قصص جيان تعبق برائحة تراب الوطن

قصص جيان تعبق برائحة تراب الوطن

حمدي العطار
«السنة الأخيرة» مختارات من القصص القصيرة تأليف القاص المغترب جيان - يحيى عبد المجيد بابان الصادر من دار امل الجديدة - دمشق يقع الكتاب 167 صفحة ويضم عشر قصص قصيرة، على الرغم من أن القاص قد غادر العراق سنة 1963 بعد الانقلاب البعثي الدموي ولم تسنح له العودة إليه طيلة الوقت ، ألا ان مؤلفاته (رواية دلمون 2008 ) وكذلك مجموعته القصصية(السنة الاخيرة 2015) التي بين أيدينا تدل على أن الوطن (العراق)

لم يغادر مشاعر وأحاسيس الكاتب أبدا! المجموعة كتبت على فترات زمنية متعاقبة وقسم منها قديمة قد ترجع الى سنة 1959 وقصة «اللهيب» نموذجا،التي ستكون موضوع النقد

1
عبرت القصص عن حالات أنسانية ومعاناة الانسان البسيط المضطهد أجتماعيا والمستغل اقتصاديا والمقهور سياسيا،قصص جيان تحتاج الى قراءة شبه تداولية ،فالخيال عنده ليس وهما ونستطيع بعد أدراك الشكل النصي أن نصل الى معنى العميق لتلك القصص الذي يغلب عليها السرد الوصفي ،ان اسلوب الادب التجريبي الذي أتخذه القاص يتطلب أستكشاف أمكانيات النص التخيلي،وسنتاول قصة اللهيب نموذجا «كانت ريح ندية تحمل نفثة لتراب الحقول، بدت الأرض منبسطة كراحة يد، الهواء يرتجف شفافا رائقا في الأبعاد تبرز من خلاله قرى متناثرة عند خط الأفق» ، وفي سرد محكم يصور لنا القاص طبيعة الريف العراقي (الناصرية) ومثلما يوجد الجمال الذي نتخيله من خلال الوصف فهناك الخشونة والقسوة التي علينا توقعها وسط هذه الطبيعة الجميلة طالما تتناول القصة (التغيير) عن طريق الثورة «وكانت فسحة الدرب الضيق المتعرج تمتد موغلة بين الحقول، وعلى حواشيه نبتت أعشاب الطرطيع والعاقول على ربوات خضراوات على طرف اليمين في حين أمتدت من جانب اليسار للدرب أرض واسعة غطتها شجيرات الشوك المصفرة»

2
في المقطع الثاني من القصة يضعنا الكاتب امام جوهر او ثيمة الحدث الذي جعل مجموعة من الفلاحين يسيرون في الطرق الوعرة من أجل الثورة على السركال وأخذ حقهم في الأرض التي يزرعونها «كانت رؤى عذافة الناضجة بالحيطة تبزغ كأشد ما تكون الآن، هو يحس بفرحة كبرى تغطي على وجوده، وسينشب يديه بالأرض التي ستؤول إليه.. هذا ما سمع به مرة في المدينة من الثوار، وسينحني فوقها، ينام على ترابها ويمد ساعديه ليحتضنها، ويغمض عينيه يشم رائحتها ويضغط صدره فوق أخاديدها بقوة، بضعف، ستكون الأرض جزءا من دمه، من عروقه، ستكون أرضه» جميلة هي احلام الثورة وثمارها للمضطهدين ولكن للثورة ضحايا ودما يسيل على الارض فهل يقوى على فعلها هؤلاء الفلاحين البسطاء الذين تعودوا على الطاعة والاستسلام والقناعة للسركال «أبو حسين» وجبروته وظلمه ؟ ليذهب بالخيال الى الوجهة الاخرى من الثورة المضادة حينما يصل أليهم السركال ليستهزأ بثورتهم وتمردهم «متبخترا فوق حصانه صافقا مؤخرته بخيزرانة رفيعة ... ترتسم بسمة شماته على وجهه، فتنتفخ الخدين بغضب حين يصرخ بهم «جلب أبن الجلب... ولك أنت كلك راعي» ويستمر حلم عذاقة وكأنه شريط سينمائي فيتصور نفسه يطيح بالسركال من فوق حصانه ويركله حتى يموت! وليس العدو للفلاحين فقط الأقطاعي السركال فهناك مخاوف أخرى «يا سيد أنجان الحكومة أخذت الكاع يا خوي بالكوة عود سنشوي»لكن ثورية ورمانسية عذاقة ليس لها حدود فالذي يحلم بأحتضان ترابه عليه ان يكون قويا وقاسيا ولكن للحلم أيضا حنانه «أنا أسعلكم!!منهو اليزرع ها ..، ومنهو ياكل الضيم والتعب! هم أحنه الأرض أرض الله يا زريج تمام» هنا لدينا مشكلة الاستغلال واضحة المعالم فالذي يحرث ويبذر ويزرع ويسجي ويحصد لا يملك الكاع ويقبض ثمن التعب بل السركال هو الذي يجني الثمن والحكومة تحمي السركال!

