موسى الشابندر .. شيء من سيرة تراث بغداد

موسى الشابندر .. شيء من سيرة تراث بغداد

رفعة عبد الرزاق محمد
الاسرة الشابندرية ببغداد من الاسر القديمة فيها التي اشتهرت ببيتها التجاري وصلاتها الواسعة باسر كثيرة ، ولعل اشهر اعلامها في العمل التجاري هو محمد سعيد الشابندر المتوفى سنة 1905 وولده محمود جلبي الشابندر المتوفى في اواخر سنة 1935، وهذا والد الوزيرين ابراهيم وموسى .

محمود جلبي الشابندر
يمكن ان نعد هذا الرجل من رواد التجديد في العمل التجاري والصناعي لما كان يحمله من افكار تحديثية لانهاض العراق من خلال المشاريع الكبيرة التي كان ينوي انجازها وبدأ بها الا ان قيام الحرب العالمية الاولى والاحتلال البريطاني الذي ناصبه العداء وكان يعتبره من انصار العهد العثماني فلقي ما لقي واهمها توقف العمل في اعماله ومشاريعه . اقترن اسمه في الايام الاخيرة من العهد العثماني بمشروع حيوي كبير في مدينة بغداد هو ادخال الكهرباء بشكل مباشر في مشروع الترامواي وتنوير بغداد ، ترامواي يسير بالكهرباء بين الاعظمية ومنطقة الكرادة ويمر بقلب بغداد ، الا ان المشروع لم ير النور لاسباب سياسية تتعلق بالصراع البريطاني الالماني في العراق ، فضلا عن اندلاع الحرب العالمية الاولى التي اوقفت العديد من مشاريع تطوير بغداد . ومن مشاريعه تأسيس خط للنقل بالسيارات بين بغداد وحلب حتى قيل انه استورد ثلاث سيارات للمشروع . ومن اعماله رئاسة هيئة جمع التبرعات لخط حديد الحجاز التي كانت الدولة العثمانية قد باشرت به .
تعرض محمود الشابندر الى اضطهاد السلطات البريطانية المحتلة واسندت اليه تهم الاتصال بالعثمانيين من خلال وشايات منافسيه من التجار على النحو الذي يذكره موسى الشابندر في مذكراته ( ذكريات بغدادية ) من ان تجار يهود ومسلمين بالتعاون مع مفتش التجارة في سلطة الاحتلال المسترصون ، فاعتقل ونفي الى الهند وصودرت امواله وحجز على قصره وجعل مقرا بريطانيا . وبعد ثلاث سنوات من النفي اطلق سراحه فعاد الى بلدته بغداد ليستأنف نشاطه التجاري بعد اعادة املاكه . ولا ننسى هنا ان محمود جلبي الشابندر هو من رواد العمل اطباعي في العراق فهو اول من اسس مطبعة تجارية بخارية بعد ان كانت اغلب مطابع بغداد اما حجرية واما بدائية الانتاج ، وقد اصدرت هذه المطبعة الكثير من المطبوعات الجديرة بالتقدير والتنويه لجمال اخراجها وحسن اختيارها .
تولى موسى واخيه ابراهيم العمل التجاري بعد ان بدات الشيخوخة تظهر على محمود الشابندر ، وكان ابراهيم من الشخصيات التجارية المعروفة فهو عضو غرفة تجارة بغداد والمصرفين التجاري والزراعي ، وهو ايضا من الشخصيات القانونية المرموقة حتى اختير لعضوية محكمة تمييز العراق ، واستوزر وزيرا للمالية وانتخب نائبا في عدة دورات نيابية ، اضافة الى مساهمته في تاسيس العديد من الجمعيات الخيرية والاجتماعية . وكانت وفاته في الرابع عشر من شباط 1958 وزوجته من اسرة فتاح باشا .
توفي الحاج محمد سعيد الشابندر سنة 1322هـ الموافق 1905م ودفن في مسجده في الاعظمية وله محمود وصالح وقد توفي الاخير في اسطنبول سنة 1910 ، اما محمود جلبي فقد كانت وفاته في 13 كانون الاول 1935 وقد رثاه الشاعر الزهاوي بقصيدة مطلعها :
تحطمت الامال بعد محمود فيا سلوتي شحي ويا عبرتي جودي

