القاص المهاجر (جيان) في مختارات  من قصصه القصيرة..مواهب أسكتها عصف السياسة

القاص المهاجر (جيان) في مختارات من قصصه القصيرة..مواهب أسكتها عصف السياسة

شكيب كاظم
القاص والروائي العراقي المهاجر المقيم في العاصمة الجيكية (براغ) والمولود في بغداد عام 1930 والذي قرأت أولى قصصه في مجلة (المثقف) العراقية الرائدة، التي أصدرت في بغداد صيف عام 1958، وما لبثت أن عصفت بها الدكتاتورية الفاقدة لبوصلتها فأغلقتها، كتب (جيان) حوار قصصه شأنه شأن مجايليه من قصاصي خمسينات القرن العشرين، فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وأدمون صبري، كتبوا الحوار بالعامية البغدادية الموغلة في عاميتها،

حتى وأنت نقرأ هذا الحوار، تحدث نفسك، ما أكثر هذه المفردات العامية التي طواها الدهر، وما عاد أحد يتحدث بها، وكأن اللهجات العراقية، تحاول نزع خواصها والإقتراب من العاميات الأخر، عاميات الجنوب والغربية وبغداد والموصل وغيرها.

الحوار العامي
لقد كتب قصاصو الخمسينات الحوار بالعامية، متأثرين بمناهج الواقعية الاشتراكية التي تحاول ان تكون أمينة في نقل خوالج الناس ولواعجهم والتي أراها أقرب إلى الفعل التسجيلي البعيد عن الإبداع، نلمس ذلك الحوار في قصص مجموعته التي أطلق عليها (جيان) واسمه الحقيقي (يحيى عبد المجيد بابان) عنوان (السنة الأخيرة) وهي مختارات مما كتبه من قصص قصيرة، وقد صدرت عن دار أمل الجديدة بدمشق بطبعتها الأولى 2015، واشتملت هذه المختارات على عشر قصص قصيرة، واضعين في الحسبان، أن قاصنا المبدع الرائد (جيان) من الكتاب المقلين جداً، حتى ليكاد يضارع مبدعنا الكبير الراحل محمود عبد الوهاب في قلة منتجه، غير ناسين الدكتور مالك المطلبي، السائر على النهج ذاته، وكانت قصته الأخيرة التي حملت عنوان (من دفتر الصحفي. السنة الأخيرة) واسطة عقد هذه المجموعة الرائعة، التي تمثل خلاصة الخلاصة لما كتبه القاص (جيان) وهذه القصة التي وشح بعنوانها، مجموعته القصصية هذه. التي تدون وقائع الأشهر الأخيرة من أيام الجمهورية الأولى (1958-1963 ) وعلى وجه التحديد خريف سنة 1962، من خلال حيوات عديد الأدباء والشعراء والمثقفين العراقيين، وسهراتهم في أروقة مبنى إتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في منطقة العلوية ببغداد، حتى أنك تكاد تتعرف على الكثير منهم، إذ يورد (جيان) أسماء بعضهم: حسين مردان، وعبد المجيد الونداوي ونزار عباس وعلي الشوك وبلند الحيدري، فضلاً عن الأسماء الأولى لبعضهم مثل رشدي اللاثغ بالراء ، وهو الشاعر رشدي العامل (توفي 1990 ) والصكار، أي الخطاط والشاعر محمد سعيد الصكار، وغانم، ونعرف من خلال استقرائنا للحياة الثقافية والسياسية في العراق أنه غانم حمدون (توفي (2017، وذاك الذي يسكن قريباً من مقهى البرازيلية، وهو لدى التدقيق. الروائي غائب طعمة فرمان (توفي (1990 الساكن في محلة المربعة المطلة على شارع الرشيد.
تتلمس في هذه القصة الطويلة نسبياً، إذ امتدت إلى أربعين صفحة تلمس خيبة المثقفين العرقيين بهذا الذي يجري في تلك السنة الأخيرة ( (1962فهذا يبحث عن جواز سفر، والحاكم العسكري العام يمنع عنه جواز سفره، مخاطباً جيان:
– يا جيان الجواز وجود عيني للإنسان، في شكل أوراق رسمية، ودونه الجحيم.
” أذكر اننا تعهدنا في تلك السنة الأخيرة، ألاحتفال بعيد رأس السنة ( (2000في مبنى إتحاد الأدباء في العلوية في بغداد في العراق، الأحياء منا يتذكرون أصدقاءهم الموتى، ونشرب نخب القرن الحادي والعشرين” ولأن (جيان) كتب قصته هذه عام 1994، أي بعد واحد وثلاثين عاماً في المنفى، فقد علم أن رشدي قد مات، وتوفي قبله حسين مردان ثم مجيد الونداوي وليست لديه أخبار عن سعدون وهادي وإسماعيل، ولا حتى الأصدقاء الذين بقوا في الوطن، وربما مات بعضهم.
إزاء ذلك تشرد المرفأيون والأصدقاء في أرجاء الكوكب: سعدي، الصكار، الراضي، علي الشوك، بلند الحيدري، يا للألم يا لعذاب المنفى. تراجع ص163-164 .

