الأعسم : إعادة تقويم الغزّالي وإزالة الالتباس عن ابن الرّيوندِي

الأعسم : إعادة تقويم الغزّالي وإزالة الالتباس عن ابن الرّيوندِي

د . طه جزاع
الانطباع الأول عن أستاذي الأعسم
في صف المرحلة الثالثة بقسم الفلسفة في كلية الآداب جامعة بغداد للسنة الدراسية 1975 – 1976 وفي بناية مشتركة - جمعت في تلك السنة أقسام الإعلام والاجتماع والآثار والفلسفة – كان اللقاء الأول بأستاذنا الراحل الدكتور عبد الأمير الأعسم .

كانت البناية تطل على حديقة صغيرة محاطة بالورود والشجيرات ، وعلى يمينها ممر طويل يؤدي إلى باب هذه الكلية العريقة ، وعلى حشائشها الخضر يستلقي خلال الفرص والاستراحات القصيرة ، طلبة زملاء وأصدقاء من الأقسام الأربعة ، في أحاديث وحكايات عن الدراسة والامتحانات والحياة والحب والسفر والمستقبل المخبوء بين طيات المجهول ، وبين أروقة وممرات وسلالم تلك البناية البسيطة بطوابقها الثلاثة ، كنا نلتقي ونشاهد أساتذة بارزين في هذه الأقسام ، أمثال طه باقر وفاضل عبد الواحد وسامي سعيد الأحمد وعلي الوردي وفوزية العطية وسنان سعيد وابراهيم الداقوقي وغيرهم ، فضلاً عن أساتذتنا في الفلسفة ومنهم على سبيل المثال لا الحصر مدني صالح وكامل مصطفى الشيبي وحسام الآلوسي وناجي التكريتي وجعفر آل ياسين وعرفان عبد الحميد وموسى الموسوي وحازم مشتاق ونمير العاني وكريم متى وصالح الشماع ، و .. عبد الأمير الأعسم العائد قبل أشهر قليلة من عمله مستشاراً ثقافياً في السفارة العراقية بجدة 1973 - 1974 والقادم قبل ذلك بأربع سنوات من جامعة كمبردج بعد حصوله على شهادة الدكتوراه . في ذلك الصف وفي تلك المرحلة وعند بداية السنة الدراسية ، تَشكل الانطباع الأول عن هذا الأستاذ القادم من لندن بوجه صارم وشاربين كثين مرسومين بعناية ، وعينين ترصدان حركات الطلبة وسكناتهم من خلف زجاج نظارته ، وحقيبة دبلوماسية من موضة تلك السنين ، وسيكارة لا تفارق أصابعه وشفتيه إلا نادراً !
كان هذا الأستاذ – كما يبدو للوهلة الأولى – صعباً غير يسير ، حازماً مع طلبته ، منتظماً في عمله ، حريصاً على قراءة أسماء الطلبة وتسجيل الغائبين منهم في ورقة الغيابات ، وكان من المعتاد بعد انتهاء المحاضرة أن يفتح حقيبته ليستل منها كتاباً أو رزمة أوراق ، وربما مسودات كتاب من كتبه التي أصدرها في تلك السنين ، يدققها في الوقت المتبقي من زمن الدرس ، من دون أن يغفل عن طلبته وطالباته الذين يلوذون بالصمت ، بمجرد أن يرمقهم بنظرة صارمة من فوق نظارته وهي تنزلق على أرنبة أنفه !
