نص نادر.. الأديب المصري الذي أحب العراق واخلص اليه

نص نادر.. الأديب المصري الذي أحب العراق واخلص اليه

نجدة فتحي صفوة
سيسأل قوم من زكى مبارك ...
وجسمي مدفون بصحراء صماء
فان سألوا عنى ففي مصر مرقدي ...

وفوق ثرى بغداد تمرح أهوائي
لم تكن خسارة الأدب العربي في وفاة الدكتور زكى مبارك - رحمه الله - هينة ولا بالتي يمكن أن تعوض
وقد قال الأستاذ الزيات في رثائه الرائع للمرحوم المازني (. . . . فإذا أضيف إلى ذلك أن المازني كان أحد الكتاب العشرة الذين يكتبون لغتهم عن علم، ويفهمون أدبها عن فقه، ويعالجونها بيانها عن الطبع؛ وان هؤلاء العشرة البررة متى خلت أمكنتهم في الأجل القريب أو البعيد، فلن يخلفهم في هذا الزمن الثائر الحائر العجلان، من يحمل عنهم أمانة البيان، ويبلغ بعدهم رسالة الأدب، أدركنا فداحة الخطب الذي نزل بالأمة العربية يوم توفى هذا الكاتب العظيم)
وهذا الكاتب آخر من أولئك (العشرة البررة) فقدته اللغة العربية يوم فقدت المجاور الأزهري، والناقد الألمعي، والباحث المتعمق، والشاعر المتغزل، ربيب سنتريس، وحبيب باريس وطبيب ليلى المريضة في العراق (الدكاترة) زكى مبارك
ولا ريب أن أدب زكى مبارك سينال ما يستحقه من دراسة الباحثين وعناية المؤرخين، ويحتل مكانه اللائق به بين أدباء جيله، واترك لأصدقاء زكي مبارك أن يرثوا الصديق الوفي، ولتلاميذه وعشاق أدبه أن يدرسوا الكاتب البليغ، ولزملائه ومعاصريه أن يترجموا للفلاح الذي دفعه جده وطموحه من القرية إلى الأزهر، ومن الأزهر إلى الجامعة، ومن القاهرة إلى الصف الأول بين أدباء هذا الجيل. . .
وإنما هذه تحية من عراقي إلى الأدب المصري الذي أحب العراق، فأحبه العراقيون، ومنح هذا البلد قطعة من قلبه، وجانباً من أدبه، فبادله أهله المحبة والإعجاب، وقابلوه بالرعاية والإكرام. . . .
تحية وفاء إلى تلك الروح اللطيفة المرفرفة فوق بغداد. . .
ترجع صلة الدكتور زكى كبارك بالعراق إلى عهود دراسته الأولى يوم عنى بالأدب العباسي وشغل نفسه أعوام طويلة بأدباء العراق، فبث هذه الدراسة في محبة العراق، واسترعى تاريخه الحافل تفكيره وألهب خياله. وقد خاطب العراقيين ذات مرة في بعض محاضراته العامة قائلاً: (وأنا في الواقع تلميذ بغداد قبل أن أكون تلميذ في القاهرة أو باريس، فإن رأيتم صراحتي فلا تلوموني، فاللوم على أسلافكم الذين شرعوا مذاهب العقل والمنطق)
حتى إذا دعي - رحمه الله - إلى التعليم في دار المعلمين العالية ببغداد سنة 1937 رحب بذلك قائلاً: إن من العقل أن اعرف جوانب من الشرق بعد أن عرفت جوانب من الغرب. وصح عندي أن الهجرة إلى العراق قد تشرح دقائق الأدب في العصر العباسي، وليس من المقبول أن يصح لمثلى أن يصف باريس عن علم، ويصف بغداد عن جهل.
وشد رحاله إلى بغداد، فكان لمصر فيها سفير أدبياً ممتازاً، وأحدثت زيارته فيها حركة أدبية ونشاطاً فكرياً بما كان يبثه قلمه - على عادته أيان كان - في صحافة العراق ومجتمعاته وأنديته من حيوية وحركة. (وما هي إلا أشهر قلائل) كما يقول (حتى كنت على صلات بمختلف الطبقات في بغداد، وحتى صحت لنفسي أخطاء كثيرة في فهم الأدب والتاريخ)
