الصراف الاديب والقاضي

الصراف الاديب والقاضي

خالص عزمي
حفل تأريخ الادب العربي بعدد باذخ من القضاة الذين اغنوا المكتبة الثقافية بوسيع علمهم وأدبهم وفقههم منذ ان احتلوا مواقعهم الرفيعة في مجالس القضاء على امتداد الرقعة الجغرافية الممتدة من الشمال الافريقي حتى آخر مرفأ في اليمن السعيدة؛ بل ان موسوعة تجلياتهم قد غطت مساحات واسعة من العالم الذي سافروا او هاجروا اليه ليحكوموا بين الناس بالعدل.

والتأريخ جد ممهد لاغداق اخبار اولئك الافذاذ الذين لم يألوا جهدا في نشر الوعي الثقافي بين الناس عبر العصور.
وبالعودة الى تأريخنا المعاصر نجد ان هناك امتدادا متواصلا يشد بلحمته تلك الاجيال السابقة بالاجيال اللاحقة من ابناء العراق. فلو رجعت الى (ملفات) القضاة التي تحفل بها وزارة العدل لحصلت على سير معمقة ناصعة الجذور بالكفاءة القانونية المطعمة بالمواهب الادبية. وان نقابة المحامين العراقيين العريقة تحتفظ هي الاخرى بكنز وفير من (آرشيف) القضاة الذين عملوا في ساحتها كمحامين بعد ابتعادهم عن منصة القضاء لسبب او آخر. ولقد كشفت (مجلةالقضاء (التي دأبت النقابة على اصدارها منذ الثلاثينات من القرن الماضي)؛ عن جمهرة كبيرة من تلك المواهب الاخاذة في مختلف االاصناف الادبية كالقصة والشعر والنقد والصور القلمية... الخ.
اتحدث هنا عن الاديب المحقق والمجلسي المرموق والقاضي العدل المرحوم احمد حامد الصراف ، فاقول :
في الحلة فتح عينيه؛وفي كربلاء تعلم وتهذب؛ وكانت امه العلوية ذات السمعة العطرة في المباديءالقرآنية والادب؛ مدرسته الاولى في اللغة العربية وتذوق الشعر والادب والترتيل الديني و قرآءات المنبر..مما سهل عليه اغتراف المعرفة الواسعة من منابعها الاصيلة بكل الوانها المحببة اليه؛ حتى غدا واحدا من اثقف الشخصيات واكثرها قدرة على تواصل الوان الحديث والحوار والنقاش والابداع في النتاج الفكري في القرن الماضي.
الصراف موسوعة متنقلة تجمع التراث و اللغات والشعر والفلسفة والتاريخ؛ واناقتة في المظهر الباذخ لا تعادلها؛ الا اناقته في الحديث؛ وسحره في انتقاء الكلمة الجذابة الذائبة في سكر التنقل؛ لهذا قال عنه اكثر من اديب لبناني وسوري (اذا زرت العراق ولم تتعرف على الصراف فكأنك ما زرته) وفيه يقول الاخطل الصغير:
بدأ الكأس وثنى وسقى الشعر وغنى
طائر من دجلـة الخلد الى لبنان حنا
كلما انشد قلنـا عمر الخيـام معنــا
ينثر الانس على المجلس من هنا وهنـا
يا رسول الادب العالي سلام الشعر عنا
يجيد الصراف التركية والفارسية ويحسن الفرنسية والانكليزية؛ وقد نهل من هذه اللغات خزينا كبيرا من ثقافته؛ وتعتبر ترجمته النثرية لرباعيات الخيام من ارقى ما ترجم الى اللغة العربية؛ الى جانب ترجمات الصافي؛والبستاني ؛ والسباعي؛ ورامي؛ وعبد الحق فاضل؛ كما يعتبر كتابه الضخم في (الشبك) من اثرى الدراسات في هذا الموضوع العميق.
كان الصراف؛ من اقرب الشخصيات الى الشاعر الكبير الزهاوي؛ وقد اصطحبه معه الى الاحتفال الكبير في الفردوسي الذي اقيم في ايران في الثلاثينات من القرن الماضي؛ فكان خير جليس ومحدث اعجب به الادباء هناك الى حد كبير؛ وقد كان للغته الفارسية العالية الاثر الهام في ذلك. وكان لهذه العلاقة الصميمة ان تنتج كثيرا من المقالات والبحوث ووالردود والمعارك الادبية التي أدارها الصراف بكفاءة في الصحف والندوات والمجالس الادبية؛ انتصارا للزهاوي ودفاعا عنه.