غير أن هذا الانطباع الأول عن هذا الأستاذ الذي يعيش في برجه العاجي ويهيم مع أفكاره ومشاغل كتبه ، ويخشى الطلبة نظراته ، وجديته وصرامته ، وتقطيب جبينه ، وحركة شاربيه ، وتقوس حاجبيه ، سرعان ما فتح أبواب قلبه لهم بعد مدة قصيرة ، حينها حلت الألفة محل الخشية ، والمحبة محل الريبة ، فلم يعد الأعسم صندوقاً مغلقاً عصياً على طلبته ، بعد أن تعرفوا على سجاياه ودواخله ، ليصبح قريباً منهم ، ويستمع إليهم بإصغاء ومودة ، ويحدثهم بحميمية ومحبة وهدوء ، حتى بات بمثابة الصديق للكثيرين منهم بعد تخرجهم من الجامعة ، بل وحتى خلال سنوات الدراسة بمراحلها المختلفة . وكان طلبة قسم الفلسفة وقتذاك من الذين لديهم حب الفضول ، يتربصون بالعم ثجيل أبو كريم رحمه الله ، للاستماع منه إلى ما يدور في غرف الأساتذة الكبار من أحاديث وحوادث ومواقف وحكايات أيام وئامهم وأيام خصامهم ! فهو المخوَّل بالدخول إلى غرفهم ، ليقدم لهم الشاي المُعد على نار فلسفية يؤجِّجها أبو كريم بضحكاته المميزة ، ودعاباته المُلغزة ، وكلماته الموجزة ، وتلميحاته الساخرة ، فكان هذا الرجل العامل البسيط فيلسوف القسم الفطري الذي تشبَّع بروح (الفلفسة!)، كما يلفظها عفواً أو تعمداً ، من دون قراءة ولا كتابة ولا تنظير ولا نظريات ، وكان (هيجل) القسم وحارسه ، وحامل مفاتيح أبواب غرفه وأسراره ، الذي شهد حوادثه وشاهد تاريخه بعقلانيته وعشوائيته وفنطازيته ! وعاش مع أساتذته وتآلف معهم على اختلاف أمزجتهم وطباعهم ، منذ بداية عمله في القسم منتصف الستينيات حتى انتقاله إلى رحمة ربه ورضوانه .
بعد سنين طويلة ستكون لي شخصياً لقاءات متعددة مع الأعسم ، أستاذاً وصديقاً بعد عودتي لدراسة الماجستير ثم الدكتوراه خلال السنوات 1988 – ، 1994 ثم بعد ذلك زميلاً ضمن الهيئة التدريسية لقسم الفلسفة ، باستثناء السنوات التي عمل فيها عميداً لكلية الآداب بجامعة الكوفة 1991 – 1994 ورئيساً للجامعة بالوكالة ، ثم رئيساً لقسم الدراسات الفلسفية في بيت الحكمة 1996 – 2003 ، فضلاً عن عمله المثابر خلال وظيفته لتأسيس الجمعية الفلسفية في العراق . وقبل ذلك كله فقد عمل الأعسم أستاذاً متفرغاً في جامعتي كمبردج وأوكسفورد سنة 1977، وأستاذاً زائراً في جامعة باريس الرابعة – السوربون سنة 1978 . وخلال إشغاله لمناصبه الإدارية الجامعية والبحثية ، فإنه لم ينقطع عن قسمي الفلسفة في كلية الآداب ، بجامعتي بغداد والمستنصرية ، حيث تلامذته الذين تتلمذوا على يديه ، أو أشرف على رسائلهم الجامعية في الماجستير والدكتوراه ، والذين صاروا أساتذة وباحثين يشار لهم بالبنان ، ولا عن التواصل مع زملائه واصدقائه المقربين ومنهم الأستاذين الدكتورين عبد الستار الراوي وعلي حسين الجابري ، ومن طلبته على سبيل المثال لا الحصر ، الذين يحضرون في ذاكرتي الآن ، د . فضيلة عباس ، د . نظلة أحمد الجبوري ، د . محمد محمود الكبيسي ، د . منذر جلوب ، د .علي رسول الربيعي ، د . جميل حليل ، و .. تلميذه الوفي د . حسن مجيد العبيدي الذي نظم الفهارس الخمسة الأولى لكتاب استاذه (المصطلح الفلسفي عند العرب .. دراسة وتحقيق) .
أهم مؤلفاته الفكرية والفلسفية والببليوغرافية
أنجز الأستاذ الدكتور الأعسم الراحل عن 79 عاماً خلال عمله الأكاديمي والبحثي ، العديد من البحوث والدراسات والببليوغرافيا التوثيقية والفللوجية وأكثر من ثلاثين كتاباً ، لعل من أبرزها (تاريخ ابن الرّيوندِي الملحد – وهو اطروحته للدكتوراه في جامعة كمبردج) و(الفيلسوف الغزالي .. إعادة تقويم لمنحنى تطوّره الرّوحي ) و(ابو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات) و(رسائل منطقية للفلاسفة العرب) و(رسائل منطقية في الحدود والرسوم) و(من تاريخ الفلسفة العربية في الإسلام) و (مقاربات فلسفية في تشريح العقل عند العرب) و(دراسات في الاستشراق) و(إبن رشد وفلسفته بين التراث والمعاصرة) ، وترجمت بعض مؤلفاته إلى الانكليزية والفارسية ، فضلاً عن إشرافه ومناقشاته لعشرات من رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه في الجامعات العراقية . ومن بين هذه المؤلفات العديدة نتوقف عند مؤلفين مهمين لما لهما من دلالة على تطور المنحى الفكري عند الأعسم وابتكاره وتجديده في إعادة قراءة الكتب التراثية الفلسفية والفقهية والكلامية ، مستعينين بمقدماته وآرائه وأفكاره في هذين المؤلفين ، اللذين تركا بصمة لن تُمحى في تاريخ البحث الفلسفي العربي والإسلامي .
