المثقفون والثورة العراقية الكبرى 1920 منشورات الثورة وصحافتها

المثقفون والثورة العراقية الكبرى 1920 منشورات الثورة وصحافتها

د . سامي عبد مشعب الموسوي
واجه المثقفون العراقيون سلطة الاحتلال ، عندما احسوا انه من المتعذر بل من المستحيل موافقة المحتلين على اصدار الصحف الوطنية التي تعبر عن آمال الشعب العراقي في بناء دولة وطنية مستقلة ، فبادروا " وطبعوا المنشورات بالدعوة إلى القيام بالثورة" وكانت "المنشورات الحزبية ترسل تحت جنح الظلام وبأساليب مختلفة".

يقول طالب مشتاق: جاءني يوماً والثورة مشتعلة في منطقة الفرات صادق حبة وبيده ورقة قدمها إليّ وقال : انها وردت من النجف يطلبون إلينا طبع مائتي نسخة منها ، وقرأتها وإذا هي منشور يحث العشائر وكل الناس على القتال ضد الإنكليز ومقاومة الاستعمار بكل أشكاله وألوانه ، إضافة إلى ذلك فقد صدر العديد من المنشورات عن رجال الثورة في هذه المدينة تؤكد الصلة الوثيقة والرابطة الوطنية بين قادة الثورة في النجف وزعماء الفرات كما تؤكد الصلة القوية مع ثوار بغداد وغيرها من مدن العراق، وهذا بدوره يؤكد توافق الاتجاه الوطني بين مثقفي العراق في سائر مدنه ، إلى جانب ذلك استمر طبع (المنشورات اليومية الحاوية لإخبار المناطق والمقالات الشديدة اللهجة والنصائح القيمة) في مختلف المدن العراقية ، كما برزت في ايام الثورة بشكل واضح (الخطب والمنشورات السياسية التي تتعلق بمسألة تقرير المصير).

