الطيب تيزيني: القاتل الذي أنتج داعش هو الغرب وتبعه الشرق

الطيب تيزيني: القاتل الذي أنتج داعش هو الغرب وتبعه الشرق

سامر إسماعيل
بين حمص ودمشق يعيش اليوم المفكر السوري الطيب تيزيني (1934م) منكبًّا على كتابة سيرته الذاتية، بمساعدة ابنته الباحثة الاجتماعية منار تيزيني، حيث تظهر الفتاة أنها سر أبيها، فهي من تواظب على تحرير السيرة، وعلى تنظيم مواعيد الدواء، وتشرف على مراسلات الأب مع مؤتمرات ولقاءات وندوات دولية لم ينقطع عنها صاحب كتاب «من يهوه إلى الله»؛

فالباحث والمفكر السوري الذي حمل لقب فيلسوف، وأصدر أول كتاب له باللغة الألمانية، يبدو عنيدًا أكثر من أي وقتٍ مضى في مناصرة المستضعفين، والعيش قريبًا من حكايات الناس وهواجسهم.

الطيب يخبر «الفيصل» عن مراجعاته النظرية الأخيرة، وعن إعادته النظر في كتبه التي أصدرها، ولماذا طرأ هذا على نظرته للإنسان والعالم. المفكر الذي اختير عام 1998م واحدًا من أهم مئة فيلسوف في العالم من المؤسسة الألمانية الفرنسية، يدعو اليوم إلى إعادة قراءة العالم في مواجهة ظاهرة الإرهاب الدولي، كاشفًا في هذا الحوار أنه على وشك تحويل بيته الكائن في حي دمشق الجديدة إلى مركز أبحاث اجتماعية. شجون كثيرة ونقاش قطعته مرات عديدة دموع الطيب كلما تذكر ما حلّ بوطنه، وما آلت إليه حال الناس في بلاده التي تدخل منتصف العام السادس من الحرب. إلى نص الحوار:

* عندما نتحدث عن الفكر العربي، ماذا نقصد بالفكر العربي وما سماته وما عدته الفكرية؟
- هذا سؤال يطرح سؤالًا آخر: هل هناك فكرٌ ما صافٍ في مرجعيته إن كان فكرًا فرنسيًّا أو ألمانيًّا أو عربيًّا، لكن لا توجد حالة من هذه الحالات، فكل فكر مشوبٌ بما لا يستطيع المفكر نفسه أن يضع يده عليه، لكن البنية الأخيرة هي التي تشكل رصيدًا، والفكر العربي خاضع لهذه العملية، الفكر العربي مر بمراحل متداخلة كثيرة من بداياته، وخصوصًا في الجزيرة العربية التي كانت مأوى للتجار والقوافل، وهذا كان ذا أهمية كبرى؛ لأن هناك من يقول: إن الإسلام نشأ في بلاد الشام، خصوصًا أن الرسول الكريم كان يزور الشام كثيرًا، وأشاد بالشام وأهلها وبفكر الشام وأهلها. إذًا ليس هناك فكرٌ صافٍ بشكلٍ مطلق، حتى لو قمنا بعملية تفكيكٍ تحليلية قد لا نشهد النهايات لذلك. وعدم الصفاء أن اللحظة المعنية مشوبة بلحظات أخرى، فلست قادرًا على وضع اليد على شيء هو نسيج ذاته، وهو بلغة المنطق هو هو، ولكن بعد مروره بمراحل قد لا نستطيع الوصول إليها، إذ إنه طبقات تاريخية تجثم فوق عشرات الطبقات، وهنا يأتي منهج الحفريات، المنهج الحفري الذي أشدد عليه في عقود ماضية في الغرب كما في العالم العربي، لذلك أن نتحدث عن فكر عربي أو فلسفة عربية أمر وارد.

