الدكتورة بنت الشاطئ عاشقة بغداد

الدكتورة بنت الشاطئ عاشقة بغداد

رفعة عبد الرزاق محمد
في اواخر عام 1998 فجعت الاوساط الثقافية العربية برحيل شخصية ادبية كبيرة ،وعالمة محققة قديرة ، قدمت للفكر العربي الحديث خدمات علمية جليلة ، جديرة بالتكريم ، وحرية بالتنويه ، هي الدكتورة عائشة عبد الرحمن المشهورة ببنت الشاطئ .

وهي الوجه الادبي البارز للرعيل الذي خلف العباقرة في مسيرة التنوير العربي الحديث . فقد كانت اديبة رقيقة وباحثة دقيقة ومحققة واثقة ، ولعل تحقيقها لكتاب المعري الخالد ( رسالة الغفران ) يكفيها فخرا وخلودا على مر الايام .
ولدت بنت الشاطئ سنة 1913 بمدينة ( دمياط ) المصرية ، وحصلت على شهادة الماجستير في الادب ثم الدكتوراه بتقدير ممتاز سنة 1950 بأشراف الدكتور طه حسين ، وكانت رسالتها للدكتوراه هي تحقيقها لرسالة الغفران للمعري . وتدرجت في المناصب العلمية الرفيعة ، ومنها رئيس قسم اللغة العربية في جامعة عين شمس لسنين طويلة ، حتى اصبحت استاذا للتفسيروالدراسات العليا في جامعات عربية مختلفة ، وتلقت بهذا درجات وجوائز فكرية كثيرة ، ولعل زواجها من الاستاذ الشيخ امين الخولي كان من النقاط المهمة في حياتها ، فقد كان زوجها من اعلام الفكر والادب .
ان الحديث عن ينت الشاطئ ومؤلفاتها الجليلة ومعاركها القلمية ، واشهرها معركتها مع العقاد ، حديث ماتع وطويل ، غير ان ما يسرنا ذكره ان بنت الشاطئ زارت بغداد اكثر من مرة ، وتركت من الذكريات الادبية ماهو جدير بالتسجيل والتذكير . لقد احبت بغداد واهلها ، وكانت تشتاق لزيارة مدينة السلام والف ليلة وليلة ، منذ نشأتها الادبية الاولى ، وقد ذكرت في اكثر من مناسبة ، انها منذ تلقيها الاول لم يثرها شيء مما تقرأه ، ولم تنفعل انفعالا الا بما طالعته من اشعار العرب واراجيزهم ، غير انها لم تكد تصل الى قصيدة ابن زريق البغدادي ( لاتعذلية فأن العذل يولعه ... ) وما كتبة السبكي في ( طبقات الشافعية الكبرى ) عن القصيدة وصاحبها ، حتى تحس برجفة في قلبها ، وتعيد القراءة وهي لاتملك الا الدمع ، وتعذر ذلك الشيخ الاندلسي الذي سمعها اثر العثور عليها عند رأس ابن زريق وهو على فراش الموت ، فبكى حتى خضبت لحيته . وهكذا عرفت بنت الشاطئ بغداد واقتربت صورتها في وجدانها ، وهي التي المت بكل مدارس الفكر العربي والاسلامي . فكانت تبث شجونها لمعارفها ، وتبدي شوقها لبغداد ، وتأكد هذا الشوق بعدما عرفت بالمنزلة الرفيعة التي منحها البغداديون لها . تقول في مقدمة كتابها عن المعري في بغداد : حللت بغداد مرة وأنا متشوقة الى ان اعيش مرة أخرى ، ولو لبضعة ايام في بغداد التي لا تفتأ ارواحنا نحن المتخصصين في دراسة العربية والاسلام . تهوىاليها وتتعلق بها ، بل اننا نعيش فيها بوجداننا وعقولنا ، مرتبطين بها الرباط الوثيق الذي لا ينبت ةلا ينفصل ، لطول ما عرفها تاريخنا ، العاصمة الفكرية والادبية الكبرى للعربية والاسلام .
ومن علماء بغداد وعشاقها، المرحوم الدكتور مصطفى جواد (ت1969) وكان يكن لبنت الشاطئ احتراما كبيرا دون ان يلتقيها، فبقي منتظرا الفرصة التي تمنحه اللقاء بها . وفي الخمسينات زارت بنت الشاطئ بغداد زيارة ادبية ، فتزاحم الادباء والمعجبون للقائها مما قلل من حماسة مصطفى جواد للالتقاء بها ، حتى عادت الى مصر ، وفي السنة التالية التقى الاثنان في جلسة ادبية ، عندما زار جواد مصر ، فأرتجل الابيات التالية :
لما قدمت في العراق تشوقت
نفسي الى اللقيا وشم نهاك
فتسابقت زمر الكرام فلم اجد
من سبقهم نهجا الى مرآك
اني على الحرمان معترف بما
انشأت من ادب يبين علاك
فكتبت الى الدكتور مصطفى جواد رسالة مؤثرة فيما بعد ، جاء فيها : أما انا فوالله ما سعيت الى دار السلام الا وفي نفسي ان أزهو يوما بأن اقول : حضرت مجالس العلم في بغداد ولقيت اساتذتها الائمة وأخذت عنهم كذا وكيت ، لكن العراقيين – سامحهم الله- قد حرموني هذه المتعة وأوقفوني على منابر بغداد لاحاضر وانا التي رجوت ان اجلس امامها مستمعة ومتلقية ... 14-2-1958 بنت الشاطئ
ولعل من الطريف اضافته ان الدكتورة عائشة عبد الرحمن ، كنيت ببنت الشاطئ ، وكانت لها قصة ذات دلالة ، فقد بأت عام 1936 الكتابة في جريدة الاهرام بدون توقيع الى ان اقتضت الضرورة ان تكتب في الجريدة زاوية ثابتة حول آراء القراء بعنوان ( بريد الاهرام ) ، لكن واجهتها مشكلة نشر اسمها ، فهي رحمها الله من اسرة دينية معروفة ، ووالدها الشيخ محمد عبد الرحمن كان مدرسا كبيرا في المعهد الديني بدمياط وجدها الاكبر كان من أئمة الازهر . فشعرت عائشة عبد الرحمن بالحرج عند ذكر اسمها الصريح في الجريدة ، ولهذا اختارت اسما مستعارا هو ( بنت الشاطئ ) اعتزازا بمدينتها المطلة على البحر . وظلت تحمل هذا الاسم حتى بعد ان ضمها عميد دار الاهرام انطون الجميل الى اسرة تحرير الجريدة بشكل دائم. فكانت ثاني سيدة تكتب في هذه الجريدة الذائعة بعد الانسة مي زيادة ، وبقيت متعلقة بالاهرام الى رحيلها الابدي .