حكاية  شارع المتنبي

حكاية شارع المتنبي

د.عمادعبدالسلام رؤوف
ليس من قارىء او باحث او كاتب في بغداد ، بل في العراق كله ، لا تربطه بشارع المتنبي صلة ما ، بل ليس من المتصور ان يكون المثقف مثقفا كليا من دون ان يكون له وجود في هذا الشارع ، باحثا عن كتاب نادر ، او مقتنيا لكتاب حديث الصدور ، او متتبعا لاثار كاتب ، او اديب او شاعر ، وقع عجيب ذلك الذي يتركه اسم شارع المتنبي في وجدان كل عراقي شغف بالكتاب ، وهو وقع يشبه ما يتركه ذكر الحبيبة في قلب عاشق ملهوف ، من زيادة في النبض ، وشوق الى تجدد اللقاء !.

ولاتنبعث اهمية الشارع من انه المعرض الدائم للكتاب ، فمثل هذه المهمة تعرضها ارصفة شهيرة في مدة عربية عدة ، ربما كان سور الازبكية في القاهرة ادناها، ولكنها تقوم من حيث الاساس على ما يوفره من مناخ ثقافي عام ، اكثر سعة وشمولا ، ففي مكتباته تكثر لقاءات المثقفين ، وعلى ارصفته يلتقي هذا الكاتب بذاك ، فتدور حوارات هادئة ، او حامية ، وربما اختلطت اصواتهم بنداءات باعة الكتب المستعملة ، او غطى عليها جدل ممض بين احد البائعين ومشتر على سعر كتاب او ديوان ، فيؤلف الجميع هديرا جميلا ، في نشازه تناغم ، وفي صياحه الفة محببة .
والى وقت قريب كان شارع المتنبي مصنع الكتاب العراقي الوحيد في بغداد تقريبا ، ففي ازقته الضيقةتوجد مطابع بغداد الشهيرة ، التي طالما اتحفت القراء في العراق وفي الوطن العربي ، بالاف من المطبوعات الانيقة على رغم فقر الامكانات الفنية ، وفي تلك الازقة كان ثمة مجلدون قادرون على الباس الكتاب القديم حلة جديدة محكمة ، هذا فضلا عن عدد غير قليل من الخطاطين المجودين ، صانعي الكلائش التي يحتاجها الكتاب عادة والمصممين والصحفيين وباعة الورق على انواعه ، انه خلية نحل اذن قوامها الكتاب ، والكتاب وحده
فانت تراه في ايام الجمع وقد تقاطر اليه الباعة من كل مكان في الصباح الباكر يعرضون على ارصفته وعلى اديم اسفلته الافا من الكتب بل جمبع ما يخطر على البال من مجالات العلم والمعرفة والادب ، فيضج الشارع بالمقابل بكثرة المشترين والباحثين والمتفرجين ويكثر الزحام حتى لايجد مكانا لوضع قدم فاذا ماانتصف النهار وأذن المؤذن لصلاة الجمعة من مئذنة جامع الوزير القريب انفض الجميع وكانهم على موعد فلا تجد الشارع الا وقد انقلب ارضا فضاءا لاتكاد تسمع فيه صوت انيس .
وفي حوالي الشارع محطات للمتعبين الذين يقضون الساعات في البحث عن ضالتهم من الكتب ، او المثقفين الذين لا يجدون في ضجيج السوق ما يساعدهم على الحوار ، وليست تلك المحطات الا مقاهي قديمة هنا او هناك ، اصبحت لقدمها تراثا محببا لروادها ، ففي مدخل الشارع الغربي مقهى الشابندر العريق ، بابوابه الخشبية و ( كرويتاته ) العتيقة ، ونراكيله العامرة بالجمر، وابتسامة صاحبه المعهودة ، وفي كل مكان قريب من شرقي السوق على شارع الرشيد مقاه ذات صيت ذائع لعل اقربها الى وظيفة السوق نفسه وطقوسه ، مقهى قديم هو مقهى حسن العجمي ، يجتمع فيه اهل الادب على اختلاف مدارسهم واجيالهم فلا تكاد تسمع فيه الا حديثا في الادب وابياتا من الشعر ونحوهما ، يختلطان مع صوت ملاعق الشاي القديمة وهي تقرع جدران ( الاستكانات ) المترعة برقة اوبعنف بحسب نوع الحوار ودرجة حرارته .