* لكن هل نستطيع أن نتكلم عن فيلسوف عربي، وهل يستطيع أصلًا فيلسوف عربي أن يبزغ ولا يتعرض اليوم لقمع أو تكفير من هذا الطرف أو ذاك؟
– هذه مسألة تاريخية لها منهجيتها، وتنتظر نضوج ظروفها الموضوعية، فكما أشرتُ لك من قبل الفكر العربي ليس صافيًا، مثله مثل أي فكر في بلد ما من العالم، حتى الفيلسوف الألماني نيتشه قال: «ما أصعب أن تكون وريثًا»، وبهذا المعنى جميعنا ورثة. فإذا أخذت ما كتبه مثلًا ابن رشد، أو الرازي، أو ابن سينا، أو فرح أنطون الحديث، هؤلاء فلاسفة سبقوهم، كما تأثر العظماء بآخرين، لا يوجد شيء صافٍ في ذاته، الذات هي بنية، ليس هو شيئًا منفردًا، هناك كتاب صدر مؤخرًا بعنوان «حياة إيزيدور»، وهذا كان فيلسوفًا نشأ في أعقاب التقدم التاريخي العربي الشرقي قبل ستة قرون، هذا الرجل كان منتهيًا في نظر المؤرخين، فاكتُشف مؤخرًا أنه كان شيئًا.

* هل نستطيع أن نحظى بأسماء تقدم نفسها كفلاسفة، وأين دور علماء الاجتماع العرب، أين دورهم في دراسة مجتمعاتهم كما فعل مثلًا عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو عندما وضع كتابه الضخم من ثلاثة أجزاء «بؤساء العالم»؟ لماذا اليوم علماء الاجتماع العرب يعيشون فقط في الجامعات، وفي قاعات الأكاديميات المغلقة مع طلابهم؟
– السبب يعود إلى الصيغة التاريخية التي قطعها الفكر العربي، أو الوجود العربي عمومًا، فحين ظهر العرب كأمة ليس كفعلٍ داخلي فحسب، إنما بفعلٍ خارجي، وهذا ما قام به الغرب، النهوض الغربي كان ذا حضور كبير. بمعنى آخر قبل الحديث عن الفلسفة العربية، يجب أن نتحدث عن الحضور الغربي في الشرق، هذا الحضور أسهم في تكوين تدخلٍ نسبي فكري بما سيتحقق لاحقًا على صعيد الفكر، إذا أخذنا حركة الاستشراق فهي نشأت مع محاولة الغرب لاقتحام الشرق، نابليون بونابرت عندما دخل مصر كان قد جلب معه مجموعة من المستشرقين والباحثين والعملاء، قدموا له مادة غنية حول الشرق، ففهم الأوربيون الشرق استشراقيًّا عبر مجموعات نابليون وسواها من أدب الرحالة الأوربيين، لذلك كان هذا التدخل الغربي في الشرق أكثر فاعلية مما كان موجودًا باسم التعارض بين الشرق والغرب أيام الإسلام، وقتها كان هناك حدٌّ ما من التوازي التاريخي بين الحضارات، ومنها الحضارة العربية. الآن الحضارات الحديثة طُوّقت، والغرب أمسك هذا الخط الأساس، ورُسِّمت الحدود بين ما يسمى شرقًا وما يسمى غربًا. الخط الاقتصادي والثقافي والسياسي، يعني أصبح استعمارًا، وليس حالة اقتصادية وحسب، بل حالة ثقافية، وكان الاستشراق هو حصيلة هذا الفعل، أي نتيجة من نتائجه.

الشرق الحقيقي
* ما رأيكم بما قدمه إدوارد سعيد في هذا المجال؟
– سعيد قد يكون الباحث الأول الذي قدم صورة قريبة مما صنعه الغرب، وفتح بذلك الباب على الشرق الحقيقي، طبعًا لم تكتمل عملية الفتح، فجاء باحثون ليكتشفوا ما هذا الذي أُطيح به على يد الاستشراق الغربي، وأساء إساءة بالغة للشرق، والآن الاستشراق لم يعد له دور أساس، إن المستشرقين صاروا ضعافًا أمام شرق صار يظهر بشكل أو بآخر بأوجه مختلفة، فمن لم ينشأ بصورة مباشرة من بنيته وعبر إدخالات أخرى، سيكون التشوه قائمًا بمعنى ما، التدخل هو الإساءة، والتقارب بين الحضارات هو بمثابة نمو للفكر العربي، والتشوه الذي أحدثك عنه أتى عبر أفعال تتقصد أن تملك الآخر عبر ملكية ما يفكر به، وهذا ما حدث عن طريق الاستشراق.

