الشاعر الجواهري وسكناه في الاعظمية سنة 1949

الشاعر الجواهري وسكناه في الاعظمية سنة 1949

عبد الستار نور علي
أُعتُقِل شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري في تموز (الأول من شهر رمضان) عام 1949 إثر قصيدته في مدح الدكتور هاشم الوتري عميد كلية الطب ببغداد حينها وفي حفل تكريميٍّ أقيم له بمناسبة قبوله عضواً في الجمعية الملكية البريطانية للأطباء، وهي القصيدة التي أثارت زوبعة وعاصفة شديدتين، ومطلعها:

مجَّدْتُ فيكَ مَشاعِراً ومَواهبا
وقضيْتُ فَرضاً للنوابغِ واجِبا
بالمُبدعينَ ” الخالقينَ ” تنوَّرَتْ
شتَّى عوالمُ كُنَّ قبلُ خرائبا

كان حجم الحضور في الحفل كبيراً حيث رجالات ذاك العهد من وزراء ورؤساء وزراء سابقين وبكَوات وباشوات يتوسطهم (أحمد مختار بابان) ممثل البلاط ورئيس ديوانه، اضافة الى حشد من الشباب وطلاب كلية الطب وعلى حدائق المسبح. وكان الجواهري قد بيَّت النية بأن يستغل دعوته للمشاركة في المناسبة وحجم الحاضرين وشخصياتهم في أن يكتب قصيدةً عاصفة مثيرة يُعبِّر فيها عما في نفسه من مشاعر استياء وغضب وحنق على الاستعمار البريطاني وأعوانه في العراق حكاماً ورجال سلطة وبأقسى وأعنف هجوم وثورة في شعر الجواهري.

كان للفترة التاريخية والأحداث السياسية المضطربة في العراق دور كبير في اثارة مشاعر الغضب والاستياء لدى الجواهري وتفجر القصيدة العارمة التي أحدثت ما أحدثت من تبعات ونتائج كبيرة بعدها.كان وقتها ابنه الأكبر المرحوم فرات معتقلاً في سجن الكوت، وقبلها استشهد أخوه جعفر في معركة الجسر (جسر الشهداء) بين شارع الرشيد ومنطقة الجعيفر في مظاهرات وثبة كانون الثاني 1948 ببغداد ضد معاهدة بورتسموث بين العراق وبريطانيا، والذي رثاه بقصيدته الشهيرة التي ألقاها في الحفل التأبيني الكبير الذي أقيم للشهيد في جامع الحيدر خانه في شارع الرشيد وذلك في 14 شباط 1948 والتي مطلعها:

أتعلمُ أم أنتَ لا تعلمُ بأنَّ جراحَ الضحايا فمُ

اضافة الى اعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي فهد ورفاقه، وليس آخرها ظروفه العائلية في ضيق ذات اليد بحيث أضطر الى بيع مطبعة جريدته (الرأي العام). لذلك وهو يعيش هذه الظروف القاسية المضطربة والمؤلمة قرّر مع نفسه استغلال مناسبة دعوته لحفل تكريم هاشم الوتري ومن الوتري نفسه ليضمِّن القصيدة مايجيش في صدره ومايريد ويهدف اليه، وهو القائل في مذكراته حول الدعوة الى الحفل المذكور: “كان ذلك بالنسبة لي مطمحاً ما بعده من مطمح وعيداً سعيداً وفرصة سانحةً كنت مستعداً أن أضحي بحياتي في سبيلها وانا في مثل هذه الظروف الصعبة وعلى مثل تلك الحال وفي صميم الوضع الرهيب والمتأزم في العراق.”

