علي حسين
هل ستحتفل الجزائر رسميا بمئوية محمد ديب التي سيدخلها العام القادم ؟ ، وهي التي تجاهلت رحيله عام 2003 ، الكاتب الذي سببت روايته الاولى "الدار الكبيرة" صداعا للاستعمار الفرنسي فقرر ان يُرحله عن بلاده عام 1959 ، وجد نفسه يعيش في منفى قاس وكئيب. وعليه ان يعبر عن همومه بلغة المستعمرين مثل جيله من الكتاب الكبار ،
مولود فرعون، كاتب ياسين ومالك حداد، الذين اجادو الفرنسية واتقنوها كانهم من كبار مبدعيها، الأمر الذي دفع شاعراً كبيرا مثل أراغون إلى أن يكتب في تقديمه لاحد دواوين محمد ديب الشعرية ان: "هذا الرجل، الآتي من بلاد لا علاقة لها بأشجار نافذتي، ولا بأنهر ضفافي ولا بحجارة كاتدرائياتنا، يتحدّث بكلمات كبار شعراء فرنسا".
ولد محمد ديب بمدينة تلمسان غربي الجزائر عام 1920، تميزت طفولته بمآس عديدة، كانت لها انعكاسات عميقة على حياته، وفي اعماله الادبية، فقد عرف اليتم قبل ان يتجاوز العاشرة من عمره، حيث توفى والده الذي كان يملك بائعا جولا ، ويَذكر في تلك الفترة الدور الذي لعبته امه في حياته ومعها معلم الابتدائية صاحب الميول الماركسية الذي فتح عينه على الثقافة الفرنسية، واعطاه اول رواية وكانت لبلزاك الذي سيعشقه محمد ديب فيما بعد حتى ان أراغون سيطلق عليه بعد قراءة ثلاثيته الروائية لقب "بلزاك الادب الجزائري"، وسيعثر في مكتبة قديمة على روايات تولستوي وهنري جيمس وفرجينيا وولف التي كتب عنها قصيدة تروي ملل الانتظار ، لم يستطع اكمال دراسته بسبب الفقر، فمارس عدة مهن، معلم بقرية على الحدود المغربية الجزائرية، محاسب في جيش الحلفاء بعدها يمتهن الترجمة من الفرنسية إلى الانكليزية، يعمل مصمم مشاتل زراعية فقد كان يهوى الرسم ويجيده، واخيرا سيتفرغ للصحافة . عن تلك الايام من حياته يقول: "كان همنا الكبير بتلك الفترة، العثور على ما نأكله.. كثير من الناس كانت تموت جوعا"، وسنجد هذا الجوع يتراءى في كل صفحة من صفحات ثلاثيته الروائية "الدار الكبيرة"، الجوع الذي يجعل بطلة الرواية تصرخ : "نحن فقراء! لكن لماذا نحن فقراء؟ ان امها لم تكن تجيبها على سؤالها، وقال بعضهم ان هذه مشيئة القدر، وقال آخرون: ان الله وحده يعلم لماذا نحن فقراء، ولكن هل هذا يكفي؟ الاشخاص الكبار يعرفون الجواب!" .
لم يكن يتصور يوما انه سيصبح روائيا، في شبابه سود كميات هائلة من الاوراق، لكنه تركها بعدما ايقن انه لا يزال شابا، وهذه الكتابة نوع من انواع النشاط لا ترتقي الى حرفة تدر مالاً، فقرر ان يبحث عن مهنة يكسب منها قوته، كان يريد ان يجد له مكانا في المجتمع، إلا ان محاولاته في الحصول على عمل تفشل ، فيجد نفسه وهو المسؤول عن زوجة وعائلة يعاني من البطالة، عندها تذكر الاوراق التي يحتفظ بها في صندوق خشبي: " قلت لنفسي لماذا لا تحاول ان تكسب المال مما كنت دونته، كنت مدفوعا إلى ذلك أكثر كوني متزوجا وعلى عاتقي مسؤولية طفل وزوجة" ، وسيحاول ان يحيل هذه المسودات الى رواية يصبح اسمها فينا بعد "الدار الكبيرة" يرسلها الى دار احدى النشر الفرنسية ، وهو متيقن ان الدار سترفضها، من يريد ان يقرأ معاناة طفل صغير مع الجوع والاستعمار، إلا ان الدار تخيب ظنونه وتقرر نشرها، بعد شهر سيجد نسخة من روايته معروضة في واجهة احدى المكتبات، ستنفذ الطبعة الاولى بسرعة، وسيعاد طبعها في الشهر الاول ثلاث مرات، عندها قالت له زوجته: "حسناً، هذه طريقة لتكسب عيشك، وانت مستمتع"، دافع عن قراره الكتابة بالفرنسية، ويرد على بعض الفرنسيين الذين يشعرون بالضيق لأن البعض يتطفل على لغتهم: "ان استخدام اللغة الفرنسية لا يجعلك تلتقي بالمجتمع، لكنه يجمعك بنفسك، بوحدتك.. ولهذا سنكون دائما جزءا من هؤلاء المغتربين والبوهيميين الذين ينصبون خيمهم على اطراف مدينة يتهمون فيها بسرقة دجاج المواطن الاصلي"، في مكتبته ثمة صورة شهيرة للشاعرالالماني ريلكة، انها تذكره بمقولة الشاعر الذي كان يبحث عن الخلاص عبر والشعر والاندماج بروح العالم : "اننا نولد مؤقتا في مكان ما، وتدريجيا نُكون مكاننا الاصلي، لنولد مرة اخرى في كل يوم، أكثر حتى يصبح المكان نهائياً " . يعترف بانه مثل ريلكه عاش طوال حياته مشردا، وكان التشرد هو مكانه الحقيقي منذ اليوم الاول الذي وصل فيه الى باريس منفيا، حيث يتعرف على لويس آراغون الذي سيساعده في في العثور على شقة باطراف باريس، والده يرفض الحصول على الجنسية الفرنسية، فقد اصر ان يحتفظ بجوازه الجزائري حتى آخر يوم في حياته، قال عن حياته في باريس انه لم يكن لاجئا سياسيا وانما "عاملاً مُهاجراً في فرنسا".