* حللتم التراث الإسلامي تحليلًا ماديًّا نحو ثورة على النمط والنظرة التقليدية للتراث، ووضعتم كتابكم المعروف «من التراث إلى الثورة» عام 1976م، برأيكم هل ما زال هذا العنوان قائمًا بعد جملة من المتغيرات الكبرى التي حدثت في العالم، ومنها انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وانكفاء اليسار العربي؟
– قدمت هذا الكتاب ومعه كتب أخرى عن اليسار التاريخي، اليسار عندي هنا ليس فكرًا جاء من هنا أو هناك، إنما هو تعبير عن حدث أطاح بالنظر إلى العالم بوصفه نقطة واحدة، ولقد وضعت يدي على نقاط مغيبة أو غائبة، أبرزها أن هناك الوجه الآخر لما كُتب عن الرؤيا اليسارية. بالمناسبة كلمة يسار أتت تعبيرًا بسيطًا عن حالٍ جديدة في التاريخ الفرنسي أيام الثورة، حين اجتمع فريق سُمي باليسار لأنه وقف في اليسار، وآخرون وقفوا في اليمين، فهو تعبير دلالته بسيطة، لكن هذا التعبير أشار إلى حالةٍ جديدة. ليس من الضروري أن تكون متكاملة، فما عنيت ذلك ولم أعنِه، فاليسار حالة وفكرة في إطار تحول عميق قد يذهب إلى اليمين وإلى يمين اليمين. قبل أن يسقط الاتحاد السوفييتي هذا السقوط المدوّي والمؤسف الذي خيّب آمال ملايين الناس لأنه قام على أسسٍ لم تخدم العلم، فقد سقط الاتحاد السوفييتي من الداخل، وليس من الخارج، سقط عبر غياب الإنسان الذي تحدث عنه ماركس عندما قال: «الإنسان أولًا»، وسقط لأن الدولة البيروقراطية الأمنية – هذا الذي وضعت يدي عليه متأخرًا – أسقطت ذلك الكيان ذا البعد الواحد، القائد الواحد، الحزب الواحد مع غياب الديمقراطية البرلمانية، غياب القدرة على إمداد الحوار الذاتي مع الآخر الذي قد يكون مخالفًا، فحتى قبل ذلك كنت أقول: إنني أعيد النظر فيما كتبته، وحتى الآن. إعادة النظر ليس أمرًا يأتي بسبب تحول عالمي مثل سقوط الاتحاد السوفييتي، إنما قد يحدث بالنسبة للمفكر أو الكاتب الذي يكتشف أمرًا كتبه وفيه ثغرات لا تحصى، فكنت أصدر طبعات جديدة من كتبي وأشير إلى ذلك، فلقد أعدت النظر في كتاب «مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر»، هذا الكتاب أضفت إليه كثيرًا، والآن ما أكتبه دائمًا يضاف إليه أشياء أخرى، وهذا من طبائع الأمور، لكن الذي جاء في صيغة مدوية تمثلت في الاتحاد السوفييتي الذي قدم نفسه ليس فقط كحالة سياسية واقتصادية، بل أيضًا كفكر ينتج عالـمًا جديدًا، فحتى تفكيري اليوم بالوطن العربي تأثر تأثرًا كبيرًا بهذا الأمر.

* كررت مفردتي العالم والإنسان، والمعروف أن العالم كمفهوم ظهر بعد الثورة الصناعية وبعد الحروب الكبرى، ومعروف أن الحضارة استغرقت الزمن كله، فيما تطورت البشرية في مئة عام تطورًا خاطفًا على صعيد التقنية والحوسبة وعلوم الفضاء والأسلحة والفنون. العالم العربي كما يقول بعضهم لم يستوعب هذه الصدمة الرقمية الحضارية. برأيك هل يستطيع العالم العربي أن ينتقل من كونه مستهلكًا للتقنية إلى مشاركٍ أو منتجٍ لها؟
– العالم له منعرجات واتجاهات كثيرة ومختلفة، فالعالم هو عوالم، وأي بيئة تشكل عالـمًا بذاته، فحينما تكتشف خصوصيتها تصير عالـمًا. هذه الخصوصية التي تجد ما يشبهها، وهذه الخصوصية مثلت مرحلةً مهمة في التطور التاريخي الحضاري، وبدونها لما كانت العوالم في عملية التشكل والتحول مختلفة، فقد تشكلت أيضًا بيئات مختلفة في البداية كانت متفارقة، لكن مع الزمن وعبر التجارة والحرب والهجرة وكل أفعال الطبيعة والمجتمع، بدأ ينشأ ما نسميه عالـمًا هو العوالم مجتمعة، قد لا تكون العوالم كلها مجتمعة في هذا العالم، وقد نكتشف الآن عوالم أخرى لنضمها إلى عالمنا، لذلك المسألة مفتوحة.

