من ثنائية الوطن / المنفى..الى منفى الشعر في شعر عبد الكريم كاصد

من ثنائية الوطن / المنفى..الى منفى الشعر في شعر عبد الكريم كاصد

فاضل ثامر
يمثل ديوان”ولائم الحداد”الصادر عام 2007 واحدة من التجارب المتقدمة والناضجة في مسيرة الشاعر، وتهيمن على قصائد الديوان مسحة حزينة تتحول فيها القصائد إلى مرثاة طويلة للموتى وللأحياء معاً، حيث يتحول الخريف في عدد من القصائد إلى معادل موضوعي لخريف الحياة: كما هو الحال في”خريف موشك على الرحيل»:

«الخريف الموشك على الرحيل،
يصبغ بالاصفر،
أقدام الاشجار
*
ذلك المتقاعد المزين بالنياشين،
هو أنا،
وقد علقت في صدري أوراق خريف صفراء.
*
لماذا ترى تتسع المقبرة،
كلما أقبل الخريف؟”
وفي هذه القصيدة يُطل الخريف من النافذة، حيث نجد عشق الشاعر وافتنانه بالنوافذ في سلسلة من القصائد في دواوينه المختلفة:
“الخريف،
يُطل من النافذة،
ويرحل
أجنحة في الهواء،
تصطفق الآن”
وتتحول قصيدة”ساحة”إلى إحدى قصائد النافذة المحببة لدى الشاعر حيث يُطل على العالم والاشياء في حركتها الموّارة:
«أشجار لا تسكنها الطير،
وبضع مصاطب،
والكشك المهجور هناك،
ونافذة (هي عين الساحة)
يأتيها الناس فرادى،
وفرادى يمضون.”
ونوافذ عبد الكريم كاصد تذكرنا بنافذة محمود عبد الوهاب في قصته”نافذة على الساحة”ونوافذ محمد خضير ومهدي عيسى الصقر أو ربما قبل ذلك بنافذة جيمز جويس في قصته القصيرة”ايفلين”من مجموعة”دبلنيون”حيث تتحول النافذة إلى مرقاب وشاهد وعيين على الخارج، خارج مفتوح وفضاء في مقابل داخل معتم وضيّق ومكبّل. وقصيدة”ساحة”تنطوي على حركة سردية متنامية، حيث تنمو سلسلة من الحبكات والمرويات الداخلية السيميائية العميقة الدلالة، المستقلة بذاتها، والمترابطة ضمن هذا الفضاء الجنائزي الحزين:
«تأتيها امرأة،
تمرق كالطيف وتدخل كشك الهاتف،
تابوتَ الهاتف،
تخرج شبحاً،
بغدائرَ بيضاء”
لكن الحضور الأوسع لقصائد النافذة يتركز في مجموعة قصائد”نوافذ”التي اطلعت عليها لأول مرة ضمن مختارات الشاعر الشعرية الموسومة”نوافذ”والصادرة عام 2007 في بغداد، لكني وجدتها منشورة ثانية في ديوانه الحديث”رقعة شطرنج”، منها قصيدة”نوافذ”الرئيسة حيث يتلصص الشاعر على العالم الخارجي من هذه النافذة على حركة الأشياء والمرئيات:
«مفتوحةٌ في الصيف،
مغلقةٌ في الشتاء،
وفي الخريف،
لا أدري لماذا أغلقها،
أو أفتحها،
وقد لا أتذكر في الربيع ماذا أفعل؟”
وهنا يوظف الشاعر لعبة شعرية جرّبها منذ ديوانه الاول”الحقائب”وأعني بها لعبة التكرار اللفظي لمفردة معينة وتقليب أوجهها وتمظهراتها المختلفة، فثمة نافذة للقطار وأخرى للطفولة، وثالثة للسماء، ورابعة للمستشفى وغيرها. ونوافذ الشاعر ليست جامدة، بل هي مؤنسنة ومشخصنة، فهي تتحرك و»تهرع في الطريق / كالبشر”وهي أيضا تتبع الشاعر عندما يحمل أمتعته ويسير:
«مرة حملتُ امتعتي،
وسرت،
كانت النوافذ تتبعني”
ونوافذ الشاعر تحدّق به وتهمّ أن تطير، وهي تلتمع كالمرآة. وهي تحزن وتنتحب وهي تُطل على ساحة الاعدام:
“كثيراً ما أسمع أنين النوافذ،
وهي تدير ظهرها للطريق،
وتنتحب.”
والنافذة هنا هي”عين الأبدية»
تسأل النافذة”
هل يعرف الحكيم
أنني عينُ الابدية؟»
ونافذة الشاعر هنا شاهد حقيقي يُطل على الفجيعة وصوت مقموع وقناع:
“أنا النافذة،
أنا الشاهد الوحيد،
من يسمعني؟»
وفي قصيدة”نافذة للطفل”ترقب النافذة العالية الطريق، كما ترقب الشاعر والطفل الذي يعبر الجسر:

والنوافذ العالية،
وهي ترقب الطريق الذي يمتد،
ولعلها لا تزال ترقبه،
أو ترقبني،
النوافذ”
ويبدو أن الشاعر قد أحس باليأس والقنوط بعد أن أفزعته الرؤى والمشاهد فقرر أن يهجر نافذته ويتبرأ منها في قصيدته”نافذة للطفل»:
خاتمة:
«أنا عبد الكريم كاصد،
أتبرأ من نافذتي.»
وعبد الكريم كاصد لا يكفّ عن التأمل والتفلسف شعرياً، وخاصةً وهو يخطو نحو نضج الكهولة، حيث تتشح قصائده الأخيرة بحكمة شخصية عميقة اكتسبها من تجربة الحياة والألم والمعاناة والشعر، واكتشف فيها أن”للشعر منفاه”وانه ربما اختار أن يكون نزيلاً أبدياً في منفى الشعر، كما جسد ذلك في أحد دواوينه الحديثة الموسوم”هجاء الحجر”(الصادر في القاهرة عام 2011:

«لم أكن أعرف أن للشعر منفاه أيضاً”
في ديوان”هجاء الحجر”هذا تطل الحكمة في معظم قصائد الديوان حتى بات الشاعر كما يقول”يتعثر بالحكمة
«بين خطوة واخرى
أتعثر بالحكمة، فيمسكني الجهل”
وتبدو قصائد الديوان عبارة عن إضافة من الحكم والأقوال المأثورة، التي تعامل معها الشاعر عن طريق مستوى المفارقة، حيث السخرية والقلب والاستنساخ المضاد، في ضربات قصيرة ووامضة تبدو أشبه ما تكون بالرباعيات أو المثنويات، وربما قصائد الهايكو والومضة. وقد تغلب المحاكمة المنطقية والمحاجة العقلية أحيانا على بعض هذه المقاطع، لكنها أيضا تشع بشعر سريّ، يتسربل عبر كلّ مفردةٍ أو صورةٍ تباغت بصيرة القارئ بوعي مشاكس جديد. وتبدو لي تجربة الشاعر عبد الكريم كاصد، في هذا الديوان واحدة من محاولات التجريب الشعري التي يقدمها الشاعر عبر أسفاره الشعرية، والتي يصدم فيها أفق توقع القارئ الاعتيادي ليضعه أمام اكتشاف وجهٍ آخر من وجوه الحقيقة والحياة. وغالباً ما يميل الشاعر إلى قلب الحكمة على مستوى المفارقة الساخرة، اذ يتلاعب الشاعر بالحكمة المأثورة إذا كان”الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”بصورة عكسية:
«قال الصحفي
وقد رأى صورته في المرآة:
السكوت من فضة
والكلام من ذهب”
وقد يقلب الشاعر حكاية الكاتب الدانيماركي هانزكرستيان اندرسن المشهورة”ملابس الامبراطور»، صادما أفق توقع القارئ:
«حين رأى الملك شعبه عارياً
قال: ما أجمل الشعب في أثوابه الزاهية؟»
وقد تثير قصائد الشاعر القصار أسئلة استفهامية بلاغية ساخرة:
لماذا يحتفل المهزوم بانتصاراته؟”
ونجد ذلك بشكل خاص في قصيدته”تساؤلات”التي هي مجموعة من الاسئلة المشاكسة:
«لماذا التاج
على هذا الرأس المقطوع؟»

وكما نجد ذلك في قصيدة”حيرة كفافي:
من يؤرخ المرحلة؟
بأيّ سواد سيبدأ
وأيّ سواد سينتهي؟.

وقد تغلب الشاعر رغبة في كتابة تراتيل وأدعية وأوراد عرفانية كما نجد ذلك في”دعاء الكروان»:
ربّي،
نجّني،
من صديق لا يعرفني،
وعدوٍ يعرفني،
من جاهلٍ لا يحسن الصداقة،
وعاقل لا يحسن العداوة.
وللحجر، مكانة خاصة في ديوان الشاعر هذا. ومعروف جيداً ولع الشعراء العرب ومنهم أدونيس بمفردة الحجر والتي تداولها من بعده شعراء الستينات وما بعدهم بتنويعات مختلفة، وهي ربما استذكار لمقولة الشاعر العربي الجاهلي تميم بن مقبل”لو ان الفتى حجر”والتي عبّر فيها عن إحساسه بالإحباط واليأس وتمنى لو انه حجر يفتقد الإحساس والمعاناة، حيث قال”ما أطيب العيش لو ان الفتى حجرٌ - تنبو الحوادث عنه وهو ملموم».حيث يجاريه عبد الكريم كاصد بتنويعات على رمزية الحجر ودلالته:
بشفاه من الحجر
ينشدون الطريق”
ويتخذ رمز الحجر أحيانا طابعاً دلالياً يدل على القسوة والتحجّر وانعدام الرحمة:
يلبس وجه الحجر
ويخلع وجه الانسان
وقد توظف مفردة الجمع”أحجار”لتدل أيضا على الجمود والصمت:
أحجار،
لا تليق الا بالتماثيل،
الحزينة في الليل.
وقد يصير الحجر متكأً وملاذاً للشاعر بعد أن خسر كل شيء:
على حجر في العراء اتكأتُ
حاضنا نفسيَ العزيزة،
لهدوء الملائك.
وقد يسخر الشاعر من شاعر آخر أبياته من حجر، بطريقة هجائية قاسية:
شاعرٌ بيتُهُ من زجاجٍ

وأبياتُهُ من حجر.»
وقد يتحوّل الحجر إلى محور قصيدة كاملة كما هو الحال في قصيدة”حكاية عادية»:”
ما أراده السلطان،
بناه حجراً حجراً،
حتى إذا أوشك أن يتمّ ما بناء،
كان البناؤون،
بعدد الاحجار.”
يبدو أن الحجر، سيميائياً، يدل في تجربة الشاعر عبدالكريم كاصد على العقم واليباب وانعدام الحس والعاطفة، وربما هو المقابل للسان المتحجر الذي لا يملك قلبا:
«يسمونه اللسان،
حقّا،
ولكنه دون قلب.»
ديوان”هجاء الحجر”إشارة إلى النضج الفلسفي والتأملي الذي اكتسبه الشاعر من تجربته الحياتية والشعرية والثقافية، وربما من تماهيه مع تجارب إنسانية وصوفية كبرى منها تجربة أبي العلاء المعري.

جزء من دراسة طويلة
عن الشاعر عبد الكريم كاصد