الجواهري في ذكرى ولادته..الشاعر الكبير في اسرته وسنوات طفولته

الجواهري في ذكرى ولادته..الشاعر الكبير في اسرته وسنوات طفولته

عباس غلام حسين نوري
تضطرب الروايات في تحديد ولادة الجواهري إذ كان الشاعر نفسهُ يحرصُ دائماً عى ان يكون عمرهُ أقل مماهو عليه ، وعندما كان يسأل عن عمرهِ يتجاهل ذلك السؤال ، وقال بأنهُ أصغر من أخيه بأثنتي عشرة سنة. وميلاد أخيه مؤرخ شعراً في ديوان جعفر الحلي أي ان ميلاد عبد العزيز كان في سنة1308 للهجرة

فاذا أضفت أثنتي عشرة سنة كانت ولادة محمد مهدي سنة 1320 للهجرة وهذا قربهُ بالتاريخ الميلادي الى سنة1903 ، ويشير دفتر نفوسه الى ان ولادته كانت في عام 1902 .وهناك من يقول أنهُ ولَد في عام 1900 ميلادي في مدينة النجف وفي حي المشراق ويؤيد ذلك خضر العباسي، ومنهم من يقول أنه ولَد عام 1899 ميلادي على ما يذكر الدكتور علي جواد الطاهر في مقدمة ديوانه اعتمادا على كتاب ماضي النجف وحاضرها ..
تشير المصادر الى ان الجواهري هو "محمد مهدي" بن عبد الحسين بن الشيخ عبد علي بن الشيخ محمد حسن صاحب "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام" . وعلى هذا الأساس عُرفت الأسرة واليه تعود تسميتها بـ "الـ الجواهري أو صاحب الجواهر" . ونالت أسرة الجواهري في مدينة النجف في أوائل القرن الثالث عشر الشهرة الواسعة والزعامة الروحية في عهد جدهم الأكبر المرجع الديني الأعلى آنذاك ، الشيخ محمد حسن المعروف بصاحب كتاب جواهر الكلام الذي سبق ذكره ، ولقب جدهُ الأعلى الشيخ عبد الرحيم المعروف بالشريف الكبير لأنه سبط السيد محمد باقر الكبير بن الأمير السيد أسماعيل بن الأمير عماد الدين الخاتون آبادي الأفطسي من السادة الأفطسية ، الذين ينتسبون الى الأمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وهم عرب اقحاح .
اما جده الشيخ عبد علي فقد تزوج من "صيت" بنت الشيخ علي بن الشيخ جعفر الـ كاشف الغطاء ولم يرزق الأخير من الذكور الا واحداُ سماهُ عبد الحسين عام 1864 للميلاد الذي ترعرع وتعلم وأخذ يميل الى العلم والأدب والشعر وكان ميلهُ الى الفقه أغلب وأعم . وتزوج عبد الحسين من أبنة الشيخ شريف آل كاشف الغطاء وهي من العوائل المعروفة ، ورزُق منها بولدهِ البكر عبد العزيز وبآخر سماهُ مهدياً وهو الشاعر الذي عُرفَ بـ "محمد مهدي" وبآخرين سيرد ذكرهم لاحقاً .
نشأ محمد مهدي الجواهري في حي المشراق كما قلنا وهو إحدى المحلات النجفية القديمة في حجرِ أمهِ ورعاية والدهِ وعناية عبدة ومنذ نعومة أظفارهِ تعرض الجواهري الى حادث كادَ يودي بحياته إثر سقوطه في حوض الدار الداخلي لولا القاء والدته نفسها لأنقاذه وكذلك أصابته بمرض الجدري الشائع الأنتشار .
توفي جدهُ عبد علي وهو في الثانية من عمرهِ وكان معيل الأسرة فوقع العبء على أبيه ، يقول الجواهري عن هذهِ المرحلة من الطفولة "كان الفقر محتماً على والدي ورغم ذلك لم يفضل استغلال نفوذهِ الاجتماعي من اجل كسب المال من الآخرين حتى وصل الأمر بوالدي الى أن يبيع اكثر ممتلكات بيتنا بشكل تدريجي "السجاد ، الثريا ، الأسرجة ولم تبق الا الحصيرة" وكان والد الجواهري قد بدأ حياته شاعراً وأديباً ثم أنتهى فقيهاً ولهُ ديوان صغير مخطوط وضع بعد وفاته في مكتبة آل كاشف الغطاء في النجف التي وُهبت بعدها الى الدولة لغرض الفائدة العامة وفي معرض حديثه يقول الجواهري في تربية والدِه لهُ "أرادَ والدي أن أكون فقيهاً الا أن ذلك لم يحصل ومن هنا كانت المفارقة بين ما أنا عليه وطموح والدي عندها كنتُ أحُِس بعدم رضا والدي عني عندما يجدني وبيدي ديوان شعر ، وبمرور الزمن اقتنع والدي بولعي بالشعر والشعراء مما دفعهُ إلى أن يشتري مجموعة من الدواوين مثل الأرجواني" .
للجواهري أربعة أخوة أكبرهم الشيخ عبد العزيز الذي برعَ في مجال الأدب والعلم وهو "مؤلف وشاعر" وكان اول مانُشرَ له ديوان السيد "محمد سعيد الحبوبي" فضلاً عن موسوعة طُبعَ منها الجزء الثالث فقط وكتب أخرى .