الأنا والآخر
* هل هذا التصور هو تصور أخلاقي عن العالم، أم أنه ترميز لهذا المعطى الذي ندعوه العالم؟
– كلاهما وأكثر من ذلك، اكتشاف عوالم أخرى يعني الاعتراف بوجود الآخر، وأنت لست ذات العالم، أنت لن تكون شيئًا دون الآخر، ولاحظ أن هناك ثنائية الأنا والآخر نشأت حتى بين اثنين حين اكتشفا بعضهما، بل إنه في الأساطير القديمة معروفٌ أن المرأة والرجل في البدايات لم يعرفا من أين جاء وليدهما، لكن الوليد أتى وأضاف عالـمًا جديدًا، فالوليد هو عالم جديد لم يكن معروفًا من هذه المرأة ومن هذا الرجل، فالعملية هنا مفتوحةٌ وتكتسب طابع المفاجأة.

* وهل العالم العربي استطاع أن يحقق التجاوز من الأنا نحو الآخر، رامبو يقول الأنا هو الآخر، والحلاج وابن عربي كلاهما تحدثا عن الأنا والأنت ووحدة الوجود مع الآخر في الخطاب الصوفي الرفيع؟
– نعم، بالأساس نشأة هذه الثنائية ( الأنا – الآخر) كانت جزءًا حاسمًا في تكوين البشرية؛ لأنك لن تعرف نفسكَ إلا إذا عرفتَ غيركَ، الأنا والآخر هما ثنائية تقوم على طرفين مختلفين لكنهما متقابلان، بل إن الأنا لا تعرف نفسها إلا عبر الآخر، فأنت في هذا المعنى مضطر أن تكون مع الآخر، وقد يكون الآخر معك، ومن هنا كان مصير كارثي عبر التعايش الكوني التاريخي، إلى أن نشأت الحروب والمصالح الاقتصادية فأطاحت بهذه الثنائية بعد تعاظم الحروب والمصالح القاتلة، فاكتشف هؤلاء المتقاتلون أن الخاسر في هذه الحال كلاهما، الأنا والآخر.

* لكن ماركس قال: «إن الحرب أو العنف هو القابلة القانونية التي تولّد المجتمعات الحديثة من رحم المجتمعات القديمة»، كيف تعلّقون على هذه المقولة التي تبرر العنف كحركة جدلية لا بد منها لتقدم وتطور البشرية؟
– لا يمكن هذا القول أن يكون تبريرًا أو تسويغًا للعنف، أبدًا، العنف هو الذي يحدث في الطبيعة والمجتمع، فليس العنف هنا مقصودًا بالحرب والتحارب، أنت تمارس العنف مع الطبيعة حين ترغمها أن تنتج كذا وكذا، فهي مكملٌ لكَ وأنتَ مكملٌ لها، وكذا الآخر الذي لا يعرف مصالحه بعد إلا بعد أن ينتهككَ، فجدلية الفعل والمفعول تصبح الجدلية هنا الفاعل مفعولًا والمفعول فاعلًا، كلاهما يتحمل المسؤولية عبر تبادل أدوار الجلاد والضحية، وهذا يتم حتى تنبثق إشراقات الوعي الجديد الذي يقوم على تبين أن الإنسان ليس مناهضًا أو عدوًّا للآخر.

