من تاريخ بغداد العمراني..بناية مكتبة الاوقاف العامة في الباب المعظم..  كيف شيدت وكيف نقضت ؟

من تاريخ بغداد العمراني..بناية مكتبة الاوقاف العامة في الباب المعظم.. كيف شيدت وكيف نقضت ؟

رفعة عبد الرزاق محمد
بدأ التفكير لانشاء مكتبة عامة تجمع الكتب الموقوفة في مساجد بغداد ومدارسها الدينية في القرن التاسع عشر ، ومن اشهر الداعين للفكرة كان الشيخ محمد الجميل ) ابن عبد الغني الجميل العالم الثائر) راس الاسرة الجميلية ببغداد ( محلة قنبرعلي)الذي كان متحمسا للامر بعد ان تناهى اليه ما آلت اليه الكتب الموقوفة واغلبها من النوادر والفرائد ،

وبعد ان كتب الشيخ نعمان خير الدين الالوسي كتابه التوثيقي (فهرست مكتبات بغداد الموقوفة ) .. غير ان هذا المطلب الثقافي الرائع لم ير النور الا في عشرينيات القرن الماضي على النحو الذي نذكره في هذه المقالة .

عندما تولى السيد عبد اللطيف المنديل منصب وزير الاوقاف في عام 1922 ،كان يحز في نفسه ان يرى بغداد خالية من مكتبة عامة تجمع ما تفرق من الكتب المخطوطة او النادرة في المساجد والمدارس الدينية الكثيرة المنتشرة ببغداد او المدن الاخرى . وكان مدير اوقاف بغداد السيد عبد اللطيف الثنيان ، وهو اديب وكاتب قدير ، يشاطر وزيره الراي في هذا ومؤيدا لهذه الفكرة . وكان المنديل يرى ان تكون المكتبة في جامع الخاصكي ، غير ان ثنيان راى ان تكون في مسجد الملا محمد في محلة باب الاغا ، اذ كان في المسجد هذا جزء متهدم لا فائدة منه ، فاجتمع مجلس الاوقاف برئاسة السيد صالح الملي وقرر صرف مبلغ 70000 الف روبية لبناء المكتبة وتجديد المسجد المذكور . وتم بناء بناية كبيرة من طابقين ، الاسفل للمسجد والاعلى للمكتبة ، غير ان الامر لم يتم ولم تر المكتبة النور فأجرت البناية الى الجمعية الاسلامية الهندية . ولما تولى السيد محمد امين العباسي ( من ال باش اعيان) وزارة الاوقاف تجدد الحديث عن انشاء المكتبة العامة للاوقاف . واقترح العديدون ان يكون موقعها في المدرسة المستنصرية ( كانت يومذاك موضع خلاف بين الاوقاف ودائرة الآثار) ، غير ان الهمة تقاعست حتى استقالت الوزارة وذهبت الفكرة ادراج الرياح .
ومن محاسن الايام ان يتول وزارة الاوقاف الشيخ احمد الداود سنة 1928 الذي قرر تنفيذ الفكرة مهما كلف الامر ، وشكل لجنة لجمع الكتب من المساجد والمدارس وغيرها في حزيران 1928 ، كما اعيد اختيار بناية باب الاغا لتكون مكتبة الاوقاف العامة .
وبعد ان تم جمع الكتب من المساجد والمدارس الدينية ، اراد الوزير نقل مكتبة جامع الامام الاعظم الى المكتبة الجديدة ، لكن الاعظميين وقفوا بوجه ذلك وقدموا الاحتجاجات ثم اقاموا التظاهرات ، ووجهت الاتهامات الى الوزير، ووقعت معارك كلامية بين النائب محمود رامز ووزير الاوقاف ، غير ان الوزير صمد اما منتقديه ووقف وقفة راسخة امام التحديات ، ولهذا يكون للشيخ احمد الداود الفضل الاكبر في تأسيس مكتبة الاوقاف العامة .
جمعت المخطوطات والمطبوعات النادرة من مكتبات المدرسة السيمانية والخزانة الالوسية ( النعماني) في جامع مرجان وجامع الكهيه ومسجد الجنيد البغدادي ومسجد الرواس وجامع المصرف وجامع الحيدرخانة والتكية الخالدية وجامع نائلة خاتون وجامع القبلانية وجامع الاصفية ومسجد الباججي وجامع الامام الاعظم.
افتتحت المكتبة مساء الجمعة 11 صفر 1347هــ الموافق 27 تموز 1928م ، ورعى الاحتفال الملك فيصل الاول ، وحضره عدد كبير من الوزراء والاعيان والنواب والعلماء والادباء والصحفيين . كان باب المكتبة مقفلا بقفل من ذهب ، ومفتاحه ذهبي ايضا . وتليت كلمات الوزير الداود والشيخ محمد رشيد مدرس الحيدرخانة ، ثم تلا الرصافي قصيدته :
لقد جمع الشيخ هذه الكتب
فانقذها من اكف العطب
ثم القى الشاعر عبد الرحمن البناء قصيدته :
ان رمت ان تزداد سلطانا
كن للعلى والمجد عنوانا
والقى المحامي عباس العزاوي كلمة ، واختتم الحفل بكلمة للاستاذ عبد اللطيف ثنيان ، واهدي القفل والمفتاح الذهبيان الى الملك فيصل الاول .
وافتتحت المكتبة للمطالعين في 29 تموز 1928 بتوقيت من الساعة 9،5الى الساعة5، 12 ومن الساعة 4 عصرا الى الساعة5،7 مساءا . واول امين لها هو السيد شفيق بك الذي كان كاتبا في المحكمة الشرعية ثم محافظا لمكتبة الامام الاعظم ثم امينا لمكتبة الاوقاف العامة . ومن الشخصيات المعروفة في المكتبة كان المرحوم عيسى الالوسي ( ت1968) الذي عين موظفا في المكتبة تنفيذا لاحد بنود وقفية جامع مرجان التي تنص على ان يكون احد افراد الاسرة الالوسية مشرفا على الخزانة الالوسية في جامع مرجان ، وعيسى هذا ابن ثابت بن نعمان بن ابي الثناء الالوسي .

بناية المكتبة في الباب المعظم :
تم بناء هذه البناية الجميلة المتميزة ببنائها وقبتها اواخرسنة 1931 وانتقلت اليها مكتبة الاوقاف العامة عندما كان السيد نوري القاضي مديرا عاما للاوقاف . وكان بدء التشييد في صيف عام 1929 عندما كان السيد جميل الوادي ( ت1957 ) مديرا عاما للاوقاف ،فامر بذلك وعهد الى مهندس المديرية السيد محمد علي افندي والى معمارها السيد عبد الجبار الجدة بتصميم البناية وبنائها . وقدرت كلفتها بـ ( 76200 الف روبية ). وقد صممت على طراز اسلامي جميل ، تجلت فيه روعة الفن المعماري ودقته ، وهي على شكل مربع وفي وسطها قبة جميلة شبيهة بقبة باب السراي بجوار القشلة .
افتتحت هذه البناية الجميلة يوم 9 كانون الثاني 1932 باحتفال كبير حضره الفريق جعفر العسكري نائب رئيس الوزراء وعدد غفير من الشخصيات الحكومية والشعبية ، وفي هذا الاحتفال قرأ الشاعر الرصافي قصيدة عنوانها خزانة الاوقاف ومطلعها :
للمسلمين على نزورة وفرهم
كنز يفيض غنى من الاوقاف
وفيه بيت التاريخ :
ناديت طلاب العلم مؤرخا
حجوا بنا خزانة الاوقاف

المكتبة الوطنية في البناية نفسها :
وكانت المكتبة العامة التي سميت بالوطنية فيما بعد تفتقد الى بناية مناسبة ، ففاتحت وزارة المعارف المسؤوله عنها مديرية الاوقاف العامة باشراك مكتبتها العامة في هذه البناية ، وبقيت فيها متخذة من الجناح الايمن لها حتى اواخر سنة 1956 حيث انتقلت الى بناية خاصة في شارع الزهاوي .
وبعد سنوات اضيف عدد من الخزائن الشخصية الى المكتبة العامة مثل : مكتبات عاصم الجلبي ، محمد سعيد الطبقجلي ، علي حيدر الباججي ، عبد الحليم الحافاتي، حسن الانكرلي ، منير القاضي ،اسماعيل الصفار ، المحامي مهدي الكاهجي ، احمد زكي المدرس ، مكي الجميل ، جمال الدين الالوسي .
ازيلت هذه البناية الرائعة سنة 1960 مع بناية اخرى لا تقل عنها جمالا هي بناية المدرسة المأمونية ، فانتقلت المكتبة الى بناية هي دار الطبقجلي في منطقة الكسرة وبقيت حتى انتقالها الى بنايتها الجديدة . ومن المؤسف ان تبقى ارض البناية جرداء الى سنوات بعد هدمها بقرار متسرع لم يرع للتاريخ والفن المعماري حرمة . في الستينيات انشأت بناية جديدة لمكتبة الاوقاف العامة بمساعدة مؤسسة كولبنكيان اذ فوتحت من قبل مدير الاوقاف العام السيد حبيب الفتيان فوافت المؤسسة المذكورة على منح مبلغ 50 الف ديناروبوشر بالتفيذ عام 1966 على ارض حديقة المعرض بجوار وزارة الخارجية ، وافتتحت بعد اربع سنوات .
وللحديث بقية ..