كنتُ مع الغزالي صريحاً صراحته مع نفسه !
انتهى الأعسم من كتابه(الفيلسوف الغزّالي ، إعادة تقويمٍ لمنحنى تطوّره الرّوحي) يوم الخامس من آب 1973 في بغداد ، وأهداه الى رُوح المرحوُم والده ، وضم الكتاب في فصله الأول تمهيداً عاماً إلى دراسة الغزّالي يحتوي على توطئة ثم استخلاص ، وما بينهما الغزّالي في المصادر القديمة وملاحظات ببليوغرافية والغزّالي في الدراسات العربية الحديثة ، ويستعرض الفصل الثاني سيرته من الناحية التاريخية ، ولادته وأسرته ودراسته ، ثم الغزّالي ونظام الملك ، والغزّالي في بغداد ، ورحلة الغزّالي ووفاته ، فيما تناول الفصل الثالث تمهيداً عن الغزّالي وموقفه الجدلي من معاصريه ، والغزّالي وعلوم الفلاسفة ، وموسوعية الغزّالي . وفي الفصل الرابع يبحث المؤلف في قلق الغزّالي ومرضه وشكّه عبر تمهيد مع مصادر القلق عند الغزّالي ، ويبحث الفصل الخامس في كتابه (إحياء علوم الدين) ونقده للمتصوفة ، وفي الفصل السادس يبحث المؤلف في الإطار الداخلي لبناء الغزّالي الصوفي ، يلحقه بفصل سابع يتضمن تخطيطاً تفصيلياً لجذور التصوف عن الغزّالي مع تمهيد في الفرق بين الزهد والتصوف ، وموقف الغزّالي من الصلة بين الشريعة والتصوف . وفي طبعات لاحقة مزيدة ومنقحة لهذا الكتاب - طبعة دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع عبده غريب 1998 وطبعة دار الأندلس التي أعاد فيها طبع الكتاب تحقيقاً لرغبة صديقه أحمد عاصي – يضيف الأعسم إلى كتابه هذا ملحقاً بعنوان (ترجمة الغزّالي في الطبقات العليّة للواسطي) وهي مخطوطة صغيرة عثر عليها في مكتبة الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة بغداد تحت عنوان (ترجمة الامام الغزّالي من كتاب الطبقات العلية في مناقب الشافعية) .
ويبدو أن الأعسم رحمه الله كان مدركاً ومطلعاً على مؤلفات لا تحصى كتبت عن الغزّالي بمختلف اللغات من أقصى الشرق إلى منتهى الغرب : « لكل ذلك ، أن يقال شيء جديد في الغزّالي أمر محفوف بالمخاطر « غير أن ولعه بقراءة الغزّالي وكتابته لمقالات وأبحاث كانت كلها محاولات فحص لشخصية الغزّالي في شقيها الذاتي والموضوعي شجعه – كما يقول – على درس منحنى تطوره الروحي : « وبعد سنوات من هذه المواصلة رجعتُ سنة 1971 من كمبردج إلى بغداد لأدّرس الفلسفة ، فكان ذلك عوداً على فحص الغزّالي وتقديمه بشكل شيّق ومبتكر لطلاّبي في كلية الآداب « . كما يُدرك الأعسم أهمية وجرأة تفكيكه المعرفي للغزّالي ، لذلك نجده يعترف بأنه كان مع الغزّالي صريحاً صراحته مع نفسه لو قدر له أن يُبعث فيكتب عن أزمته الروحية كتاباً كهذا الذي بين أيدينا .