* في الفلسفة أو الفكر العربي ثمة من يعيب على هذا الفكر أنه مع نشوء البدايات الأولى للدولة الإسلامية هناك من همّش وألغى فئات وفرقًا صوفية وباطنية تحت طائلة «من تمنطق تزندق». برأيك هل تكون المقولات الصوفية اليوم فسحة يتجدد عبرها الإسلام في طرحه وقراءته للعالم؟
– حينما نفكك الخطاب الإسلامي أو أي خطاب توحيدي نتبين أن الآلهة وتحديدًا الله الإسلامي قُدِّم للبشر على أنه الخطاب المطلق، هذا يدخل فيما يسمى بالصفات الذاتية التي يعدها بعضهم تسعةً وتسعين، وبعضهم مئة، وبعضهم الآخر مئةً وواحدًا. اتضح أن هذا الأمر ذو أهمية قصوى، إنه يظهر عبر هذه الأسماء والصفات ولا يظهر هو نفسه، ولقد أكدتُ في محاضراتي البيروتية أن كل طرف أو كل فرقة في الإسلام ترى الله من حيث هي، لا من حيث هو، وهذا ما أكّد عليه النبي الكريم محمد حينما سأله أعرابي: «أين الله يا رسول الله؟» فأجاب: «الله موجودٌ حيث تراه». انظر إلى هذا الجواب البديع، وهذا ما قدمته في محاضراتي بالمغرب، فعقبت بعد ذكري لهذا القول أنه إذا كان الأمر كذلك، فالجميع محقٌّ في إسلامه، لذلك كل المتصارعين في المغرب في لحظةٍ واحدة اجتمعوا بعد سماعهم هذا الرأي.

إن أحدًا لا يملك الحقيقة، فالجميع له حقيقته، ومن المصدرية الأساسية ألا وهي النبوّة، هذا هو الحل، ولقد رآه بعض المفكرين في المغرب حلًّا جديدًا، ودخل في الروزنامة الدينية. التأكيد على إطلاقية الله الإسلامي هو تأكيد على أن الجميع يملكون الحقيقة، وهم كلهم محقون، لأنهم يرون الله من حيث هم، وليس من حيث هو، و(هم هم) في التعريف، ماذا يعني في التعريف؟ (هم هم) في ثلاثة أمور: المعرفي والمصالحي والقوة، الناس يعرفون وفق هذه المداخل التي يمتلكونها، فهذا شخص فقير بائس متخلّف لم يقرأ القرآن سيعرفه بطريقته: (القادر، والحنون، والعارف، واللطيف)، والثاني هو: (المصالح)، وهنا يتكلم المرء عن الدين والسلطة، والثالث هذا وذاك مع القوة، مع من يملك القوة، فأنت بذلك مسلم بكل المعنى.

المسألة الدينية والنخب الثقافية
* قلتم: إن المسألة الدينية العربية أُهملت إهمالًا مرعبًا من النخب الثقافية، ماركسية كانت أم قومية أم ليبرالية، ونبهتم أن الخطورة تكمن في أن النص يقرأ بطرق متعددة، هل يمكن اليوم تقديم قراءة عقلانية تاريخية للنص الديني وصولًا إلى فكرٍ نهضوي جديد؟
– هذا سؤال العصر الآن، بالأساس النص نصٌّ يحمل دلالات لغوية، لكن من يقرؤه وفق ما هو عليه، لذلك نشأت ثنائية (البنية والقراءة)، وهي بنية واحدة.

* لكن ألا تعقد التفاسير والاجتهادات المسألة بين المسلمين أنفسهم؟
– كله مشروع على أساس أن هذه التفاسير أو القراءات تأتي ناتجًا لتلك القنوات الثلاث كما أشرت: (المعرفي والمصلحي والقوة)، فالجميع إذًا مسلمون، إسلام للكل حسب ما يفهمه، حتى تلك الطقوس التي يقوم بها من صلاة وصوم وزكاة قد يضاف إليها شيء، والحقيقة أنني استنبطت هذه الفكرة منذ سنوات عندما كنتُ في الصين، حيث دُعيتُ للتحدث عن الدين والثقافة الإسلامية، وقبل المحاضرة أخذوني إلى مقابرهم، ولحظت أن مقابرهم مختلفة عن مقابر الآخرين، فلا يوجد لها شواهد أو بنية معمارية، فسألتهم عن سبب ذلك فقالوا: «نحن هكذا»، خذ السعودية مثلًا حتى اليوم لا يوجد شواهد قبور لموتاهم فـ«خير القبور الدوارس»، وهذا يختلف حسب اختلاف فهم النص بين فرقةٍ وأخرى. وهذا الفهم يأتي من المصالح والمعارف والقوة، فإن لم يوجد الفهم، سيوجد الإيمان العفوي، فالإنسان البسيط يؤمن بشيء لا يعيه لكنه يحتاجه.

