المقيمية البريطانية في العراق .. البداية والصراع

المقيمية البريطانية في العراق .. البداية والصراع

علي مدلول راضي الوائلي
في اواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر واجهت بريطانيا خطر نابليون ومحاولته السيطرة على الهند وامكانية اتخاذ الانهار العراقية طريقا لتحقيق هدفه هذا، ففي السادس عشر من اب عام 1797 كتب نابليون إلى حكومة الادارة في فرنسا يقول فيها " ان المواقع التي نحتلها على شواطيء البحر المتوسط تجعل لنا السيادة على هذا البحر واذا احتلينا مصر فسيكون لنا الطريق المؤدي إلى الهند"

وفي رسالة مطولة بعثها إلى وزير الخارجية كرانفيل كتب هنري دونداس وزير الحربية البريطاني ان امام نابليون اربعة طرق للتقدم إلى الهند وان ارجح هذه الطرق هو من مصر عبر الصحراء إلى باشويه بغداد والانحدار منها عبر النهر إلى البصرة وتحصينها واتخاذها مقرا لجيوشه ولتدابيره السياسية والعسكرية ثم من رأس الخليج العربي التوجه إلى الهند وذكر دونداس في رسالته ان نابليون سيتجنب ما استطاع اخطار البحر إذ لايالفه لكنه سيحاول معتمدا على جهوده وحماس اتباعه ان يحقق غاياته بالسير إلى حلب فوادي الفرات على غرار ما فعله الاسكندر الثالث
(Alexander III) من اتباع مجرى نهري دجلة والفرات حتى الخليج العربي والتقدم من هناك بمحاذاة الساحل إلى الهند ولما احس البريطانيون بعزم نابليون مهاجمة الهند وامكانية اتخاذه الانهار العراقية طريقا لتنفيذ هذا الغزو عينوا في بغداد مقيما سياسياً دائمياً حيث تم الاتفاق بين الحكومة البريطانية وشركة الهند الشرقية على اختيار هارفورد جونز (Harford Jones) ليرأس المقيميه البريطانية في بغداد.
وصل جونز إلى بغداد عام 1798 وخصص لحمايته حرس من الهنود وكان على هذا المقيم ان يقوم بتعزيز النفوذ البريطاني من جهة ومراقبة ومنع النفوذ الفرنسي من الامتداد نحو الشرق وتهديد المصالح البريطانية من جهة اخرى كما كان على المقيم جونز ان يجمع المعلومات من اية جهة كانت يعتقد انها قد تكون ذات فائدة سواء لشركة الهند الشرقية أو لبريطانيا كما كلف باعداد تقرير مفصل عن احوال العراق الاقتصادية وان يظل على اتصال منتظم مع حكومة بومباي لنقل الاخبار بين الهند وبريطانيا عبر العراق وان يعمل على التأثير في والي بغداد سليمان باشا الكبير 1780-1802 وتحريضه ضد مخاطر غزو فرنسي محتمل وتشجيعه على مقاومة المخططات الفرنسية للمحافظة على المصالح البريطانية في الانهار العراقية . وقد نجح السفير البريطاني في استانبول اللورد الجين (Lord Elgin) في الحصول على امر سلطاني يقضي بقبول هارفورد جونز قنصلاً لبريطانيا في بغداد مع تمتعه بالحصانة والامتيازات وقد نصت هذه الامتيازات على حق جونز في حماية التجار البريطانيين في ولاية بغداد وتنظيم رحلات السفن البريطانية كما يتوجب على السفن المحلية نقل حاجات القنصل البريطاني وامتعته.