وقد يتساءل القارئ الكريم عن هذا الجديد الذي جاء به الأعسم في قراءته للغزّالي ؟ والجواب أتركه للمؤلف : (نلاحظ أن البحث في الغزّالي بحاجة إلى منهجية جديدة تنأى بالباحثين عن التقليد أو التردد أو التطرّف له ، أو عليه) ، ويقصد بذلك جملة من الباحثين الذين اشتهرت مؤلفاتهم عن الغزّالي بين القراء العرب على وجه الخصوص ، وأبرزهم زكي مبارك في كتابه (الأخلاق عند الغزّالي ، القاهرة 1925) و أحمد فريد الرفاعي في كتابه(الغزّالي ، القاهرة 1936) وعبد الدائم أبو العطا البقري في كتابيه (تفكير الغزّالي الفلسفي ، القاهرة 1940) و (اعترافات الغزّالي ، القاهرة 1943) والأزهري طه عبد الباقي سرور في كتابه الصغير (الغزّالي ، القاهرة 1945) والدكتور سليمان دنيا في كتابه (الحقيقة في نظر الغزّالي ، القاهرة 1947) الذي عَدَّهُ الأعسم تبريراً لموقف الغزّالي أكثر منه تحليلاً لها . وكذلك يعِّرج الأعسم على كتب أخرى لهيام نويلاتي ، وشيخ الأرض ، وعرجون ، وحسين أمين ، وبدوي ، وعادل زعيتر في ترجمته لكتاب (الغزّالي ، القاهرة 1958) للمستشرق كارا دي فو ، وعبد الكريم العثمان في كتاب قدمه لنَيْلِ الماجستير في القاهرة ( الدراسات النفسية عند المسلمين والغزّالي بوجهٍ خاص) . ويصنف الأعسم أعمال مؤرخي الفلسفة الذين ينقسمون إلى ثلاثة أصناف : صنف يرى أن الغزّالي ممثل حقيقي للفلسفة ، وصنف آخر لا يرى الغزّالي ممثلاً إلّا للتيار الديني المضاد للفلسفة ، وصنف أخير ، أغرب من الصنفين ، أولئك الذين ينزّهون الغزّالي عن الفلسفة ويرفعونه إلى مصاف الأولياء . لذلك فإن الأعسم يقر انه في منتهى الصعوبة أن يخلو كتابه من مؤثرات القدماء والمحدثين ، والمعاصرين منهم بوجه خاص ، لكنه – أي كتابه عن الغزّالي – محاولة جادّة في فهم الغزّالي وتفسير مشكلته الفلسفية .
يعالج الأعسم في صفحات كتابه عن الغزّالي الكثير من الطروحات المتناقضة عن هذه الشخصية الإسلامية الجدلية المثيرة للحِجاج ، والتي لا يمكن الاطلاع عليها إلّا في قراءة معمَّقة للكتاب بأكمله ، لكننا في هذا المقال الذي نكتبه لمناسبة رحيله الأبدي يمكن فقط أن نشير إلى بعض الإشارات التي ضمّنها في خاتمة كتابه ، فالأعسم يرى أن الغزّالي « قد تصوف نتيجة جذور عميقة تعود إلى نشأته الأولى ، وتربيته ، وتلمذته على أستاذ صوفي . ثم أبعدته رغباته في الدنيا ، وإذ سقط مريضاً تنبه إلى نداء دفين دعاه إلى قطع العلائق ، فتصوف . وكما لاحظنا أن الحّلاج كان يشعر بلذة تعذيب نفسه ، وأن الشبلي كان يتلذذ بجنونه ، وأن البسطامي كان يتلذذ بهذيانه ، نلاحظ أيضاً أن الغزّالي كان يتلذذ بشقاء غريب ، رغم أنه كان متفائلاً في منهجه . ومرد هذا الشقاء مواقفه الكثيرة ، الفلسفية ، والكلامية ، والفقهية ، والسياسية . فلقد مارس الغزّالي في نشاطاته المختلفة نواحي متعددة من الكفاءات ، كفيلسوف ، ومتكلم ، وفقيه ، وسياسي ، وما صاحب ذلك من هموم وأعباء وإحباط « . وفي حكمه الأخير على شخصية الإمام الغزّالي ينتهي الأعسم إلى أنها « اعتبرت كأبرز شخصية روحية في الإسلام ، ومن أبقاها أثراً في تطوير الفكر الديني . ولقد كان في منحناه العام انسانياً ، وطموحاً ، وعاقلاً ، مع كلّ ما تجسد من شكوك في انقلابياته المتتالية . إننا نراه بحق ، من أبرز المفكرين في الإسلام ، مع ما طرأ من تحوّلات في مواقفه العامة ، وتلك حالة لم نر نقيضاً له فيها غير المفكر ابن الرّيوندِي ، الذي لم يستطع أن ينتهي لغير الأيمان بالعقل ، على عكس الغزّالي الذي فحص كل فكرة بحثاً عن اليقين ، وانتهى إليه عندما تصوف ، عن طريق الإيمان بالقلب ، فأبقى العقل في الأرض ، وصعّد ايمانه إلى السماء ! « .

