أحمد حامد الصراف... صورة قلمية لأديب مجلسي

أحمد حامد الصراف... صورة قلمية لأديب مجلسي

مهدي شاكر العبيدي
لعلَّ مؤلفات الأديب المجلسي أحمد حامد الصراف رغم شهرته العريضة في المجتمع البغدادي إبَّان العقود المنصرمة ، بوصفه قاضيا ً في زمان ما في غير رجأ وجهة من جهات العراق ، فمحاميا ً ناشطا ً عرفته المحاكم بلباقته وترسله على البديهة كي يصير الحكم القاطع والنهائي لصالح موكليه عادة ، وظلَّ على هذا المنوال حتى إلى عهد قريب من وفاته وهو في سن متقدِّمة ،

ورغم أنـَّه عضو في أكثر من مجمع لغوي في دول الجوار ، فإنَّ تلك المؤلفات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة ، أذكر منها كتابه عن الخيام الحكيم الفلكي النيسابوري ، والمحتوي على شرح ٍ وافٍ بفلسفة الشاعر الرياضي العالم ، فترجمة نثرية لما صحَّ عنده من رباعياته الذائعة الصيت بين الآداب العالمية ، وكذلك مصنفه عن ( الشبك ) وهم قوم من أقدم سكان شمالي العراق وأعرقهم ، غير أنـَّهم منوا بتجاهل الحكومات المتعاقبة لشأنهم وإجحافها بحقوقهم ، انصرف فيه لتدارس عاداتهم وتقاليدهم وما شاع عنهم من ترَّهات وأضاليل ، وألمح إلى ما تنطوي عليه جوانح فتية الجيل الجديد من مثقفيهم من توق وأمل في أنْ تمد إليهم اليد الرحيمة من لدن هذه السُّلطة وسواها ، فيندمجوا بعموم الأجناس والعناصر والملل القاطنة في هذه الربوع وتنتهي عزلتهم وانكماشهم ، والتأليف في مثل هذه الموضوعات الشائكة ، وما تقتضي من الخوض في عقائد الناس وأميالهم ونوازعهم ، وما اعتادوه من طقوس ومراسم مثيرة للاستغراب والدهشة ، هو فتح قدير في مجال التصنيف والتبويب ، وفي ميدان ثقافة العراقيين أيضا ً إبَّان ذلك الطور المولي من حياتهم ، وحيث يستحقُّ روَّاده والسباقون إليه كل مثوبة وتقدير ، فلا مراء أنْ جهر من خلال شاشة التلفزة في ستينيات القرن الماضي حين قدَّمه إبراهيم الزبيدي ذات مساء مستفهما ً منه عن ماهية التصوف وعقائد المتصوفة في الفكر الإسلامي ، بأنـَّه يحيط بعناصر الموضوع ، ويلمُّ بدقائقه وحقائقه أكثر ممَّا يجب بهذا الخصوص ، غير مغتر ٍ ولا تيَّاهٍ ومعجبٍ بنفسه ، ولا يباريه في هذه الخصيصة ــ كما قال ــ إلا صديقه الحلو القسمات المؤرخ المشهور عباس العزاوي ، خلاف آخرين شأنهم أنْ ينتحلوا التواضع ويضائلوا من ذواتهم بحجَّة أنَّ المسألة المستفسر عنها معقدة وعسيرة ، ويحف بها اللبس والغموض ، لكنـَّهم يدلون بما أمكنهم أنْ يقعوا عليه منها ، وخلص من هاته الدعابة إلى الحديث عن أطوار الصوفية وشطحاتهم وتهجداتهم وأذواقهم وما يجيش به وجدانهم من توق ورغبة في التوحد العرفاني مع الحضرة الإلاهية ، على وجه يحمل العتاب ويشي بالتحدي جرَّاء إمعانها في الصدِّ والإعراض وعدم الاكتراث بتوسلات العبد الفقير إلى رحمته الواسعة ، مردفا ً إسهابه وإطنابه في شرح معانيهم وأسرارهم ، بعيناتٍ وشواهد من آدابهم في اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية ، وقد استولى المتحدث في تلك الأمسية على إعجاب رواد