و يستمر الشاعر في سيله العرم الذي جرى فيضاناً من ضربات أمواج هائجة موجعة أحرجت الممدوح هاشم الوتري فجعلته يردد بصوت مسموع مقصود (هاي شنو؟!) لكي يُظهر عدم رضاه أمام المسؤولين الحاضرين، مثلما أدهشت الحاضرين وأثارت نفوسهم مفاجأة مذهلة أعيت ألسنتهم . وكان الجواهري كأنه في معركة مثلما يذكر في مذكراته ومما ورد في القصيدة ومن أقوى واعنف ما قاله الجواهري في خصومه:

يتبجحونَ بأنَّ موجاً طاغياً
سدُّوا عليهِ منافذاً ومساربا
كذبوا فملءُ فمِ الزمانِ قصائدي
أبداً، تجوبُ مشارقاً ومغاربا
أنا حتفُهمْ ألجُ البيوتَ عليهمُ
أغري الوليدَ بشتمهمْ والحاجبا

خرج الجواهري من التوقيف بالأمن العامة ببغداد قبل يوم من عيد الفطر وقد قضى شهراً رهن الاعتقال. كانت عائلته في النجف حيث سافرت قبل يوم من موعد الحفل، إذ كان يتوقع الاعتقال. وقد اعطاها مبلغا من المال يكفيها عيش كفاف كما يقول لمدة ثلاث سنين وهو المبلغ الذي تسلمه قبل أيام من القائه القصيدة ثمناً لبيع مطبعة جريدته (الرأي العام)، وقد باعها بسبعمائة دينار وهي ثروة كبيرة بمقاييس تلك الأيام. وقد احتفظ لنفسه بستين ديناراً وأعطى الباقي لعائلته .
أقام في بيت صديق له حتى وجد داراً في منطقة الأعظمية وعلى نهر دجلة، وقد كان يسكن في العيواضية حينها. بعث الى عائلته للعودة الى بغداد. وفي الأعظمية أحس الشاعر بدفء الجيرة والصلة الوطنية والانسانية الحميمة في ما حوله من الناس، مشاعر خالية من اي شائبة ومرض من اختلاف مذهبي أو سياسي ، إذ أغدق عليه أهل الأعظمية كلَّ مشاعر الاعتزاز والاحترام المقرونة بالود والمحبة والأمن:

” لقد أمضينا في هذا العش الجديد في الأعظمية وبعد كل تلك الآلام والمكابدة خمس سنوات بين جماهير الأعظمية وبيوتها وشبابها معززين مكرمين لم نسمع خلالها ولا كلمة نابية، بل حباً ومودة متبادلين.” المذكرات ج2 ص 67 .
أقام الجواهري في ربوع الأعظمية وأهلها خمسة أعوام كما يذكر. وفي سكناه بالكرادة الشرقية بعد عقد من الزمان تأتي مفارقة المقارنة بين السكن والعلاقة الانسانية في المنطقتين بما عُرف عن سكانهما من اختلاف في المذهب وفي الاتجاهات السياسية. وما نعرفه عن الجواهري وعائلته مذهباً ومدينة (النجف) واتجاهاً سياسياً يسارياً محسوباً على الحزب الشيوعي، وبسبب انتماء أبنائه اليه لا هو شخصياً.
ولنقرأ الجواهري وهو يروي بنفسه:

“وبعد عقد من الزمن في (الكرادة الشرقية)، وهنا المفارقة التي أريد أن أشدد عليها، لم نكتفِ بأن نسمع ما لايجوز أن يُسمع فحسب من البذاءات والمضايقات بل وأن أُرمى بسهم نشَّاب باقٍ جرحه حتى الآن على جفني الأيمن ولا أدري كيف كان من حظي لو صح هذا التعبير مع الدم الذي صبغ ثيابي كيف تخطئ هذه النشابة مقلة عيني ولا أريد أن أزيد على هذه المفارقة لأن الأعظمية هي مقر الإمام أبي حنيفة والكرادة الشرقية مقر إمام هاشمي جعفري ومع هذا وحتى هذه الساعة وقد دخلنا العشرة الأخيرة لنكون في القرن الواحد والعشرين فما ينفك النابحون في العراق والمستغلون خارجه ينبحون بالنعرة الطائفية مستغلينها ومتاجرين بها.”
الفترة المقصودة التي يشير اليها الجواهري في اقامته في الكرادة الشرقية هي بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 وبالتحديد 1959 / 1960 وهي فترة خلافه المعروف مع عبد الكريم قاسم واعتقاله ثم اطلاق سراحه وذلك إثر مكالمة هاتفية من ابنته الصغرى لعبد الكريم قاسم،