والطريف ان جريدة البلاد لرفائيل بطي نشرت القصيدة في اليوم نفسه الذي توفي فيه الشاعر الزهاوي في 23 شباط 1936 . وزوجة محمود جلبي من اصول قوقازية تدعى ( قمر ) توفي ابوها وهي طفلة وانتقلت اسرتها الى بغداد وعملت مع موسى كاظم باشا .
وموسى بن محمود جلبي بن الحاج محمد سعيد بن احمد اغا الشابندر الذي ولد ببغداد في منتصف حزيران 1899 في دار اسرته في محلة جديد حسن باشا. اكمل دراسته في مدارس الاليانس وكانت ارقى معاهد التعليم اذ تدرس فيها اللغات المختلفة والعلوم الحديثة وكان خريجوها من افضل الشخصيات التي لعبت ادوار مهمة في العمل العام .وفي اثناء الحرب العالمية الثاني بلغ العمر الذي يتيح له دخول العسكرية فجند سنة 1916 ، ولنفوذ اسرته فقد بقي في بغداد ونسب لدائرة البريد والبرق التي الحق بعضها بقيادة الجيش العثماني واستمر بهذا المكان الى ان سقطت بغداد بيد الجيش البريطاني في اذار 1917.
وبسبب النزاعات والحسد بين البيوتات والمصالح التجارية فقد وشي الى سلطة الاحتلال بان عميد اسرة الشابندر محمود جلبي الشابندر له مراسلات مع الجيش العثماني او انه من انصار العثمانيين ، فاغلق محله ونفي الى خارج العراق . تولى موسى ادارة مصالح ابيه التجارية .واستمر بذلك بعد عودة ابيه الى بغداد بعد اعلان الهدنة في الحرب واعادة نشاطه التجاري .وكانت لموسى رغبة في السفر والاطلاع على تجارب الاخرين ولاسيما التجارية منها فسافر الى الهند في ايار 1919 في الوقت نفسه الذي سافر فيه اخوه ابراهيم الى الولايات المتحدة.
في تلك الفترة كانت لموسى الشابندر صلة صداقة باحدى الشخصيات التي رافقت الحملة البريطانية لاحتلال العراق وهو حسين افنان الذي كان مترجما في الدوائر البريطانية في بغداد ثم اصبح فيما سكرتير مجلس الوزراء عند تاسيس الحكومة العراقية المؤقتة ، وكان افنان يعمل في المكتب التجاري لمحمود جلبي الشابندريمومذاك ، يذكر موسى الشابندر في ذكرياته ان افنان كان يحرضه على ان يستقل بنفسه ويشجعه وياسف على ضياع الوقت بهذا الشكل من العمل . وعندما ترك حسين افنان العمل في مكتب الشابندر والتحق بالخدمة الحكومية ، بدأ موسى التفكير في مستقبل حياته بعيدا عن العمل التجاري المباشر لدى والده وقد وصف ذلك بقوله : انا في واد وهو في واد اخر ..وبعد عامين تمكن من الحصول على جواز سفر واخبر والده برغبته بالسفر للدراسة في اوربا ، واضطر والده على الموافقة على مضض ، وكان ذلك في سنة 1922 بعد ان استقر العمل التجاري لدى والده وهو في الثالثة والعشرين من عمره .
انتهز موسى الشابندر وجوده في اوربا لتوكيد الصلات بين عمل اسرته التجاري والاوساط التجارية الاوربية في الماني وفرنسا وايطاليا بتوجيه من ابيه. دخل اولا معهدا لتعلم اللغات في برلين فضلا عن محاولات خاصة للتعلم باللغات الاوربية . الا ان انه وهو في غمرة ذلك الحماس لاكمال الدراسة في المانيا اصيب بمرض التدرن ، فنقل الى مصح في سويسرا قريبا من اخيه ابراهيم المقيم في ذلك البلد ،على ان يبق ستة اشهر للعلاج ، الا ان مكوثه في سويسرا استمر لخمسة سنوات . وفي تلك الفترة كان يبعث بمقالاته الانتقادية الى جريدة العالم العربي في بغداد بتوقيع ( علوان ابو شرارة ) التي جمعت في الستينيات وصدرت بكتاب يحمل اسم ( شرارات) . وفي برلين اكمل دراسته في كلية برلين في علم الاقتصاد ثم مضى الى سويسرا سنة 1930 ودرس في جامعة لوزان ونال فيها الدكتوراه في العلوم السياسية سنة 1932 .