رأي مخالف في عقيدة ابن الرّيوندي !
قد يلاحظ بعض القراء ولاسيما من المتخصصين في الفلسفة ومن أساتذتها وطلبتها ، أنني قدمت كتاب الغزّالي للأعسم على كتابه الآخر عن ابن الرّيوندِي مع ان هذا الأخير أسبق في التأليف من الأول ، وقد فعلت ذلك متعمداً لا غفلةً ولا سهواً ، فلقد أعاد الأعسم بعد سنوات قراءة ابن الرّوندِي قراءة جديدة بعد أن تنبَّهَ لما « تعرَّض له من التزييف والانتحال في جملة ما ينسب اليه من مذاهب وعقائد وأقوال « لذلك فإن قراءتنا للرّيوندِي كما قدمه الأعسم ستكون ناقصة وغير دقيقة لو اعتمدنا على كتابه الأول الموسوم (تاريخ ابن الرّيوندِي الملحد) ، الذي أعد مواده لأول مرة بين سنتي 1966 – 1968 وحصل فيه على الدكتوراه من جامعة كمبردج عام 1972، راجعاً فيه إلى بول كراوس كما قرأه المؤلف في كتاب عبد الرحمن بدوي (من تاريخ الالحاد في الإسلام ، القاهرة 1945) فقد ذهب الأعسم في كتابه الآخر (ابن الرّيوندِي في المراجع العربية الحديثة ، المجلد الأول) ، والذي صدر في بيروت سنة 1978، وأعقبه المجلد الثاني سنة 1975 إلى « رأي مخالف في مشكلة عقيدة ابن الريوّندِي ، ومواقفه الفكرية من المدارس الفلسفية في عصره على الخصوص « .
ألف عام من المصادر عن رجل مهم وخطير !
في المجلد الأول من كتابه (ابن الرّيوندِي في المراجع العربية الحديثة – مع الذيل الأول على « تاريخ ابن الرّيوندِي الملحِد «) الذي صدرت طبعته الأولى عن منشورات دار الآفاق الجديدة – بيروت سنة 1978 ، والمجلد الثاني الصادر عن الدار نفسها سنة 1979 مع الذيل الثاني على « تاريخ ابن الرّيوندِي الملحِد « الذي أهداه إلى الأستاذ الدكتور مالكولم كامرون لاينز مدير الدراسات الشرقية في كلية بمبروك وأستاذ العربية في جامعة كمبردج ، يشرح الأعسم أسباب إصدار هذا الكتاب الفخم بمجلديه الأول والثاني وصفحاته التي تتجاوز الثمانمائة صفحة من القطع الكبير ، بالقول : «عندما دفعت بمخطوطة كتابي « تاريخ ابن الرّيوندِي الملحِد « إلى الناشر في ربيع 1974 ، أشرتُ في مقدمتي إلى أن هناك مادة ممتازة تتعلق بابن الرّيوندِي لا زالت غير مجموعة ضمن الكتاب . وهي متناثرة في كتبٍ مطبوعة ومخطوطة ، كان من العسير عليَّ ، وكنتُ وقتها في جدة ، تهيئتها للنشر . فوعدتُ قرَّاء العربية بأن ألحق كتابي القادم « ابن الرّيوندِي في المراجع العربية الحديثة « ، بذيل استقصي فيه ما فاتني ذكره ، أو النص والتعليق عليه ، من المصادر المحددة بألف عام في كتابي الأول . ومن هذا يعرف أن الجهود المبذولة في نشر هذا الكتاب انما هي استمرار واضح للجهود التي بذلت في نشر الأصل « .
