إمام عبد الفتاح إمام..  هموم الهيجلي الأخير

إمام عبد الفتاح إمام.. هموم الهيجلي الأخير

سامح إسماعيل
متكئاً على عصاه، وقد ألقى عليها بثقل سنوات عمره التي قاربت الخامسة والثمانين، حلّ إمام عبد الفتاح إمام ضيفاً عليَّ، وبودٍ فشلت ملامحه الجادة في إخفائه، دار حوار إنساني طويل، على مدار يوم كامل، تتابعت فيه مشاهد عدة من حياة الهيجليّ الأخير، طرح أمامي بحزن شكواه من الصمت المطبق الذي بات يلف سنواته الأخيرة، مؤكداً في مرارة أنّ أحداً لم يعد يهتم بما أفنى فيه عمره، في عالم وصفه باللامعقول.

متمنياً له العمر المديد، ومحاولاً تخفيف وطأة اليأس البادية عليه، من إصلاح ما آل إليه واقعنا المعرفي، حاولتُ أن آخذ الحوار في مسار آخر، علّني أفوز بصحبته لأطول وقت ممكن، وهو ما كان، لكن هواجس شتّى تصيب المرء بنوع من الحيرة، تنصب كلها حول سؤال واحد: إلى أين تذهب كل تلك الأفكار في عالم بات يرفض المنطق العقلي، وهو يفصح في تبجّح عن كل تناقضاته؟
هيجل نقطة انطلاق لمشوار طويل
ربما كان التشابه بين هيجل وإمام عبد الفتاح، سبباً في اهتمام الأخير به، إلى الحد الذي جعله يكرس عقوداً من حياته لدراسته وترجمة كتاباته، كانت لحظة هيجل - على حد تعبير إمام عبد الفتاح- تموج بأوشاج متناقضة، وتيارات متضاربة متلاحمة، صهرته في دوامتها، حيث شهد اندلاع الثورة في فرنسا، وراقب بحذر تطاحن النظم الاجتماعية؛ النظام الإقطاعي من جهة، والنظام البرجوازي من جهة أخرى، متأملاً كل ما خلّفته الثورة الفرنسية من أحداث، انعكست على بلده ألمانيا وكل أوروبا.
كانت الذاتية في أرقى تمثّلاتها المعرفية هي الدرس الأول الذي تعلمه إمام من هيجل
لعلّه نفس ما حدث مع فيلسوفنا الراحل، والذي تفتّح وعيه على صراعات المرحلة الانتقالية بين عهدين؛ العهد الملكي الإقطاعي، الذي ولد وقضى نحو عقدين من حياته في رحاب تناقضاته الطبقية، والعهد الجمهوري الاشتراكي، ووعود مرحلة التحرر الوطني في المنطقة العربية، وكل ما خلّفته ثورة يوليو من أحداث، وما حققته من انتصارات، وأصابها من هزائم وانكسارات، من هنا كان هيجل في فكر إمام عبد الفتاح نقطة انطلاق مركزية، مريرة وممتعة على حد تعبيره، كان لقاؤهما بمثابة اشتباك معرفي مربك، اكتنفه الغموض في لحظته الأولى.
كان إمام عبد الفتاح قد قرّر أن يدرس مفهوم الجدل، والذي تقاطعت كل مساراته عند هيجل، فشرع في دراسة الجدل الهيجلي، منكباً عليه دون فهم، ورويداً رويداً، تكشف أمامه الطريق، بعدما أغمض أعين أفلاطون التي قرأ بها هيجل، وبدأ يقرؤه بمفاهيمه، ومصطلحاته الخاصة التي نحتها لنفسه، وقد تعلم منه أن طريق الفلسفة مُعبد بالأفكار الذاتية المتجددة، انطلاقاً من قول هيجل: "نجد أنّ الحيوان لا يستطيع أن يقول "أنا"، بينما الإنسان وحده يستطيع أن يقول ذلك، والسبب أنّ الإنسان وحده من طبيعته أن يفكر"، وعليه، كانت الذاتية في أرقى تمثلاتها المعرفية، هي الدرس الأول الذي تعلمه من هيجل.
في دراسته للمنطق الهيجلي، خلص إلى أنّه يقوم أساساً على فكرة التطور والحركة، فالشيء هو عملية سيره، وليس ثمة شيء جامد أو ساكن، وإنّما الكون كله دائم الحركة والتطور، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى نسبية المعارف البشرية، فمعلوماتنا عن الأشياء الجزئية بالضرورة، لابد أن تكون صحيحة صحة جزئية، فالحقيقة عملية نمو، والكل هو وحده الصادق صدقاً مطلقاً، لكننا لن نصل أبداً إلى هذا الكل لأنه متناه.
لقد أظهر المنطق الهيجلي في ظن إمام عبد الفتاح، أنّه لا يمكن قبول فكرة من الأفكار، أو حادثة من الحوادث كما تبدو؛ لأنّنا إذا أردنا أن نعرفها معرفة حقيقية، فلا بد أن نذهب إلى ما هو أبعد منها، ونربط بينها وبين الأفكار والحوادث الأخرى، فالوجود يكمن في الذات، والانعكاس أيضاً في الذات، فإذا انفصلا لن يكون كل منهما إلا تحديداً أجوف، لا وجود له في الواقع، فليس هناك شيء في ذاته مستقل عن غيره.
يمكن القول إنّ المنطق الهيجلي، شكَّل وعي إمام عبد الفتاح، وفتح أمامه نوافذ متعددة لمفاهيم أخرى، كوّنت فيما بينها رؤيته للواقع، وفهمه الخاص للفلسفة، وهي في ظنه إذا أريد لها أن تكون معرفة منظمة، فينبغي عليها ألا تستعير منهجها من علم آخر، بل لا بد أن ينبع من صميم موضوعها ذاته، فهي تنشد الضرورة العقلية لا الضرورة الآلية، أي تبحث عن نشاط العقل كما يتجلى في العالم، فالمنهج الفلسفي هو ببساطة ذلك المنهج العقلي غير المجرد، والذي يصفه من خلال مشهد شديد البساطة، لشاب وسيم يساق إلى المقصلة بين جمع غفير من الناس، تجد النساء لا يرون منه إلا وسامته التي يأسفون لضياعها، بينما يرى الشيوخ فيه مثلاً من أمثلة الرقاعة والخلاعة، في الوقت الذي لا يجد فيه رجال الدين إلا شاباً ارتكب جرماً يجب أن يحاسب عليه، ومن ثم يكون إعدامه جزاء وفاقاً لما قدمته يداه، هؤلاء جميعاً، في رأيه؛ مفكرون تجريديون، لأنّهم يُقطّعون الواقع أمامهم إلى شرائح معزولة، يجعلون منها موضوعاً لتفكيرهم، وهم بذلك يبتعدون عن الوجود الحي الذي يريدون فهمه.
تواصلت الرحلة الطويلة مع هيجل، فكتب: فلسفة التاريخ- هيجل، أصول فلسفة الحق- هيجل، ظاهريات الروح- هيجل، محاضرات في تاريخ الفلسفة- هيجل وغيرها، حيث ظل مخلصاً لمحطته الأولى.
هل ثمة قطيعة بين الشرق والحرية؟
يقول إمام عبد الفتاح إنّ "المجتمع الشرقي لم يعرف من الحرية إلا حرية الحاكم، فهو وحده الفعال لما يريد، والكل عبيد يأتمرون بأمره"، ثم مضى في كتابه "الطاغية"، يكشف في جرأة متناهية جذور الاستبداد في تاريخنا، رافعاً غطاء القداسة عن أمراء الدم الذي تغلبوا بالسيف، تحت غطاء التفويض الإلهي، ليؤكد أنّ المصاحف والقمصان الملطخة بالدماء التي رفعت فوق أسنة الرماح، في حروب مقدسة، ما هي إلا استجابة لأطماع حاكم تسيّره أهواؤه ونزواته.