تدور احداث ثلاثيته "الدار الكبيرة، الحريق، النول" – ترجمها الى العربية سامي الدروبي – للفترة من عام 1929 الى عام 1942 ، وهي مرحلة الغليان التي ادت الى تفجير الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وقد اراد من خلالها ان يصور حجم التناقضات التي عاشها المجتمع الجزائري بين فئاته المختلفة من مستَعمرين ومستعمِرين، حيث يستعرض الوضع البائس الذي يعيشه الجزائريون في ظل الاستعمار الفرنسي، في المدن وفي الارياف.. ونجده يشيد عالما كاملا يقدمه للقراء بادق تفاصيله: "بما أنني كاتب، فإن الأدب هو الساحة التي اخترتها للقتال من أجل التعريف بالحقائق الجزائرية من خلال إشراك القراء الذين سيطالعونني عذاب وطننا وآماله".
حاول أن يخرج من سجن ثلاثيته "الدار الكبيرة" فأصدر روايات عن الجزائر ما بعد التحرير وعن ابطال يعيشون هواجس الغربة وقصائد سيريالية ومسرحيات تنتمي الى المسرح الحديث، لكن أحداً في بلاده وبلدان العرب لن يحفظ له سوى اسم الثلاثية، وبقي القراء معجبين بابطالها المعدمين، عندما توفي كان قد نشر اثني عشرة رواية بينها ثلاثيته الاولى التي سميت ثلاثية الجنوب، وثلاثيته الثانية التي صدرت عام 1985 وسميت بثلاثية الشمال، واربع مجاميع قصصية وسبعة دواوين شعر ومسرحيتان، وثلاثة كتب جمعت بها كتاباته النثرية. ترجم بعضها الى العربية مثل ثلوج من رخام ، والليلة المتوحشة ، وأنشاء ابليس ولايزا ، وكتاب عن المسرح ، ثلاثيته الاولى ستظل الاشهر وستطغى على باقي اعماله، ولعل ما ساهم في شهرة الثلاثية كونها اشبه ببانوراما رسم من خلالها تفاصيل الحياة اليومية التي عاشها سكان بلدته تلمسان، من خلال الدار الكبيرة التي سميت في الرواية "دار سبيطار" والتي تسكنها عدة عائلات . لكنّ "الثلاثية" لن تكتفي بهذه الدار ، بل ستشمل امتداداتها الشارع، المدرسة، المقهى ، ومعمل النسيج، والاسواق ، حيث يدفع محمد ديب بابطاله الى اكتشاف الواقع من خلاله المآسي الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها الشعب الجزائري الخاضع للاستعمار. ورغم ان الثلاثية ترسم سيرة بطلها عمر منذ طفولته التي تراوحت بين لحظات قصيرة من السعادة وايام طويلة من التعاسة، فاننت نقرأ سيرة مدينة تعيش تحت ظلال الاستعمار. وإذ تجرى أحداث "الثلاثية" خلال أجواء الحرب العالمية الثانية فهي ترسم الجوّ الاجتماعي والسياسي للجزائر عشية اندلاع حرب التحرير. وفي هذا العالم المثخن بالجروح والآلام يبرز الوعي الذي سيقود الى حركة الثورة والتغيير. ولعل عنوان الجزء الثاني من الثلاثية وهو "الحريق" يتنبأ بالنار التي ستهبّ لاحقاً لتحرق سلطة الاستعمار. يقول محمد ديب في هذه الرواية: "لقد اشتعل الحريق وهو لن ينطفئ أبداً".
قال لاحد الصحفيين ان سيرته الذاتية يجددها النقاد والقراء في معظم رواياته . فقد كتب عن طفولته والاحداث التي عاشها في شبابه وشيخوخته، وفي كل كتبه لم يتخل، عن ذكريات مدينته تلمسان، عن سنوات الطفولة والشباب، التي عاشها هناك، وظلت تلك المدينة حاضرة، في مخيلته، بقراها ومزارعها، كتب لها القصائد التي بدأ بها مسيرته الادبية ، وانتهى بالرواية التي اراد لها ان تعيد تشكيل حياته وذكرياته التي اكلتها سنوات الغربة