ينشر الأعسم في القسم الأول من المجلد الأول نصوصاً تعود إلى القرن الخامس الهجري وَرَدَ فيها ذكر ابن الرّيوندِي ، وهي للقاضي عبد الجبار في كتابه( تثبيت دلائل النبوة) ، ولأبي منصور البغدادي من كتابه (الملل والنحل) ، ومن القرن السادس ينشر نصوصاً لإبن عساكر من كتابه (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الامام ابي الحسن الأشعري) ، ومن القرن الثامن العلامة الحلي وكتابه (انوار الملكوت في شرح الياقوت) ، والقاضي عبد الرحمن الايجي وكتابه (المواقف في علم الكلام) ، وصلاح الدين الصفدي من كتابه (كتاب الوافي بالوفيات) ، وشمس الدين الكرماني من كتابه (شمس المواقف) ، ومن القرن العاشر شمس الدين الرومي وكتابه (رسائل في تصحيح لفظ الزنديق) ، ومن القرن الحادي عشر حاجي خليفه وكتابه (كشف الظنون عن اسامي الكتب والفنون) ، وشهاب الدين الخفاجي وكتابه (ديوان الأدب) ، وعنايت الله القهبائي في كتابه ( مجمع الرجال) ، ومن القرن الرابع عشر الحسيني النجادي القنوجي وكتابه (التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول) ، والسيد محمد باقر الخوانساري وكتابه ( روضات الجنان) ، واسماعيل باشا البغدادي وكتابيه (ايضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون) و(هدية العارفين اسماء المؤلفين وآثار المصنفين) ، والشيخ علي محفوظ (الابداع في مضار الابتداع) . ويخصص المؤلف القسم الثاني من هذا المجلد للمراجع العربية الحديثة التي ذكر فيها ابن الرّيوندِي وهي لعبد الرحمن البرقوقي (ضبط وشرح « التلخيص « للقزويني ، القاهرة 1904) ، وكامل كيلاني (رسالة الغفران للشاعر الفيلسوف ابي العلاء المعري ، القاهرة 1923) ، والأستاذ نيبرك (مقدمة كتاب الانتصار للخياط ، القاهرة 1925) ، وسليم خياطة (ابن الراوندي ، فذلكة عنه ، القاهرة 1931) ، والسيد محسن الأمين (أعيان الشيعة ، بيروت 1961) ، وباول كراوس من كتابيه (رسائل فلسفية لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي ، القاهرة 1939) و (كتاب الزمرذ لابن الراوندي ، بيروت 1943) ، وعبد الرحمن بدوي (من تاريخ الالحاد في الإسلام ، القاهرة 1945) ، وبينيس ، س (مذهب الذرة عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان والهنود ، ترجمة الدكتور عبد الهادي أبو ريدة ، القاهرة 1946) ، واحمد تيمور باشا (ضبط الأعلام ، القاهرة 1947) ، وزهدي حسن جار الله (المعتزلة ، القاهرة 1947) ، والبير نصري (فلسفة المعتزلة ، فلاسفة الإسلام الأسبقين ، الاسكندرية 1950) ، وعائشة عبد الرحمن (رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ، القاهرة ، بلا تاريخ) ، وخير الدين الزركلي (الأعلام ، القاهرة 1956) ، والشيخ عباس القمي (الكنى والألقاب ، النجف 1956) ، وعمر رضا كحالة (معجم المؤلفين ، دمشق 1975) ، والشيخ موسى السبيتي (المحاكمة بين الخياط وابن الراوندي ، 1958) ، والشيخ عبد الله نعمة (هشام بن الحكم ، أستاذ القرن الثاني في الكلام والمناظرة ، بيروت 1959) ، واحمد الهاشمي (جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع ، القاهرة ، 1960) ، وفردناند توتل (المنجد في اللغة والعلوم ، بيروت 1960) ، وجوزف الهاشم (الفارابي ، بيروت 1960) ، والأب رتشرد يوسف (التصانيف المنسوبة إلى فيلسوف العرب ، بغداد 1962) ، وعمر فروخ (صفحات من حياة الكندي وفلسفته ، بيروت 1962) ، والشيخ علي الخاقاني (شعراء بغداد ، الجزء الثاني ، بغداد 1962) ، وهاشم معروف الحسني (الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ، بيروت 1963) ، ومصطفى صادق الرافعي (اعجاز القرآن والبلاغة النبوية ، القاهرة 1965) ، والشيخ عبد الله نعمة ( فلاسفة الشيعة ، بيروت 1965) ، وعبد الحميد العلوجي (عطر وحبر ، بغداد ، 1967) ، وعرفان عبد الحميد (دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية ، بغداد 1967) ، وحسام محيي الدين الآلوسي (حوار بين الفلاسفة والمتكلمين ، بغداد 1967) ، وعبد الله الخطيب (صالح بن عبد القدوس البصري ، بغداد 