* نتكلم عن الدين والدين حاجة إنسانية، لكن ماذا عن دور المؤسسة الدينية في حياة المجتمعات العربية؟ كيف تقيمه؟
– المؤسسة أتت لاحقًا، الدين من حيث هو أتى دون هذه المؤسسات، فهذه الأخيرة جاءت كمحصلة للفهم والمصالح والقوة أيضًا، فظهر المسجد وكان له قوته وخصوصيته وفاعليته، وأتت المؤسسة الدينية، وهذا جزء من التحولات التاريخية التي لا يمكن أن تنكرها، فهي موجودة، لكن الكشف عن بواعثها العميقة البعيدة يحررك منها.

* كيف يتم ذلك؟
– يتم حين تعود إلى المطلق إطلاقًا والنسبي إطلاقًا، النسبي لا يمكن أن يصبح مطلقًا، والمطلق لا يمكن أن يصير نسبيًّا ولكنه يستوعب النسبي. هنا تطيح بكل المؤسسات الدينية. ذات مرة في محاضرة ببيروت تكلمت عن هذه الفكرة، ورأيت أنها كشف هائل، ووقف أحد الحضور فقال لي: هذا نوع من التشفي من الإسلام، فسألته: كيف، فقال: «المسلم سُمّي مسلمًا لأنه يعرف الله، ويصلي له ويؤمن به ويقترب منه، والآخرون يبتعدون». فأجبته أن هذه المشكلة تُحل عبر تحديد العلاقة بين المطلق إطلاقًا؛ فالنسبي ليس نسبيًّا، إن قلتَ: إنه نسبي معناه أنكَ أطحتَ به، فــ (الله) مطلق، لذلك عبّر بعضهم عن الدين بأنه إلهام، نستلهم لكننا لا نعرف تمامًا. من هنا أصبح كل الناس مسلمين ومسيحيين مؤمنين بإسلامهم ومسيحيتهم، ولا أحد يستطيع أن يملك الحقيقة، لا ملك ولا أمير ولا سلطان ولا قائد ولا إمام.

* بين المادي والمثالي حرصتم دومًا على عدم الوقوع في التفسيرات الغيبية الميتافيزيقية للتعبير عن الإسلام كظاهرة اجتماعية؟

الطيب-التيزيني– طبعًا عندما نتحدث عن وحدة الأديان السماوية نعني أنها تقوم على ثنائية المطلق والنسبي إطلاقًا كما أشرت، على هذا الأساس ألح الإسلام عندما جاء على فكرة النسبي الفاعل، وجعل من المطلق قريبًا منه، أقرب من السواد إلى البياض، أقرب من حبل الوريد، وهنا كأنكَ تتحدث عن وحدة كونية، وذلك هذا القرب الحميمي الذي أنتج ما يلازمه على صعيد الواقع المشخّص والمعيش، لذلك كان الإسلام أقرب الأديان إلى الواقع. دعنا نتذكر هنا ما حدث في التاريخ المسيحي في روما، حيث توجد هناك انتفاضة كان زعيمها سبارتكوس قائد ثورة العبيد الذي كان عبدًا، وهناك قول بديع: «لو نجحت ثورة العبيد لما كان محتملًا أن تنشأ المسيحية». العبيد قُتِلوا في ذلك الزمان بأعدادٍ هائلة، حتى إنه سميت هذه الحادثة بأسبوع العبيد، ما أريد قوله أنه ما كان هناك مسيحٌ بعينه، بل مُسحاء، ربما واحد أكثر من الآخر، فثورة العبيد أخفقت ودُمّرت فجاءت المسيحية التي أوجدت هذا الرباط، بعد أن كان سبارتكوس قد نادى بكل الحقوق التي نادت بها المسيحية. المسيحية تاريخها ممتلئ بالدلالات الكبرى للتاريخ العالمي، أما الإسلام فقد عاش في عصر متقدم (القرن السابع الميلادي)، وفي بقعة أصبحت مرتادة من مجموعات بشرية واسعة في العالم، ولا سيما عبر التجارة، فجاء الإسلام دينًا فاعلًا مباشرًا، وهو أيضًا حرر العبيد لكن بطريقته، والجميع أخذوا منه، وهذا ما جعل الإسلام أقرب إلى الواقع عبر معالجته مشكلات الناس العينية المباشرة، كالعبودية والثروة والزواج والخصيّ وغيرها من المشكلات. لقد أجاب الإسلام عن مشكلات مرحلته، وعلى رغم ذلك ظل كل من الإسلام والمسيحية قائم على فكرة المطلق والنسبي. المسيح هو ذاك الذي في الأعالي «يا أبانا الذي في الأعالي». الإيحاءات صُنّعت وفُعّلت وكوِّنت منها أحداث هي مشكلات انتهت بهذا الفعل، هذه الخصائص قد لا تكتشفها في أديان أخرى.