البون بين المظهر والمخبر
في قصته (أعماق طيبة) وعنوانها يفصح عن محتواها وفحواها نجد البون شاسعاً بين المَظهر والمَخبر، مظهر (خضر) بطل القصة هذا الطويل البدين، رث الثياب أشعث الشعر، حتى أنه ليثير إزعاج بعض جلاس المقهى الذي يذهب إليه لاحتساء قدح شاي ساخن، الأمر الذي يدفع بصاحب المقهى لأن يطلب منه مغادرته، كي لا يزعج مرتادي مقهاه من الميسورين، لكن (خضراً) هذا ينطوي على مَخْبَر طيب ورقيق، فهو يشفق على هذه المستجدية العمياء، التي يحاول بعضهم التحرش بها، قائلا له: ألا تراها فقيرة وعمياء وعرجاء، مو خطية؟! ص20.
ما اكتفى هذا المسكين بالدفاع عنها، بل نفحها قطعة نقدية، فرفعت إليه وجهاً انثوياً شاكرة إياه بصوتها الطفولي. وأنزوى (خضر) قرب عمود صخري متابعاً بنظره لأجساد البشر تندفع باتجاهات شتى مغايرة، وكان كل واحد يستشعر السأم بدفينة أعمــــــــــاقه ويتـــطلع لروحه بضجر… ص.21

الطبع الغالب لا التطبع
كل شخوص قصص (جيان) أناس طيبون، لا بل أكثرهم، وهو – كما قلت- تأثر بمنهج الواقعية الاشتراكية، الحاضة على تأكيد الجوانب النبيلة لدى الإنسان، والحث عليها، تجد ذلك لدى (خضر) بطل قصة ( أعماق طيبة) وتجدها – كذلك- عند هذه المرأة السمينة التي تتولى توليد هذه الشابة في قصة (العربة (63 التي يصور لنا (جيان) من خلالها وبلغة رشيقة جميلة طيبة ناس ذلك الزمان وإيجابياتهم، قبل أن يحطم العصف السياسي بعد تموز 1958 منظومة القيم العراقية، فهذا الشاب، الموظف، يصطحب معه في سفرته زوجه ملتحقاً بوظيفته المنقول إليها إدارياً، على الرغم من أن زوجه حامل في شهرها التاسع، التي يفجؤها الطلق، وهي في عربة القطار تلك الضاجة بالمسافرين، حتى لا تكاد تجد لك فيها موطئاً لقدم، فكيف بامرأة جاءها المخاض، كي تطلب من زوجها، أن يذهب طالباً معونة تلك ألامرأة، وإذ يذهب إليها بعد لأي وتردد وهو يرى حالة زوجته (ساجدة) المتردية، ولعله لم يحسن عرض حاجته تجيبه المرأة السمينة المدخنة:
– من قال لك إني طبيبة، وما أدراني بمرضها؟
غير أنها تعود إلى حقيقتها، وقد لمست حيرة هذا الشاب الخجول، تعود إلى طيبتها الطَبْعِيَة لا فظاظتها التطبعية، فتتولى توليد الشابة وليدها البكر.
وإذ قرأت هذه القصة الجميلة الملتاعة وأعجبت بها عند نشرها أول مرة في مجلة (المثقف) سنة 1958 ، عدت لقراءتها مرة ثانية في هذه المجموعة القصصية، مستمتعاً مشدوداً، أترقب ما ستؤول إليه عملية التوليد، وكأني أقرؤها للمرة الأولى.