استمر دور المثقفين العراقيين من كتاب وصحفيين باصرار على مواصلة الجهاد الوطني ضد المحتلين من خلال المنشورات السرية والصحف الواردة من دمشق وغيرها.
ففي عام 1920 تأسست هيئة تنسيق نشاطات " حرس الاستقلال" والمنظمات الدينية وشيوخ القبائل ودعيت بمكتب الثورة(. وأخذ المكتب على عاتقه توزيع النشرات السرية والصحف الواردة من خارج العراق ثم تطور هذا المكتب إلى أن أصبح علنياً باسم "الحزب الوطني" ، وقد أدى دوراً مهماً خلال الثورة في توزيع النشرات التي يقوم بتنظيمها الشيخ محمد باقر الشبيبي وتتضمن سير المعارك في مختلف ميادين الثورة.
ومن أهم الأدوار التي مارسها المثقفون الوطنيون في الاعداد للثورة هي متابعة حركات البريطانيين في كل مكان ونشر مساوئهم لاسيما ما يتصل بالضرائب التي فرضوها على المدنيين والعشائر بدون انصاف ، فقد فرضوا ضرائب مضاعفة عما كان يتقاضاه العثمانيون وقد عمل زعماء الحركة الوطنية على نشر هذه المساوئ بين رجال العشائر وسكان المدن وربما كانوا يهولون في بعضها في بعض الأحيان لزيادة النقمة على المحتلين ، فكان زعماء العشائر يتشائمون من المستقبل المظلم الذي ينتظرهم كما كانوا يبثون " اشاعات عن اضطرابات وشيكة الوقوع بواسطة المعلمين(وغيرهم من الدعاة المثقفين الذين يتصلون بالعشائر وبمختلف طبقات الشعب من كسبة وعمال وحرفيين " وفد أرسل مئات الدعاة لهذه المناسبة إلى جميع أنحاء الفرات الأوسط"، فساعدوا على نشر الحماس في نفوس المواطنين العراقيين . لقد ساهمت الفئات المثقفة في بلورة الاتجاه نحو الثورة ضد المحتلين وتجسد ذلك في النشاط الصحفي في ايام الثورة أو قبلها.
كانت الصحف والمجلات والجرائد التي اصدرها عدد من المثقفين العراقيين تؤدي دوراً كبيراً في التاريخ السياسي والفكري للعراق ، بما قدمته من أفكار وآراء ومعطيات سياسية ساهمت في دعم الحركة الوطنية في العراق ، كما ساهمت هذه المجلات والجرائد في نشر الوعي الوطني والقومي لدى العراقيين وكشفت لهم الحقائق عن بشاعة الاستعمار وضرورة اخراج المحتلين من بلدهم ، ودعتهم إلى التمسك بالوحدة الوطنية والمطالبة بالسيادة والاستقلال للعراق . وأول مجلة عربية دعت إلى الثورة ونشرت مفاهيمها "اللسان"، إذ كانت "تنادي بالحرية والسيادة والاستقلال "، وقد عالجت منذ صدورها القضايا الوطنية والقومية ، كما انها كانت أول صحيفة أهلية تطالب بحقوق العراق في الحياة والدعوة للنهوض ، وكانت واسعة الانتشار لقيامها بمعالجة القضية العربية واظهار محاسن المدنية العربية وترمي إلى تذكير الأذهان في العراق بما كان لأمتهم من المكانة السامية لا سيما في نفوس الشباب العراقي المتحمس للثورة ، مما شجع المثقفين ان يرسلوا مقالاتهم وأبحاثهم لتنشر على صفحاتها .
وعندما قررت قيادة الثورة اصدار صحف ناطقة باسمها لتنقل اخبار الثورة أولاً بأول لترد على مجلات الدعاية البريطانية ضد الثورة أصدرت قيادة المثقفين في النجف المحررة من السلطة البريطانية ، جريدة الفرات وأتبعتها بجريدة الاستقلال، ثم ظهرت في بغداد جريدة "الاستقلال البغدادية"، وقد شكلت تلك الصحف نواة الصحافة الوطنية آنذاك .
كما تصدت تلك الصحف إلى مواجهة المحتلين من خلال المقالات والكتابات التي كانت تنشر في صفحاتها ، فقد أدى المثقفون العراقيون دوراً وطنياً في كتابة البيانات والمقالات التي تندد بالاحتلال ، الذي لا يتفق مع المدنية والإنسانية ، إذ ان الاحتلال يعني تهديم دعائم النظام الاجتماعي واسقاط حقوق الإنسان وسلب الحريات ومصادرة الملكيات . فنقرأ ما قالته الفرات في أحد أعدادها في هذا الشأن :
(وشاهدنا قوماً ليسوا من البشر ، أفسدوا البلاد واضطهدوا العباد ، وسحقوا القوانين العامة ، وهتكوا حرمة الشرائع الموضوعة ، وهدموا دعائم النظام الاجتماعي … قلب صفحات التاريخ القديم والحديث فلا تجد سوى البريطانيين أفسدوا النظام ، واسقطوا حقوق الإنسان فلا حرية ولا طمأنينة ونزعوا الملكية وهي من حقوق الإنسان المقدسة لأنها من لوازم الحرية والمساواة ، نعم فهم كما أسقطوا حقوق الإنسان المدنية أسقطوا حقوقه السياسية فعاد ولا حق له ، محروماً من كل ميزاته محروماً من عمومياته وذاتياته).
كذلك من مواقف صحافتنا الوطنية في تلك المرحلة والتي أسهمت في تعرية أهداف الاستعمار البريطاني نقرأ ما قالته "جريدة الفرات" أيضاً في هذا الشأن : "…ان البريطانيين اسقطوا حقوق الإنسان المقدسة " ثم خاطبت البريطانيين بهذا الخطاب الذي ينم عن جرأة وثقافة وطنية : (لقد هدمتم هذا الركن بمقالع من السياسة التي أهلكت الحرث والنسل وأتت على الأخضر واليابس فتراب كل منطقة يشهد بأنكم سلبتم الحب حتى من منقار الطائر واستخرجتم المخ من العظم وضاعفتم الخراج أضعافاً للزارع فأصبحوا يسألون الناس إلحافاً وأنتم تسألونهم فوق الجهد وتكلفون نفوسهم فوق الوسع أهذا عدلكم).
كانت تلك المقالات بمثابة الحرارة الوطنية التي ألهبت العواطف وأعطت الثقة للمواطن العراقي بنفسه والاعنزاز بوطنيته وقوميته.
وقد مثل صدور العدد الخامس من جريدة الفرات العدد الأخير الذي احتجبت بعده الجريدة وتفرق قادة الثورة ومثقفوها في السجون والمعتقلات والمنافي . إن احتجاب جريدة الفرات عن الصدور لم يبق الساحة الثقافية خالية من حملة الأقلام من المثقفين الذين لا يهمهم في الحياة شيء سوى الدفاع عن وطنهم وتحريره من تبعية المحتلين ، فبرزت في ميدان المواجهة جريدة "الاستقلال النجفية " ، التي كتبت في افتتاحية العدد الأول لصدورها الأسباب التي حدت بمحرريها ومؤسسيها وكتابها إلى اصدار الجريدة : "حمداً وشكراً وسلاماً وبعد لقد آلمنا خلو البلاد من الصحف الوطنية ، مما حدا بنا إلى اصدار جريدة " الاستقلال " في النجف بعدما كان في النية نشرها في بغداد ، لترد على أضاليل المحتلين وتهمهم ، وتنشر مظالمهم البربرية ، وترفع الستار عن حقيقتهم وتوضح مطالب الأمة المشروعة لدى العالم ، وتنشر انباء المعارك والحوادث المحلية ، وموقف الأمة على الحالة السياسية التي يتبدل مجراها كل حين وتريها مستقبلها الذي يترأى من خلال الحوادث …".
ان مساهمات المثقفين العراقيين في ثورة العشرين سواء قبيل اندلاعها أو في أثنائها ، عبرت بصورة واضحة لا تقبل الشك بأن المثقف العراقي كان وطنياً لا يفرط بحقوق شعبه ولا يقبل الاحتلال والاستعباد والتبعية.

عن رسالة (دور المثقفين في الحركة الوطنية في العراق
في سنوات الانتداب)