدرت حكومة العراق بياناً يحتوي على صيغة بارعة لمواجهة الأزمة وبينت هذه الصيغة مخيلة نوري السعيد وشجاعته فأعلن بأن بريطانيا خارجة عن مداولات حلف بغداد إذ أوضح البيان "بالنظر للظروف الحالية، يقتصر حضور العراق في اجتماعات الحلف على الاجتماع مع الدول الإسلامية الثلاث الاخرى".
وفي الرابع عشر من تشرين الثاني طالب العراق بطرد الغاصبين وإعادة اللاجئين العرب كما تبرع العراق بـ(مئتي) ألف دينار لضحايا العدوان في مصر. ، وتبرع الهلال الأحمر العراقي بمبلغ عشرة آلاف باون استرليني لإسعاف منكوبي الحرب في مصر الشقيقة.
وعلى المستوى الشعبي هب العراقيون يؤيدون نضال الشعب المصري في معركته لتحقيق جلاء القوات البريطانية عن أرضه وفي صد العدوان الثلاثي في عام 1956، كذلك رفض سياسة الأحلاف و"المشاريع الاستعمارية كحلف بغداد".كانت أصداء هذا العدوان واسعة بالنسبة للعراقيين تحديداً ولم يبدُ هناك شيء أسوأ في نظر العرب من قيام بريطانيا بعمل عسكري مشترك مع إسرائيل وحصل ذلك بعد وقت قصير من دخول العراق إلى حلف بغداد الذي كانت بريطانيا طرفاً فيه، وعلى الرغم من مواقف حكومة العراق المتمثلة برفض العدوان على مصر وقطعها فيما بعد العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا إلا أن هذه المواقف لم تستطع أن تؤثر في الرأي العام العربي أمام التزام حكومة العراق المستمر بحلف بغداد.
كما كان للصحف العراقية دور في التنديد بالعدوان وشجبه فقد نددت صحيفة الحرية بالعدوان ووصفته بأنه "مؤامرة دنيئة ليس ضد مصر فحسب بل ضد الأمة العربية جميعها، الهدف منه ترسيخ اسس الكيان الصهيوني، وأشارت الصحيفة قائلة" علينا أن نقف صفاً واحداً وراء مصر فإن خسارة هذه المعركة ستكون ذات أثر بليغ في مستقبل العرب" ، وأيدت صحيفة الحرية مصر في معركتها ضد العدوان الثلاثي ووقفت موقف الضد من الدول المعتدية على مصر ومنها بريطانيا أحد أعضاء حلف بغداد.
وفي خطاب لرئيس الوزراء العراقي نوري السعيد في السادس عشر من كانون الأول عام 1956 قال فيه "ليس من حق السياسي أن يجازف بسلامة أمته وكيان بلاده" وإن "مطامع روسيا في البلاد العربية رسمها القياصرة وتبناها الشيوعيون"، وعندما وقع العدوان على مصر بادر العراق إلى إعلان استنكاره الشديد لهذا الاعتداء، وأكد لمصر استعداده للإيفاء بالتزاماته وبادر العراق إلى عقد اجتماع في طهران حضرته وفود الدول الإسلامية (إيران وباكستان) "ولم ندخر وسعاً إلا بذلناه لإيقاف القتال بصورة عاجلة"، وطالبت الدول الإسلامية والعراق انسحاب القوات المعتدية حالاً بلا قيد أو شرط وإطلاق سراح الأسرى المصريين واحترام سيادة مصر واستقلالها وحل مشكلة فلسطين.
كما رحبت الحكومة العراقية بانسحاب المعتدين من بور سعيد، وطالبت بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة كاملة بانسحاب الإسرائيليين من غزة.وبعد اتجاه العراق وإيران إلى تأييد التأميم فإن أزمة السويس تكتب الفصل الأخير لحلف بغداد، حيث أن تأييد العراق لمصر قد يكون أول انقسام جدي في هذا الحلف الدفاعي الغربي. كما طالب الشعب العراقي بحل حلف بغداد وتعطيل الدراسة في جميع الكليات والمدارس وحظر التجول في مناطق النفط.
عن رسالة (أزمة السويـس والموقـف الدولي)