1967) ، وابراهيم بيومي (في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق ، القاهرة 1968) ، وبرشتر يسر (أصول نقد النصوص ونشر الكتب ، اعداد الدكتور محمد حمدي البكري ، القاهرة 1969) ، ومحمد عمارة (المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية ، بيروت 1972) ، وفاروق عمر (لمحات تاريخية عن أحوال اليهود في العصر العباسي ، بفداد 1972) ، وماجد فخري ( تاريخ الفلسفة الإسلامية ن بيروت 1974) ، وعبد الأمير الأعسم من كتابيه (الفيلسوف الغزالي ، بيروت 1974) و( نصير الدين الطوسي ، بيروت 1975) ، وعبد الزهرة البندر (نظرية البداء عند الشيرازي ، النجف 1975) ، ونوري القيسي وسامي مكي العاني (منهج تحقيق النصوص ونشرها ، بغداد 1975) ، وعبد الله الجبوري (مقدمة ابن درستويه ، بغداد 1975) ، وجوزيف فان اس (الفارابي وابن الريوندي ، ترجمة كامل مصطفى الشيبي وعبد الأمير الأعسم ، بغداد 1975) ، ويختتم المؤلف هذا المجلد الأول ببحثه المنشور سنة 1975 تحت عنوان (الشعر المنسوب إلى ابن الرّيوندِي) . كما ينشر ملحقاً في نهاية المجلد يتضمن مقالة (ابن الراوندي) للأستاذ باول كراوس ترجمها عن الالمانية الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه (تاريخ الإلحاد في الإسلام) الذي أهدى الأعسم اليه هذا المجلد .
يواصل الأعسم في المجلد الثاني نشر النصوص القديمة والحديثة مع الذيل الثاني على « تاريخ ابن الرّيوندِي الملحِد « مبتدئاً بنص من القرن الرابع لأبي القاسم البلخي في كتابه (ذكر المعتزلة من مقامات الإسلاميين) ، ومن القرن الخامس ثلاثة نصوص للقاضي عبد الجبار هي على التوالي : (كتاب فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ومباينتهم لسائر المخالفين) ، و(المغني في أبواب التوحيد والعدل ، الجزء 16 « اعجاز القرآن « الذي حققه أمين الخولي بإشراف طه حسين) ، و ( المغني في أبواب التوحيد ، الجزء 20 « الامامة « الذي حققه عبد الحليم محمود وسليمان دنيا بإشراف طه حسين أيضاً) ، ثم نص ثالث لأبي منصور البغدادي من كتابه (اصول الدين) ، ورابع لابن الفرّاء من كتابه (كتاب المعتمد في أصول الدين) ، ونصين للنيسابوري من كتابيه(كتاب المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين) و(ديوان الاصول – في التوحيد) ، ونص سابع للحاكم الجشمي من كتابه (الطبقات الحادية عشرة والثانية عشرة من كتاب « شرح العيون « ) ، ومن القرن السادس نص لابن الأنباري من كتابه (نزهة الألباء في طبقات الأطباء) ، ومن القرن السابع نص للقفطي من كتابه (إنباه الرواة على أنباء النحّاة) ، وبذلك ينتهي القسم الأول من المجلد الثاني . وفي القسم الثاني من المجلد المخصص للمراجع العربية الحديثة يقتبس الأعسم من كتب حديثة عديدة.
بعد انتهائه من نصوص مصادره القديمة والحديثة التي بلغت 172 نصاً ، يخصص الأعسم في هذا المجلد الثاني صفحات لنصوص شرقية فارسية وتركية تتعلّق بابن الرّيوندِي ، سماها ( الضميمة) ، مشيراً إلى أن النصوص التركية في الدراسات الحديثة المتعلقة بابن الريّوندِي هامشية ، لذلك فأنه لم يقتبس إلا نصاً واحداً لسامي بيه فراشيري « كنموذج لاهتمامات الأتراك بابن الريّوندِي ، وهو اهتمام ساذج بلا ريب « وفق تعبيره . ويوضح أن النصوص الفارسية التي أحصاها عن ابن الريّوندِي هي أكثر من التركية ، لكنه لم يقتبس غير ثلاثة نصوص الأول عن حميد الله مستوفي ، والثاني عن خواند أمير ، والثالث جملة نصوص عن عباس اقبال ، ويعد هذه الدراسات خير النماذج للدراسات الإيرانية في ابن الريّوندِي . ويعود الأعسم في نهاية الكتاب إلى مصادر أخرى يخصص له ما اسماه (استدراك على النصوص العربية) يذكر فيها كتباً متنوعة لحنا الفاخوري وخليل الجر وشوقي ضيف ، وعبد الستار عزّ الدين الراوي في كتابيه (مدرسة بغداد المعتزلية الكلامية في القرن الثالث الهجري – رسالته للماجستير في جامعة الاسكندرية 1974) ، و(القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي وفكره الإسلامي – اطروحته للدكتوراه في جامعة الاسكندرية 1977) .