* فرّقتم في بحوثكم بين مفهوم الشفاعة المحمدية وبين مفهوم الخلاص المسيحي. برأيكم هل من الممكن اليوم توحيد رؤية فكرية وفلسفية عن الإنسان العربي مسلمًا كان أم مسيحيًّا في إطار حضاري مشترك؟
– التمييز بين هذا وذاك هو تمييز نسبي وليس مطلقًا، النسبي أنه خضع للتحولات التي تمت بالإسلام نفسه، فكان الإسلام يقترب أكثر فأكثر من الناس لمعالجة مشكلاتهم. في المسيحية نشأ اتجاه في هذا المنحى، لكن ظلت الفكرة الأكثر فاعلية ودخلت في حياة البشر المدينين بالمسيحية كمحفز، ولم تتدخل في حياة البشر الخصوصية كالتجارة والتعليم والاقتصاد.

* في حوار سابق قلتم: إن داعشًا ظاهرة عالمية. كيف نستطيع اليوم قراءة ظاهرة الإرهاب المنتشر في العالم؟
– نعم إن داعشًا ظاهرة عالمية بقدر الإفقار والإذلال واللاكرامة التي يعيشونها في بلدانهم، هؤلاء قتلة لكنهم أيضًا ضحايا، قد يكون بعضهم الآخر مجرمين، فهم لا يملكون شيئًا، القاتل الذي أنتج داعشًا هو الغرب، وتبعه الشرق الأعلى. داعش نتيجة الغرب الاستعماري المتجبر والشرق الذي أصبح مقلدًا للغرب يحاول أن يفعل ما يفعله. لقد نشأ داعش عالميًّا لكن في النية الخفية غير المرئية، لذلك التخلص من داعش يعني أن تبني عالـمًا جديدًا.

* أريد أن أستوضح منك أولًا موقفكَ الجديد من القراءة الجابرية للفكر العربي، ثم كيف يمكن مواجهة فكر العولمة الذي يهدد تفكيك الهوية العربية، وبالتالي إجهاض أي احتمالات لنهضة قادمة؟