المقاهي واستهوى إعجابهم واستحسانهم ، ولا مراء أيضا ً إنْ كانت دراسته وإحاطته بجوانب فلسفة الخيام وتفصيله في اهتماماته ووسائله في استنفاد أوقاته في ذلك العصر الملتهب بالمشكلات والحوادث والمائج بالتيارات والأهواء ، ممَّا تطلبه أنْ يعتزل الناس ويتباعد عنهم ما وسعه ، ويغنى عن هذرهم وسفاسفهم وما يشغلون به مجالسهم من لغو واستلال من أقدار المتميزين والكفاة ، كي لا يدرج على وجه البسيطة من حولهم من هو مؤهل للرجحان والتفوق في خصلة أو شأن ، قلتُ جاءَتْ دراسته تلك في غاية الرَّصانة والدِّقة ، فضلا ً عن استيعابه للفلسفات والنزعات القديمة ، التي تعاورتها أقلام الباحثين ولما تفرغ بعد من القطع بصحَّة ما يحوم حولها من أراجيف وأوهام ، أو تكتسي به من حقائق تصمد بوجه أيِّ تخرُّص ٍ وتكذيب .
وقد يكون أحمد حامد الصراف أوَّل أديبٍ عراقي بعد شعراء النهضة والتنوير ، أمثال : الرصافي ، والزهاوي ، والشبيبي وغيرهم ، أثنى عليه الكتاب المصريونَ وامتدحوا كفاياته ومواهبه ، فقد تدارسه إبراهيم عبد القادر المازني في كتابه ( حصاد الهشيم ) الصادر عام 1924م ، وأشاد معجبا ً بترجمته النثرية لرباعيات الخيام مقارنا ً إيَّاها بنظائر لها من ترجمات شعرية عنها لأحمد رامي ، ومحمد السباعي ، والإنجليزي ( فتزجر الدوما ) ، تخالف واحدتها نظيرتها في المقاصد والأغراض التي تتناولها والمواقف الفلسفية التي ينطلق منها ، وقد نقل المازني عيِّنة من الرباعيات بنصها الإنجليزي إلى العربية ، ليستند إليها في تلمُّس الفروق في النصوص الثلاثة ، ويستبين أيُّها يمثل نفسه ويجسِّد عبقريته أو يسجل أنـَّه مجرد لاهٍ عابث ، وشاعر عربيد معاقر للخمر ومن أردياء الناس ، حيث لا رؤية فلسفية ولا ارتياع من مآسي الحياة ، ولا معضلات تؤرقه أصلا ً ، وليس هذا بالشيء القليل لو استذكرنا فرط التعالي والترفع ممَّا صار إليه الباحثونَ هناك .
قلتُ إنَّ الصَّراف كان أديبا ً مجلسيا ً شأن الأستاذ الراحل فؤاد عباس ، الذي يتعلل لإحجامه عن التأليف والنشر ويكتفي بتثوير المشكلات الأدبية في المجالس بأنَّ الموت يترصَّده دواما ً فلا جدوى من الكتابة ، وكانَ هذان الأديبان يملآن المحافل والمنتديات بأحاديثهما الطلية وفكاهاتهما المستملحة ، فضلا ًعن مواتاة الأجوبة المفحمة لملكتهما في الحديث والاستطراد ، يتخلل ذلك كثرة استشهادهما بالنماذج الشعرية القوية المؤثرة التي تعنُّ لبالهما في وقتها .
ومن ذلك أنْ صَيَّر المحامي أحمد حامد الصراف حضوره في المحكمة العسكرية العليا الخاصة مدافعا ً عن بعض المتهمين من رجالات العهد الملكي حضوره وسط المحكمة حافلا ً بنوادر الأدب ، وتجاوب معه رئيسها العقيد المهداوي ممتدحا ً ذلاقته وتوقد فكره ، لولا أنْ بادر المدعي العام للإزراء بدفوعه عن موكليه وأملى عليه أنْ يراعي الحس الشَّعبي العارم الذي يسيطر على الناس وقتذاك ، وقاسمه ذينك التقريع والتبكيت صنوه المحامي داود السَّعدي أيضا ً ــ رحم الله الجميع ــ ومن يومها لم يغشَ هذا المحفل ! ، وكان آخر عهدٍ له به .