3
في المقطع الثالث بدت ملامح الثورة تتشكل حينما زحف الفلاحون (عذاقة وزلمه) الى المدينة وهم يحاصرون مقر الحكومة لأتمام الثورة ضد الظلم ،فكانت المنصة تستقبل الخطباء الثوار وتتفاعل معهم الجماهير بزغاريد النسوة»بأسم الفلاح والعامل،بأسم الخالصي والشيرازي» خطيب آخر»لقد خانت الحكومة دماء وأرواح شهداء ثورة العشرين «فلاح عريض المنكبين كان يقف جوار منصة الخطيب قائلا بصوت غضوب «جا ما نجتلهم ونحرك سلفات سلفاتهم!!» يرجع الخطيب «والحكومة باعت نفسها للأجنبي وباعت شعبنا أبشكل ما جانوا يبيعون العبيد» «كولاللي شنو بكه علينا» يسألأه الفلاح «اللي بكه ما نخلي للحكومة عرك فاسد بديرتنا !شد كولون!!»

4
هو المقطع الاخير الذي يسرد فيه القاص سقوط القلعة التي تمثل الحكومة بعد معركة دامية يستشهد فيها (عذاقة) - كل حي عليه موته- وتسقط القلعة بيد الثوار ويرى رزيج نفسه «يسدد ماسورة بندقيته نحو وجه عريف الشرطة وكان ذاك يزحف مرتعبا عند حافة الجدران،وعيناه تشخصان نحو فوهة البندقية ويردد- أخوي ..أخوي مروتك.. أنا مامور.. والله مامور!....وتقدم رزيج قريبا من العريف وأخفض ماسورة بندقيته .. وبصق بوجه العريف وشتمه ثم أعقب بألم «جلب جتلت واحد يسوه شيخك»..كان صوت العريف يولول كأصوات النساء عاليا،وسدد رزيج نحو عينيه وجزء من أنفه، ثم ضغط إصبعه بهدوء فدوت الرصاصة وسقط العريف مضرجا بدمه»
تتلخص لذة قراءة مجموعة (السنة الاخيرة) في قوة السرد لدى الكاتب ومضامين القصص الانسانية وملامستها لحاجات الناس الى الانعتاق من العبودية والاستسلام والخضوع،وما أختيارنا لقصة اللهيب التي تناولت الثورة ضد الاستغلال والظلم والحكم الفاسد الا لكي نؤكد على المسار العام لقصص المجموعة التي حملت عناوين متنوعة (أعماق الطيبة-العربة رقم 63-تعدون-أيام من الفاجعة-تحقيق-رسالة-الثلج-العجوز الزائرة-من دفتر صحفي السنة الأخيرة)