الشابندر وانقلاب بكر صدقي
كان موسى الشابندر يرى في ياسين الهاشمي هو الامل في تقدم العراق فيما لو احيط بشبان متنورين ووطنيين مخلصين حتى قيل انه كان يحبذ الحكم الفردي العادل بعد فشل الاحزاب السياسية في استقرار العراق وتقدمه ، وانه كان يشجع العديد من الشخصيات السياسية على نصرة ياسين الهاشمي ومنهم كامل الجادرجي الذي استغرب الشابندر من امره فقد كان الجادرجي من اكثر مؤيدي الهاشمي فما الذي جعله يتحالف مع حكمت سليمان، وبهذا كان رأي الشابندر بانقلاب بكر صدقا وتأليف حكومة حكمت سليمان سيئا.
وبسبب هذا الموقف تعرض الشابندر الة قضية اتهم فيها من قبل حكومة الانقلاب بالمتاجرة بالاسلحة مع حكومة فرانكو في اسبانيا .
لما عاد موسى الشابندر الى بغداد في اواخر 1932 عين سكرتيرا للوفد العراقي الدائم لدى عصبة الامم في جنيف في كانون الثاني 1933 ولنجاحه في المهام التي اوكلت اليه نقلت خدماته الى وزارة الخارجية ، وفي اذار 1933 التحق بوظيفة سكرتارية البعثة العراقية في جنيف وبعد سنتين الحق بالسفارة العراقية في برلين وتولى منصب المفوضية في فترة منها . وهو بهذا المنصب اتهم بانه كان وسيطا ببيع الاسلحة للوطنيين الاسبان ضد الجنرال فرانكو المؤيد من المانيا في الحرب الاهلية الاسبانية . والطريف ان القائم باعمال المفوضية العراقية في باريس عبد العزيز المظفر اتهم بالتوسط ببيع الاسلحة الى الحكومة الاسبانية المؤيدة من الاتحاد السوفييتي .ولما حققت الحكومة العراقية بالامر فصلت الدبلوماسيين العراقيين من الوظيفة سنة 1937 .
يذكر الشابندر في مذكراته انه استدعي الى بغداد في نيسان 1937 فلما وصل بالقطار الى الموصل اقتيد مخفورا الى بغداد وفيها وجهت له تهمة بيع الاسلحة الى الجنرال فرانكو في الحرب الاهلية الاسبانية ، وبعد ان استدلت الحكومة العراقية في التحقيق على وجود اوراق مزورة وصلت الى المفوضية العراقي برأت ساحة الشابندر واطلق سراحه .
وفي نهاية سنة 1937 انتخب موسى الشابندر نائبا عن العمارة في مجلس النواب قبل ان يعاد الى السلك الخارجي ويعين سكرتيرا اولا في المفوضية العراقية في برلين قبل ايام من اندلاع الحرب العالمية الاولى وقرار الحكومة العراقية في قطع العلاقات مع المانيا ، فعاد الى بغداد عن طريق سويسرا فايطاليا فاليونان فتركيا .وفي بغداد اسند اليه منصب معاون مدير الخارجية العام .
تولى منصب وزير الخارجية في وزارة رشيد عالي الكيلاني المسماة وزارة الدفاع الوطني في 12 نيسان 1941 ، وفي عهد هذه الحكومة اندلعت الحرب العراقية البريطانية في مايس 1941 وانتهت بانهيار وزارة رشيد عالي الكيلاني فلجأ مع ناجي السويدي الى ايران ومكث فيها نحو خمسة اشهر حتى تم اعتقاله ، ثم نقل مع اخرين من اركان حكومة رشيد عالي الكيلاني الى جنوب افريقيا فوصل الى سالسبوري في روديسيا الجنوبية في شباط 1942 . وفي نيسان اعيد الى العراق وسجن في سجن ابي غريب وقدم للمحاكمة فحكم عليه بالحبس لخمس سنوات في 16 اب 1944 ، واطلق سراحه في 8 تموز 1947 .
اعيد للخدمة وفي السلك الخارجي وعين وزيرا مفوضا في ديوان وزارة الخارجية في الثلاثين من تشرين الثاني 1949 ، ثم ارسل وزيرا مفوضا ( سفيرا) الى الشام ثم سفيرا في واشنطن حتى عين وزيرا للخارجية في 8 اذار 1954 لكنه اعتذر ثم قبل بالمنصب في وزارة نوري السعيد في 3 اب 1954 وبقي بالوزارة نحو سنة وعاد سفيرا في الولايات المتحدة الامريكية ثم نقل سفيرا في ديوان وزارة الخارجية حتى قيام ثورة 14 تموز 1958 فاعتزل بعدها الخدمة والعمل العام واستقر في بيروت ثم بغداد فبيروت التي توفي فيها في الثاني من اب 1979 .
في عشرينيات القرن الماضي كان موسى الشابندر يكتب مقالات سياسية لاذعة بسخريتها وتهكمها بتوقيع مستعار هو ( علوان ابو شرارة) ثم جمعت هذه المقالات ونشرت سنة 1967 بكتاب يحمل عنوان ( شرارات) قدمها الاستاذ سالم الالوسي . وكتب مسرحية ساخرة وفكاهية باسم ( وحيدة) سنة 1929 مثلت بعد ذلك ونالت استحسان الجميع ، وهو بذلك يعد من رواد المسرح العراقي . ولعل من اجمل اعماله واكثرها اثرا كتابة مذكراته الكبيرة التي سماها ( ذكريات عراقية ، العراق بين الاحتلال والاستقلال ) التي طبعت سنة 1933 ، وقد اجلى بها صفحات مطوية من تاريخنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي .