فوزي كريم الشاعر القلق الممسوس بالمجهول

فوزي كريم الشاعر القلق الممسوس بالمجهول

علي حسن الفواز
تظل قراءةُ القصيدة باعثة على القلق، لأنَّها تلامسُ ما هو وجودي وما هو مجازي واستعاري، وكلُّها وحداتٌ “سائلة” من الصعب ضبط إيقاعها ووضعها في سياق معياري أو في استعمالات قارّة، وإذا كان النقد الأدبي معنيا بقراءة القصيدة بوصفها الجمالي-البلاغي والنحوي- فإنَّ الدراسات الثقافية والنقد الثقافي هما المجالان الأكثر تعقيدا في التعاطي مع مفهوم القصيدة،

وفي إحالتها إلى مستويات القراءة النسقية، بوصف القصيدة ممارسة ثقافية، لذا فإنّ النقد لا يكتفي بظاهرتها اللسانية.
قراءة الشعر أبعد من الظاهرة اللسانية هي سمة الكتاب النقدي “المرايا والدخان/ دراسة في شعر فوزي كريم” للناقد ياسين النصير، في سياق تقديمِ مقاربات تُلامسُ اليومي والهامشي في شعريته، وفي البحثِ عن تعالق هذه المقاربات مع التمثلات الاجتماعية والسياسية لتجربته، وعبر ما تكشفه من هواجس وشحنات تتبدّى من خلالها ظاهرة شعرية المدينة، بوصف فوزي كريم شاعرا مدينيا، له قاموسه، وله رؤاه، وله مراياه التي تُحيل إلى ما يسميه الناقد بالفضاء الشعري.

لعبة الاستكشاف
ضمّ هذا الكتاب، الصادر عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق بغداد، مقدمة، وعتبة للعنوان، مع ستةِ فصول استغرقت عوالم المتون الثقافية لتجربة الشاعر فوزي كريم، بوصفها تجربة/ شهادة على تحولات شعرية وثقافية على مستوى اللغة والمكان، أو على مستوى الفضاء الاجتماعي في سياقه التمثيلي والرمزي، أو في سياقه التعبيري/ البصري.
في عتبة العنوان يضعنا الناقد أمام قراءة ثقافية تستغور علاقة التجربة الشعرية للشاعر مع حمولاتها التأويلية والاجتماعية، من جانب، أو من خلال علاقتها بسيميائية المكان والمنفى، تلك التي تتقارب التمثّلات الثقافية والسياسية مع معطيات التحوّل الشعري، لا سيما داخل المشغل التجريبي لما يُسمى بـ”الحركة الثانية للحداثة الشعرية” بكلّ أسئلتها، وتقانات مقاربتها لمفهوم الشعرية، وللرؤى التي تقف خلفها، بوصف أنّ تجربة فوزي كريم ذات مرجعيات فلسفية وذهنية ونفسية، إذ هو “شاعر قلق، ممسوس بالمجهول، قلقه وجودي، وتحولاته بطيئة”.
يقترح الناقد بداية توصيفا لقصيدة فوزي كريم بتسميتها “القصيدة الفضائية” تلك التي تجد في الفضاء مجالا لتوصيف عوالم شعريتها، ولما يخصّ بنيتها التكوينية، على مستوى وظائفية الضمائر والزمن من خلال بنية الأفعال، أو على مستوى تقانة كتابتها، وبما يجعل هذه الكتابة وكأنها تعيش هاجس المغامرة، أو تمارس لعبة الاستدعاء، حيث لعبة الأقنعة، والرؤية الإيهامية للواقع، وحيث اللغة بتمثلاتها الاستعارية، وحيث “أحلام اليقظة المبهمة والغارقة في المجهول النفسي والواقعي، والممتنعة عن الانثيال المجاني”.
لعبة الكتابة عند الشاعر تقترب من الحياة، لكنها تنفرُ عن مباشرتها عبر محاولته للاقتراب من الذاتي/ الطفولي والشعري/ التأملي، وللابتعاد عن سيميائيات الموت، الخوف والرعب، وبما يُعطي له هامشا لاصطناع المزيد من الاستعارات بوصفها أقنعة للتستر، أو مرايا لتأكيد فاعلية الذات، وأنّ ما يهجسُ به الشاعر يظلّ رهينا بقدرة ما يستكشفه، وما يصطنع له من تمثلات بصرية تتوهم تجاوز مرايا الذات، وبما تهجس به من إيحاءات، أو من معان حرّة، إذ تتفجر روح المكان، وهوامشه، وتتشظى المرآة إلى مرايا متعددة، وبما يجعل حضور الشاعر أكثر تبديا عبر ما تُشعرنا به القصيدة المتمردة على مرآتها، وما تتركه قراءتها من تشظيات “الاستعارة والمفارقة والاحتمالية”.
الكشف عن الحمولات الثقافية للشعرية، يعني اهتمامه بالتصوير، داخل المرايا أو خارجها، بوصفه مجالا للرؤية، أو بوصفه تعبيرا عن الفضاء الذي يستوعب العلامات المرآوية وتشكلها في القصيدة، وفي الجملة، وعلى وفق ما تقترحه القراءة الثقافية من موجّهات تلامس اشتغالاته في الشعري، ومنذ بداياته في الستينات ونهايته في الألفية الجديدة، على وفق قانون الديمومة البرغسونية كما يقول الناقد، أو عبر تتبع حياة الشاعر في المكان المتحوّل، والتي تعني تحوله الشعري أيضا.
وفي الفصل الثاني يتقصى الناقد مسيرة الشاعر في الزمن وفي اللغة، وعبر تقانة “الاستكشاف” إذ يصطنع لهذه الفكرة مستوى معينا من القراءة، تلك ترصد لعبة الشعر في سياق لعبة الزمن، حيث الأنا وعزلتها، وحيث استغراقات الشاعر في فضاء تلك العزلة، إذ يهيمن خطاب النداء والاستدعاء عبر تمثلاتهما الرمزية، لمواجهة مهينة الغياب والمحو، من خلال استدعاء شفرات الأنوثة والمرايا والمأوى/ البيت، وكأنه يستبطن عبر هذه اللعبة هواجسه إزاء الفقد والمتاهة، وأسئلته إزاء وحشة الغياب، وامتلاء الاستعارة، واتساع المرايا بشواظ الدخان.