أما الثاني فهو عبد الهادي وكان كذلك أديباً وشاعراً كما هو شأن الأسرة الجواهرية وقد طاف في عدد من المدن والبلدان العربية منها ، الكويت ، عُمان ، مسقط ، البحرين ، عدن ، الحجاز ، مصر ، سوريا ، وكذلك الهند ، وأصدر مجلة باسم "السائح" وبعدها أمتهنَ مهنة التعليم والتربية ، اعتقل في أثناء حركة العراق عام 1941وكان أيضاً شاعراً وباحثاً بُشَر بأفكارهِ في وقت مبكر وقد أصدرَ كتباً مطبوعة منها " العمارة قديماً وحديثاً" و " الوثبة" وفيها عرض لأحداث وثبة عام 1948 أما الثالث فهو علي الذي توفي صغيراً منتحراً ورثاهُ أخوه الأكبر عبد العزيز بقصيدة عاطفية مؤثرة. والرابع هو محمد جعفر ، وقد أستشهد في أثناء الوثبة على عهد حكومة صالح جبر في معركة الجسر "جسر الشهداء ببغداد" في كانون الثاني 1948 وكانت هذه الوثبة على شكل مظاهرات في شوراع بغداد ومناطقها تنديداً بمعاهدة بورتسموث سنة 1948، وكان الأخير طالباً في جامعة دمشق جاء لزيارة أهلهِ فرثاهُ الجواهري بأمهات القصائد الشعرية لديه سكب فيها أشجن عواطفه فيها .
ويمكن تتبع القنوات التي غذت ثقافة الجواهري منذ البدء ، ففي الخامسة من عمرهِ تعلم من شقيقهِ الأكبر عبد العزيز ومن أبن عمهِ "علي الشرقي" البدايات الأولى للقراءة والكتابة الى جانب الكثير من المعلمين بحيث لقنوهُ ما يصعب على الكبار تعلمهُ ، وتعلم على يد "الملّة أم جاسم" وهي سيدة فاضلة اوائل سور "القرآن الكريم" حتى دفع به والدهُ الى رجل دين مشهور في النجف آنذاك يلقب بـ "جناب العالي" وكان شديد القسوة في تعليمهِ للأطفال وكان يفرض هيمنتة عليهم بالتخويف .انتقل الجواهري وهو أبن السنة السابعة أو الثامنة من عمرهِ الى المدرسة العلوية الإيرانية في النجف الأشرف وتخرج فيها .
لم يكن الجواهري الطالب الجادّ المثالي في المدرسة عبر هذهِ المحطات الدراسية فقد بدأً من الملّة او الشيخ حتى وصل الى المدرسة الثانوية أو العثمانية التي كانت الدراسة فيها باللغة التركية . ويقول عن ذلك "حصل لي الكثير من العقوبات بسبب التهرب من الواجب المدرسي أو الشرود الذهني ، وكنتُ أحِسُّ بثقل الحصة الدراسية وخلالها كنتُ أواصل الليل بالنهار بالقراءة والحفظ وانا استمع بشوق والم شديدين الى زملائي وهم يتمتعون باللعب في الأزقة والشوارع" ويضيف الى ذلك قوله "كانت سنوات حياتي اللاحقة تبعات كل تلك المدة التي سرقت مني حملتها بكل تناقضاتها ومباذلها وعقدها ومفارقاتها حيث انعكست على حياتي وشعري بل على تعاملي مع الناس ومن معي دائماً وبقي هذا الأمر حتى مراحل متقدمة من حياتي" .
لقد حصلت مفارقة في أسرة الشاعر الجواهري وذلك بعد أن توفي والدهُ في الرابع من ذي الحجة عام 1335 للهجرة الموافق 1917ميلادية بعد عودته من القتال ضد الأنكليز مع مجموعة من المجاهدين من أبناء العشائر الفراتية في موقعه الكوت الثانية وهي أحد جيوب المقاومة في صيف من العام المذكور وهو في الخمسين من عمرهِ ، يقول الجواهري أن والدهُ قد تحدث قبيل وفاته وقال " ابني محمد سأموت فلم أرد عليه بشيء بل ودعتهُ الوداع الأخير" وعلى إثر ذلك أوجدَ لهُ مناخاً مناسباً اجتاز فيه عدة مراحل دراسية ، في المعاهد الدينية النجفية زيادة على المشاركة الفعالة في أغلب المحافل والمناسبات الدينية والأدبية في المدينة وهذا الأمر مهد الطريق لتعزيز قدراته وقابلياته الشعرية التي بدأت بالتفتح منذ عام 1916 بعد ان تجاوز عمرهِ الرابعة عشرة وكذلك زيادة ثقافته العامة الا أنه في هذه المرحلة كان مرتبكاً بعض الشيء لأنه غير متثبت من نتاجه الشعري حينما بدأ بالبيت الشعري ومن ثم بالبيتين وهكذا شيئاً فشيئاً حتى أصبح ينظم لنفسه مع نفسه عدداً من القصائد مما زاد من ثقته بنفسه أكثر فأكثر وقلَ حرجهُ وهو يروي لأقرانه ولأصدقائه الذين كانوا أضعف منه شعراً بعضاً من شعرهِ مع انهم كانوا اكثر خبرة منه والاكبر سناً وكان يستعين بكل ما هو جديد بأخيه الأكبر عبد العزيز أو غيرهِ من الشعراء في النجف ، وقد دخل مرة في مسابقة لحفظ "450" بيتاً شعرياً لثمان ساعات فقط في مقابل قطعة نقدية ذهبية فنجح في الأختبار .

عن رسالة (محمد مهدي الجواهري ودورهُ
السياسي في العراق حتى عام 1997)