حقق تأسيس بريطانية مقيمية بغداد فوائد مهمة للمصالح البريطانية فالى جانب انها كانت مؤشراً على النفوذ البريطاني وتعزيزه في العراق، فأنها خدمت تحقيق هدفين: الأوّل انها اصبحت مركزا لجمع المعلومات المتعلقة بالتطورات في فارس وافغانستان، والثاني انها تحولت إلى مركز مهم لنقل البريد البري بين الهند وبريطانيا والمحافظة على مصالح بريطانيا في الانهار العراقية بعد ان امتلكت وسائل النقل النهري في العراق فقد كانت احدى السفن البريطانية ترابط بالقرب من مقر المقيمية في بغداد .
ازداد النفوذ البريطاني في العراق في المدة التي خدم فيها كلوديوس جيمس ريج (C.J.Rich) 1808-1821 بوصفه مقيماً في بغداد. فقد اقلق تولي سليمان باشا الصغير 1808-1810 منصب الولاية في بغداد المسؤولين البريطانيين فقد ثارت لديهم الشكوك من ان الوالي الجديد سينتهج سياسة التقارب مع الفرنسيين لذا ارتأى المسؤولون البريطانيون تعيين ريج قنصلا لبريطانيا في بغداد خلفاً لجونز كان خلالها اكثر خطورة من أي ممثل اجنبي في بغداد اقام ريج في بغداد حيث مقر الوالي، وحيث يمكنه موقعه المتوسط من ادارة شؤونه السياسية والحصول على انباء ما كان يدور في اوربا وقد استطاع ريج في مدة ثلاث عشرة سنة ان يضيف الشيء الكثير إلى مكانة مقيميته التي اصبحت ملتقى كبار الموظفين والاشراف وداراً للبحث التنقيبي عن الآثار.
استطاع ريج ان يحصل من الوالي عبد الله باشا 1810-1813 على عدة امتيازات فقد استبدل لقب المقيم البريطاني في بغداد بلقب الممثل الدبلوماسي في تركيا العربية، كما حصل من الوالي على امتياز يمنع بموجبه هروب المشتغلين في الملاحه عند البريطانيين في مياه البصرة، وقد ظل عبد الله باشا حريصا على الالتزام بهذه الامتيازات طوال الفترة القصيرة التي قضاها في الحكم.
كان موقف داود باشا والي بغداد 1816-من الممثل البريطاني في بغداد حسنا في بداية الامر غير ان هذا الموقف ما كان ليدوم لان داود باشا بات يشعر ان هناك من يشاركه في الحكم كما اثارت سياسة داود باشا مخاوف بريطانيا من ان تهدد هذه السياسة مصالح بريطانيا التجارية والملاحية فقد انتهج داود باشا سياسة محمد علي في مصر وسعى مثله إلى الاستقلال فقد اعد داود باشا نفسه لأن يستغل كل السبل للاستفادة من تجارة الهند لصالح خزينة الولاية فقد احتكر داود باشا شراء المنتوجات العراقية وتصديرها كما امتلك السفن النهرية كما حاول داود باشا تصفية نظام الامتيازات والذي كان يشكل عبئاً ثقيلاً على كاهل التجار المحليين والذي تضمن عددا من الامتيازات للبريطانيين ووصلت اجراءات داود باشا ضد البريطانيين ذروتها عندما اعلن كبار الباشوات انه ليس للبريطانيين حقوق معترف بها في بغداد وانه في المستقبل ستجمع العوائد عن البضائع البريطانية بضعف النسبة التي تجمع بها.

رد ريج على اجراءات داود باشا بان اوقف كل اشكال النشاط التجاري الذي تقوم به السفن البريطانية وسفن الاهالي ولم تمنع الشكاوى التي وجهها ريج إلى حكومة الهند مما عمله داود باشا فحسب بل انها اثارت مشاكل عديدة حيث بدأت مضاعفة الضريبة على البضائع البريطانية فاعلن ريج عزمه على الانسحاب من العراق إلى الهند فمنعه داود باشا وحاول اعتقاله وعندما وصلت انباء تلك الخلافات إلى حكومة الهند كتب الفنستون (Elphinston) حاكم بومباي في الثاني عشر من ايار عام 1821 خطابا شديد اللهجة إلى الوالي داود باشا يبلغه فيها ضرورة رفع القيود المفروضة على المقيم البريطاني وان يسمح له بمغادرة بغداد رفض داود باشا هذه المطاليب فقامت السفن البريطانية بقطع المواصلات بين البصرة وبغداد واخذت تجوب الانهار العراقية كما هددت بريطانيا بقطع العلاقات التجارية بين الموانيء البريطانية وميناء البصرة واستخدام القوة البحرية لقطع تلك العلاقات اذا لزم الامر ادت الاجراءات البريطانية إلى تراجع داود باشا واستعادت بريطانيا كافة الامتيازات التي كانت تتمتع بها بموجب وثيقة التراضي التي قدمتها حكومة الهند إلى داود باشا بواسطة ممثلها في البصرة روبرت تايلر (R.Taylar) ، وقد تضمنت وثيقة التراضي هذه اثني عشرا بنداً وافق عليها داود باشا واقرها دون تحفظ وكانت اهم البنود التي تخص الملاحة البريطانية في الانهار العراقية الالتزام بنصوص الامتيازات البريطانية كما هي محددة في المعاهدات والفرمانات قديمها وحديثها كما نصت بان لاتجبى أي ضريبة على السفن البريطانية كعوائد مرور بين البصرة وبغداد فيما عدا ضريبة واحدة حددت بـ 3% على البضائع البريطانية كما منعت وثيقة التراضي داود باشا من الاستيلاء على القوارب البريطانية .

عن رسالة ( شركة لنج للملاحة 1861-1914-
دراسة تاريخية)