انتخب الصراف في المجمع العربي في دمشق وفي مجمع(فرهنكستان) اللغوي في ايران؛ وفي العديد من الجمعيات والتجمعات الثقافية الرفيعة الاخرى.وله من المقالات والمحاضرات والندوات ما تملأ مجلدات في حقول شتى من المعرفة؛ كما ان له من التسجيلات الصوتية ما يشكل اضعاف ما نشر ولعل من اواخرها.....؛ محاضرته عن (الاحجار الكريمة) التي القاها في الجمعية البغدادية في السبعينات من القرن الماضي والتي كان لي شرف تقديمه فيها الى الجمهور.
كان الصراف قاضيا متميزا في جميع المناصب التي احتلها؛ ومن اهمها في (كربلاء؛ وبغداد والموصل وكركوك والحلة والكوت)؛ حيث عرف بسعة الافق والتي كانت تميل في كثير من الاحيان الى الاخذ بقاعدة (القانون الاصلح للمتهم) ؛ وكان للغته العربية المتينة وثقافته القانونية الواسعة الدور الهام في تماسك قراراته ورصانة سبكها. وقد انعكس ذلك على عمله في المحاماة بعدئذ فاصبح شاهد اثبات على تعدد ملكاته وقوة حجته... لعل الكثيرين من معارف الصراف يجهلون بأنه ذو صوت غنائي واسع الطبقة رخيم النبرة؛ سواء اثناء انشاده المتميز لما يحفظ من قصائد لاتحصى لقراء المنبر الحسيني اومن منتخبات الاغاني الرصينة لائمة الطرب كسيد درويش وعبدو الحمولي و عبد الوهاب و صالح عبد الحي ؛ فيا طالما شنف اسماعنا اثناء جلسات أدبية خاصة بنخبة من محفوظاته الملتزمة بضبط اللحن ودقة الاداء... لما تميز به من قرار عالي الاصداح وجواب عميق الاستقرارو يمتلك الصراف حافظة قل نظيرها ؛ فهو يحفظ من الحكم والامثال والشعر الشعبي والشعر الفصيح ونوادر التاريخ وحكايات الذكريات؛ ما يشكل خزينا متنقلا واسعا ؛ فقد عرف عنه حفظه لمقدمات عدة لبعض من الكتب التي اعجب بها؛ او تلك التي اراد بها السخرية من مؤلفيها؛. و مما اذكره بهذا الصدد؛هو انني كنت في مجلس ادبي بغدادي في الستينات من القرن الماضي؛ حينما حاول احد الادباء المرموقين ان يستشهد ببيت للشاعر الشيخ عباس علي النجفي من شعراء القرن التاسع عشر الذي يقول فيه (عديني وأمطلي وعدي؛ عديني وديني بالصبابة فهي ديني) فتلعثم وقدم وأخر في ذلك البيت فما كان من الصراف الا وانشد القصيدة بكاملها بل اضاف اليها كل ما اثير حولها من معارضات او تعليقات ؛ فنال من الحاضرين الاستعادة والتقديروالاعجاب.
يجلس الصراف على منصة القضاء فيمنح كرسيه المهابة والوقار من دون تزمت ولا تشدد بل بعلم غزير واحاطة موسوعية؛ فيمنح الماثل امامه (محاميا كان ام متهما) الثقة والاستقرار النفسي. بل لطالما داعب الخصوم فرفع عن كواهلم الاضطراب والخوف وطمأنهم على قرار قانوني عادل. لقد جاورنا هذا القاضي الكبير في كربلاء والكوت اولا؛ وفي الاعظمية ـــ راغبة خاتون ـــ اخيرا لمدة تزيد على ربع قرن من الزمن؛ فحصلنا على علاقة ثقافية وأسرية كان من محصلتها تلك الذكريات العاطرة الغزيرة التي لا توفي ذخيرتها هذه السطور المتواضعة من الوفاء.

عن موقع الحوار المتمدن