قضى زكي مبارك في العراق تسعة أشهر حافلة بالعمل زاخرة بالإنتاج، ولم يقف نشاطه في حدود عمله الرسمي، أو دروسه في دار المعلمين العالية، وإنما تجاوزه إلى تأليف ستة مجلدات عن العراق وكتابة مئات المقالات، وإلقاء عشرات المحاضرات. وقد عنى - رحمه الله - بشئون العراق الفكرية والثقافية عناية عظيمة، فدرس الأدب العراقي عن فهم وروية، وكتب عن المرأة العراقية ونهضتها، وتبنى فكرة إنشاء الجامعة العراقية، وتحمس لها أكثر من العراقيين، ودعا إليها في كل مناسبة - وأحياناً بدون مناسبة أيضاً - ولعله كان أول من دعا لها ووجه إليها أنظار المسؤولين، وحملهم على التفكير الجدي فيها. وتطوع - رحمه الله - لتصحيح ما كان خاطئا من الآراء والمعلومات عن العراق في البلاد العربية، فكان على قوله (من صور العراق في مصر، ومن صور مصر في العراق) وكان رسول الأخوة العراقية المصرية، أدى بقلمه ما لا تؤديه سفارات ولا معاهدات، قال في المصريين - وهو شاهد من أهلها - (إن المصريين يفدون إلى العراق وليس في صدورهم ثروة غير الحب، ومن أجل هذا يحبهم العراقيين، فإن سمعتم أن مصرياً شقي في العراق فاعلموا أنه مصري مزيف)
كما قال في أهل العراق - وهو الخبير العارف بهم - (إن العراقيين يحبوننا اصدق الحب، فليعرفوا جيداً إننا نحبهم ونتمنى لهم كل الخير، وننظر إلى بلادهم نظر الأخوة الصادقة التي لا تضمر غير العطف والصدق).
وطلب إليه أن يلقى في بغداد محاضرات أدبية عامة، فاختار لموضوعها شاعراً عراقياً إكراماً ومجاملة لأهله، ولما رآه من شبه بين شخصية الشريف الرضى وشخصيته في تدفق الإحساس وكآبة العاطفة وغدر الزمان، فأدى بذلك خدمتين جليلتين، الأولى للأدب العربي، إذ أحيا ذكرى هذا الشاهر العظيم الذي لم ينل شعره ما يستحقه من عناية ودراسة. والثانية للعراق لما جره الحديث من ذكر العراق ووصفه وتاريخه. وكان - رحمه الله - بما عرف عنه من اندفاع الشعور وحدة العاطفة ورقة الطبع قد درس الشريف الرضى ودعا الناس إلى دراسته ودلهم على مواطن العبقرية والعظمة في شعره. ولكنه كان أول من صدق أقواله فيه، وزادته دراسته للشريف الرضى إعجاباً به، حتى قال عند تقديمه المحاضرات مجموعة في كتاب، على طريقته المعروفة: (إن الشريف الرضى في كتابي، اشعر من المتنبي في أي كتاب، ولن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلا يوم المؤلف عنه كتاباً مثل هذا الكتاب!)
وفي بغداد نظم قصيدة ألقاها في (نادى القلم العراقي) يقول إنها أعظم ما نظم في حياته عنوانها (من جحيم الظلم في القاهرة إلى سير الوجد في بغداد) ومطلعها
وفدت على بغداد والقلب موجع ... فهل فرجت كربى وهل أبرأت دائي؟
وقال - رحمه الله - في (وحي بغداد):
(وأخشى إلا اظفر بكلمة رثاء يوم يشمني الناس إلى قبري، فذاكرة بنى آدم ضعيفة جداً، وهم لا يذكرون إلا من يؤذيهم، أما الذي يخدمهم ويشقى في سبيلهم فلا يذكره أحد منهم بالخير إلا وفى كلامة نبرة تشير إلى أنه يتصدق بكلمة المعروف)
كلا يا صديق العراق ومحبه!
فلن ينساك العراقيون، وهم ذكروك لم يحسنوا إليك، وإنما احسنوا إلى أنفسهم، ولم يتصدقوا بكلمة المعروف، بل ردوا دينا لك في أعناقهم. وانك لم تعد الحق يوم قلت:
(وستمر أجيال وأجيال، ولا ينسى أهل بغداد، أن مدينتهم عاش فيها رجل أحبها أصدق الحب، اسمه زكى مبارك.)

مجلة ( الرسالة) العدد 983 في 5 مايس 1952