أردتُ من هذا العرض التفصيلي للمصادر والمراجع القديمة والحديثة والنصوص الفلسفية والكلامية التي رجع اليها الأعسم في كتابه الكبير عن ابن الريّوندِي ، أن ألفت انتباه القارىء المختص وغير المختص، إلى موهبته الفذة في البحث العلمي، وقدرته على التنقيب والتقصي، وجديته في التوثيق والفهرسة ، وإخلاصه لمنهجه في البحث ، ومرانه على العمل الببليوغرافي الذي يتطلب صبراً لا حدود له ، وفيه يظهر أثر أستاذه الدكتور كامل مصطفى الشيبي المعروف بدأبه وصبره وموهبته في التوثيق والفهرسة والحفر في أعماق المراجع والنصوص التراثية في الفلسفة وعلم الكلام والشعر والتصوف . ولا شك ان اعداد الفهارس عمل شاق قد يأخذ من وقت الباحث وجهده الشيء الكثير ، ولا بد له من معين في اعدادها . وهو لا ينسى في كل كتاب أن يوجِّهَ الشكر لمن ساعده في إنجاز الفهارس ، وهنا يشير إلى ولده مهند « الذي عوّدني على تقديم كل العون في الأزمات ، وأخصّ فهرسة كتبي السابقة ، أقول : أعدّ الفهارس العامة لمجلدي هذا الكتاب ، لوحده هذه المرّة ، بين كمبردج وبغداد 1978- 1979 ، فصرف له من وقته ، وشدّد عليه من صبره ، وضحّى فيه من تعبه ، ما برهن عندي على حُسْنِ منهجه ، وهو لمّا يتعدّ السابعة عشرة من عمره ، باركه الله ولداً طيباً محبّاً للعلم والعلماء « .
وبعد ، ما سبب كل هذه الاهتمام والتعب والجهد والاصرار والمثابرة في عودة الأعسم إلى ابن الريوّندِي الذي وصفه في كتابه الأول بالملحِد على خطى من سبقه من الأقدمين والمحدثين ، ثم عاد اليه بحثاً وتنقيباً وكشفاً جديداً يبعد عنه القراءات الخاطئة وربما المتحاملة ؟
(لكي أضع – يقول الأعسم – بين يدي المعنيين بالتراث جميع التراكمات في أخبار رجل مهم وخطير الشأن كابن الريوندي . وسيخرج القارىء من هذا المجلد ، كما خرج من المجلد الأول وقبله « تاريخ ابن الريوندي الملحد « بقضية جوهرية : اذا كان ابن الريوندي ضحية واضحة لكل هذا الانتحال والتزييف والاشتطاط ، مع ما وجدناه من اهتمام المصادر قديمها ووسيطها وحديثها به سلباً وايجاباً ، ومع تقدير أهميته البالغة في تاريخ الفكر الفلسفي- الديني في الاسلام ، فكيف حال غيره من الذين غمرهم الضياع فتاه ذكرهم في أقبية من النسيان في العصور المظلمة المتأخرة ؟) ثم يقول عن كتابه أنه : يجيب على سؤال خطير للغاية : على عاتق من تقع مسؤولية تشويه وجود حقيقة رجل ؟ .
(إن ابن الريوندي الذي بين أيدينا ، بعد فحص النصوص كلها فحصاً دقيقاً ، تلون كحرباء مع كل انتماء له لون ، وكأنه – وهكذا يعجبني ان ازعم – كان اداة بعد موته بيد هذا ضد ذاك ، وبأيدي تلك الفئة ضد هذه ، فضاع أصله وبقي لدينا ممثلاً لنزعات خصومه وخصومهم وخصوم خصومهم ، حتى يصل بنا البحث والاستقصاء إلى المؤلفين المعاصرين . لقد انتحلوا الرجل انتحالاً عجيباً ، خوّل لهم عملهم ان يقوّلوه ما لم يقله ، أو ينسبوا اليه فعلاً لم يفعله) . عبد الأمير الأعسم . لندن . في 22 أيلول 1977 م