وان كنت من رواد الشارع القدامى ، مثلي ، فستطوف بك ذكريات يمسك بعضها برقاب بعض ، فتبدو كفيلم تحركه آلة عرض بسرعة ، فهناك كانت مكتبة قديمة حفلت بكل ما هو نادر ومهم من الكتاب العربي ، تحتل دارا قديمة شرقية الطراز ، انها مكتبة المثنى بطابقها الارضي الذي كان ذات يوم ملتقى كبار المؤرخين ، وطابقها العلوي حيث كانت تزدحم غرفه بالاف من الكتب ، وبين الطابقين تنتقل الكتب بسرعة لتصل الى يد قارىء يبحث عن ضالته ، او عالم يريد ان يزيد علما .
وفي هذه القاعة الكبيرة كانت ثمة المكتبة العصرية احدى اقدم المكتبات في السوق كله تكتظ ارففها ومناضدها بالكتب والناس حول صاحبها يتحلقون يجمع بينهم حديث شيق اطاره الادب وفحواه ادب فلا يقطعه الا سؤال سائل عن كتاب يبتغيه ، فاذا مااستجيب لطلبه عاد القوم الى ماكانوا فيه .
وهناك في طرف السوق الاخر ، مكتبة النهضة تحتل احدى دور الشارع القديمة وفي الدار حجرات ورواقات عدة امتلأت بالكتب المستوردة من كل حدب وصوب ، وصاحب المكتبة يسعى بينها ملبيا طلبات روداه من الطلبة والباحثين بكل همة ، فاذا ما اجتزت الشارع الى الجهة المقابلة طالعتك في صدر زقاق هناك مكتبة البيان وقد تصدرها اديب شيخ وان ارتدى زي الافندية ، وقد احاط به فضلاء اكثرهم قادمون من خارج بغداد ينشدون الشعر الفصيح والريفي على حد سواء ، ويحفظون الزهيريات والابوذيات حفظهم لاسماء اولادهم فلا تكاد تسمع منهم الا ما هو ممتع ومفيد .
وعلى بعد خطوات ، تطالعك لافتة كبيرة كتب عليها عنوان ( المكتبة الاهلية ) وهي مكتظة كجارتها بالكتب واكثرها قديم نادر ، ولكن صاحبها يتخذ الضيق موقعا لوقوفه او جلوسه فلا يمكن لاحد من دخولها وبذا يحفظ تلك النوادر من يد عابث ، متعهدا بطلب كل من يريد كتابا بعينه !
وبين هذه المكتبة وتلك مطابع ذات شأن في عالم الكتاب العراقي ، ولعل من اقدمها مطبعة المعارف التي يكفي لو اراد احد ان يحصي عنوانات مطبوعاتها ان يملا في ذلك كتابا قائما برأسه ، فلم تتوقف عجلات هذه المطبعة ، على الرغم من قدمها ، عن الدوران نحو ستة عقود من السنين ، وكانت تقذف كلما هدرت كتبا قد اتقنت طباعتها الى حد بعيد . وفي باحة قديمة تجاوز دار المثنى ، انتصبت مطابع هايدلبرك الشهيرة لتطبع كتبا انيقة اكثرها في القانون والتراث ، فتحسدها لاناقتها واتقانها وقلة اخطائها ، افضل حواسيب هذا الزمان ، وعلى كتف باب الدار الخارجية يقرأ المارون اسم (مطبعة العاني) على لوحة نحاسية هناك .
على ان المتنبي لم يكن شغوفا بالكتب وحده ، فحتى العقود الاخيرة كانت ثمة مؤسسات تنافس هذا الحبيب بما تحتله من ارض هذا الشارع العتيد ، فعلى شمال مدخله من جهة السراي ، كانت ثمة بناية كبيرة ذات فناء فسيح يقف على مدخلها جندي شاكي السلاح ، ومظهر البناية يدل على انها ترقى الى اواخر العهد العثماني ، وهو استدلال صحيح ، فهذه هي ( الاكمكخانة ) التي منحت للشارع اسمه قبل ان يتخذ المتنبي اسما له وعرفت فيما بعد بدائرة المخابز العسكرية بيد ان البناية نقضت منذ الستينيات وشيدت مكانها قيصرية على طراز بغدادي محبب ضمت عددا كبيرا من المكتبات صغيرة الحجم ، الكثيرة النشاط بما تعرضه من افانين الكتاب .
فان قدمت الى الشارع مبكرا ذات يوم ، فليس اجمل من ان تتذوق طبقا من ( الكاهي ) الشهير تصنعه يد اسطة ماهر انه كاهي ابو علي قرب مكتبة النهضة ، حيث تذكي رائحة الدهن الحر المكان ، ويشمها المارون في الشارع وليس في هذا اعلان عن المطعم المذكور فقد تحول منذ اكثر من عقد الى مكتبة تبيع انواع الكتب والقرطاسية.