أدب حاث على الكراهية
أما قصة (اللهيب) المكتوبة في 24/6/1959، قصة هي نتاج أيامها ومرحلتها وإذ نصصت على زمان كتابتها فلأشير إلى سنوات تصاعد الأدلجة وعلو الشعارات والتصارخ والهتاف وكره الآخر مع أن حوادثها غريبة عن واقع الحياة العراقية، تتحدث عن مهاجمة عدد من الفلاحين لبناية يرابط فيها عدد من أفراد الشرطة، وتنتهي بقتل أفراد الشرطة كلهم – ولا نعرف كيف قتلوا وهم يعتصمون بتلك البناية العالية، التي أطلقوا عليها اسم (الجلعة) أي القلعة؟ وما أكتفى الفلاحون الثوار بقتل الشرطة جميعهم، بل أجهزوا على الباقي الوحيد على قيد الحياة، عريف المخفر، صاباً عليه كل حقد الإنسان وقسوته، على الرغم من اللواذ بكبيرهم سيد (رزيج) مستعطفاً إياه الإبقاء على حياته، لينهي (جيان) قصته المأساوية هذه بالدم المتدفق من العريف ثم ضغط أصبعه بهدوء، فدوت الرصاصة وسقط العريف مضرجاً بدمه” تراجع ص76.
ولنقف عند القتل بهدوء، وتأكيد القسوة، هذا الأدب الدموي، أنتج لنا شلالات الدم التي كان (جهان) أحد ضحاياها، والتي أجبرته على مغادرة وطنه صيف سنة 1963، ولم يره منذ تركه، فمن يزرع الشوك لا يحصد به العنبا كما يقول الشاعر القتيل هو الآخر – صالح بن عبد القدوس،
وكان هذا الأدب جزءاً من (أيام الفاجعة) القصة التصويرية التسجيلية لحوادث يوم الجمعة الثامن من شباط / 1963، منذ أن شاهدت (سعدية) وهي تنشر الملابس المغسولة على حبال سطح دارهم ضحى ذلك اليوم العاصف، شاهدت طائرة الهوكر هنتر الحربية، صاعدة إلى كبد السماء لتخر بأقصى سرعة نحو الأرض قاصفة بالصواريخ التي رجت أركان المدينة وانتهاء بغسق ذلك اليوم، ومقتل أم زوجها بالرصاص المنهمر قرب وزارة الدفاع بباب المعظم الأم التي خرجت إثر ابنها الغِر الذي اندفع نحو وزارة الدفاع زاعقاً هذه مؤامرة ضدنا.
ويظل (جيان) في قصته (تحقيق) يصور ما تلا ذلك اليوم من اعتقالات وبطل القصة (فاضل) الذي يحيلني ويعيد لذاكرتي الأديب العراقي المغترب (فاضل العزاوي) فلقد قرأت ما يقترب من حوادثها في فصل كتبه فاضل العزاوي عنونه بــ(السيف والروح هادم الأوثان داخل المعبد المقدس) في ضمن كتابه الجميل (الرائي في العتمة. هكذا تكلم عابر المتاهات عن زمانه) الذي نشر عام 2016، وهذا كله من نتائج العصف المدمر الذي حاق بالعراق.

مواهب موؤدة
إن يحيى عبد المجيد بابان المعروف إبداعياً باسم (جيان) طاقة إبداعية رائعة وخلاقة، عصفت بها أنواء السياسة العراقية المضطربة، وقد دفعته للانزواء والصمت، إلا لماماً، قصة هنا، وقصة هناك، وخسارة للأدب العراقي ان توءد هذه المواهب وتصمت، في وقت تضج الساحة الثقافية بالزعيق والعجيج، وأراه يتحمل وحده نتائج هذا الصمت ولاسيما بعد أن عاش في مغتربه، حيث يستطيع الكتابة والإبداع بعيداً عن العسس، وكما أسفت على صمت الرائع محمد روزنامجي المطبق، فأني لآسف على قلة منتج (جيان) وإنها لمناسبة ان ادعوه لرفدنا بإبداعه القصصي فما زال في العمر بقية، ومازالت في العقل وقدة كي يكتب ويبدع ودليلنا هاتان الروايتان (دلمون) 2008 والأخرى (المرفأ وبغداد) التي طبعتها له دار المدى عام 2017.