– سؤالك هذا ينقلنا إلى الذروة التي وصل إليها الفكر العربي، ذروة ذات طابع حاسم، إما أن تكون أو لا تكون، الذروة هنا في نبش الكينونة ونفي هذه الهوية، فالجابري كان صديقًا مأسوفًا عليه بطبيعة الحال أنه رحل، ولقد ظل صديقي حتى آخر أيام حياته. مؤخرًا كنتُ في المغرب، وكانت هناك لقاءات مهمة جدًّا، حيث التقيت عائلته وآخرين من أصدقائه، الحقيقة كانت هذه الزيارة مناسبة لمراجعة موقفي من الأستاذ الجابري، وذلك بعد عرض ما قدّمه، فلقد كان لقاءً مركبًا بين الشخصي والفكري، والجميع بات يعرف أن في المغرب حركة ثقافية، كانت مقموعةً قبل نهاية الأحداث في تونس خصوصًا. الفكر العربي مر بصعوبات كبرى، لكن هذه الصعوبات حملت نتائج إيجابية، كانت بمثابة ولادة أنتجت أشياء مهمة جدًّا. آخر لقاء مع المرحوم الجابري كان في بلدٍ خليجي، أظن في الإمارات، وكان الرجل قد أوصل فكره إلى موقع الفكر الذي يندرج مع الشرق مقابل الغرب، تحديدًا ثنائية الشرق والغرب التي أسس لها المستشرقون، وهذه الذروة التي قرأها الجابري بشكل مطول، لكن الجدير بالذكر أنه وقبل وفاته بمدة قصيرة بحث عن ذروة أخرى ووجدها في الفكر الإسلامي، وقال: إن الإسلام هو الحل كما يقول الآن الإسلاميون، ما زاد الموقف اضطرابًا بيني وبينه، وكنت قد كتبتُ كتابًا خاصًّا حول الجابري، بعنوان «من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي»، وفيه نقدتُ ما قام به الجابري، ورئي في حينه أن مسألته وصلت إلى حدها النهائي القاطع.

لكن قبل رحيله قدّم الجابري ما كان مُبعدًا في نفسه، واتضح لي أنه كان بالأساس إسلاميًّا، لكنه تقمص شخص الباحث في الفكر العربي، إذًا الجابري كان له موقفان. طريف أن أقول: إنني انطلقت من منطلق الجابري الفكري، وهو منطلق عام أساسه النقد التاريخي، ووصلت إلى أنه كان من المندهشين بالغرب بصورة فاقعة، بحيث وصل ما وصل إليه الشاعر البريطاني (كبلينغ) عندما قال قولته الشهيرة: «الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان». الجابري وصل إلى ذلك بلغة الفكر، ومن ثم الجابري ترك إرثًا كبيرًا يتحرك ضمن هذا الحقل، لكن في آخر حياته اتضح أنه ينطوي على بنية خبيئة لم تُفصح عن نفسها، على الأقل لم تفصح تمامًا وظلت غير واضحة، وقبل وفاته أشار إلى ما كان خبيئًا وبلغة كتبت بلغة المقالات والمشاورات والأحاديث الذاتية.

هنا انطلقت من موقعين: الغرب والشرق، فمرجعية الجابري المنهجية التاريخية كانت الغرب، وكان يرى أن الشرق يبقى شرقًا كما يأتي لاحقًا مفكرون آخرون يقولون: نحن لا نستطيع أن نكون في موقع قريب من الغرب. هذه الفكرة هي فكرة استشراقية بالأساس، مع العلم أن كثيرين من المفكرين الغربيين بعد نشأة الاستشراق، خصوصًا الطليان منهم لم يسلكوا مسلك المستشرقين الآخرين وأخذوا خطًّا قاطعًا، حيث النزعة الكولينالية تظهر ضمنًا. لكن الأمر يظهر فكرًا واجتهادًا، فقد كان الدافع الخفي هو العالم الجديد الذي انطلق منه الجابري حين رأى أن الفكر العربي فكر غير منتج وغير مبدع، وغير سآّل، أي لا يقدم أسئلة، وهذا ما أعلنه صراحة «بيجيه» أحد المستشرقين الفرنسيين حين أدرك أن الشرق لا ينتج أسئلة، وهناك طرفة جديدة فكتاب بيجيه كان بعنوان «الباب الضيق»، وأراد أحدهم أن يترجمه إلى العربية، وفعلًا تُرجم بإشارة من طه حسين، وكان ذلك، وحين علِمَ صاحب الكتاب بذلك بعث رسالة إلى المترجم قال فيها: إلى من تقدم كتاباتي؟ وهل هناك من يقرأ عندكم، هل هناك من يهمّه المسائل التي أطرحها؟ الجواب لم يأتِ من المترجم بل من طه حسين إذ قال له: «إنكَ سلكتَ مسلكًا صحيحًا عمليًّا، لكنكَ خُدِعت من آخرين، إن الفكر العربي أيضًا هو فكر سآّل».

عن مجلة الفيصل