حافة الأسئلة
القراءة الثقافية لا تعني الإحالة إلى ما هو اجتماعي أو نفسي، وتعرية ما هو مضمر في الجملة الشعرية فقط، بقدر ما تعني أيضا جملة من الإحالات إلى الوجودي والرؤيوي والاستعاري بوصفها مجسات للاختراق، فضلا عن كونها لعبة الشاعر المضادة في استنطاق اللغة عبر البحث عن تمثيلاتها السيميائية في المكان/ المنفى والجسد، وعبر التماهي بشغف التعويض، حيث أنّ “التماهي بين الشاعر والقصيدة هو من قبيل القناعة بأنّ الشعر يعوّض عن المشاركة في أي فعالية سياسية خارجية”.
وحيث يكون السياسي هنا الوجه الآخر للاجتماعي والأيديولوجي، مثلما يعني، أيضا، محاولة لأنسنة المنفى، وبما يُعطي للشعري فعله في الانزياح عن المألوف، والبحث عما وراء عزلة الشاعر، تلك التي تحضر فيها اللغة بوصفها ممارسة ثقافية، أو بوصفها نشيدا ذاتيا، أو عواء روحيا، أو إبصارا لما خلف النافذة والسطح، أو بوصفها تماهيا مع فعل اللذة الذي تتوهم وجوده عزلة الشاعر.

إعادة تشكيل أحلام اليقظة المبهمة
تقانة الاستعادة لا تعني من جانب آخر استعادة التفاصيل بمعناها المباشر، وأنّ لعبة الشاعر في هذه التقانة قد تكون أكثر هوسا بـ”إيقاظ اللغة” حيث يفكر الشاعر برؤياه، وحيث تستدعي المخيلة المفقود والغائب والبعيد بالوصف التاريخي والمكاني، أو بوصفه التعويضي والإشباعي والإيهامي، فاستدعاء عبدالأمير الحصيري وحسين مردان ومنهل نعمة ونجيب المانع، هو محاولة تناصية في الإشباع الرمزي، وفي أنْ يكون الشاعر رائيا وشاهدا في الزمن الشعري والنفسي والسياسي، وهو ما يجعل الشاعر كما يرى الناقد “لا يكتب قصيدة رثائية، ولا قصيدة تذكرية، إنما قصيدة وجدانية تختلط فيها ضمائر الاثنين، بل ضمائر القراء أيضا”.
تنامي فعل الخبرة في شعرية فوزي كريم جعلته أكثر شغفا بالعودة إلى البراءة، تلك التي تعني لها البكورة والعري والتلصص والمرايا والتعالق بالتفاصيل، والتي تسبغ على اللغة توهجا وصفيا واستعاريا، مثلما تجعلها أكثر شراهة في التعبير عن الذات، تلك التي تصنع اللغة اغترابها، ويصنع الواقع لها وجودا زائفا، والناقد البصير في هذا السياق يقترح للشاعر فوزي كريم حضورا إيهاميا في المكان، وأنّ حساسيته الشعرية لا تعني وجوده خارج الحياة وصراعاتها، فبقدر ما هو شاعر للمزاج وللتموضع في شعرية البراءة، فإنّه ينحاز إلى الأفكار أيضا، لا سيما تلك التي تعزز لديه الإحساس المتعالي بالجمال والمعنى، والانتصار لقيم التقدم كما يقول الناقد.
شعرية البراءة هي ذاتها شعرية التعويض، وإنّ انحياز الشاعر لها يعني مواجهة الأسئلة التي تحوطه، والتناقضات التي تحاصره بالزمن العابر للجسد، واللغة التي تعبر فيها الإحالة إلى نقائضها، حتى تبدو لعبته في مواجهة ثنائية “الغياب والحضور” وكأنها لعبة المرايا ذاتها، تلك التي تُعطي للجسد أوهامه الفائقة وإفراطه في التأويل وفي الاستعادة، وبما يجعل تلك اللعبة مقابلا قلقا لشعرية الخبرة، حيث يتمرأى الشاعر عند حافة الأسئلة.