ليوناردو بادورا .. الشهرة التي جاءت متأخرة

ليوناردو بادورا .. الشهرة التي جاءت متأخرة

ينسى ليوناردو بادورا في هافانا أنه أشهر الكتاب الكوبيين في العالم... فهذا الأديب الستيني يعيش في الظل بسبب التعتيم المتعمد من وسائل الإعلام المحلية ما جعله شخصاً شبه مغمور شغله الشاغل التفكير بمستقبل كوبا.
في مطلع فترة بعد الظهر هذه، كان "ليو" بادورا قد دخن خمس سجائر وارتشف خمسة أكواب من القهوة ككل مرة ينكب فيها على الكتابة صباحاً.

ولدى مغادرته مكتبه، يبدو مرتاحاً إزاء فكرة إحياء التحري الشهير ماريو كوندي في روايته المقبلة "شفافية الوقت".
ويعيش هذا الرجل البالغ من العمر 63 عاماً منذ سنوات عدة مع زوجته لوسيا في منزل متواضع من طبقتين يحمل اسم والدته "فيلا أليسيا".

ويوضح الكاتب "من المهم بالنسبة لي القيام بأمور مختلفة إذ إنني لا أتقبل الكسل".
وقد ذاع صيت ليوناردو بادورا في العالم أجمع بفضل قصة "الرجل الذي أحب الكلاب" التي تروي نهاية المُثل الشيوعية من خلال اغتيال ليون تروتسكي.
وحققت الرواية نجاحاً عالمياً إذ ترجمت إلى عشرين لغة. ويمكن تاليا لليوناردو بادورو الحائز الجنسية الإسبانية أن يعيش حياة أفضل في اسبانيا أو الولايات المتحدة.
لكنه يؤكد أنه لا يمكنه الكتابة سوى في مسكنه في حي مانيا الزراعي في ضواحي هافانا، إذ يشدد على أنه كاتب كوبي يعيش في كوبا ويعكس واقعها.
وهو يشعر بالارتياح في مانتيا حيث يتنزه بسراويل قصيرة بعيداً عن شكليات العيش في وسط المدينة، في حين ترغمه التزاماته إزاء الناشرين على تمضية ثلث السنة في الخارج.
ويؤكد ليوناردو بادورا أنه أصبح كاتباً في سن متأخرة بعد بلوغه الأربعين بدافع من "روح المنافسة" إذ لم يكن يتحمل رؤية زملاء أو رفاق له في الجامعة يكتبون فيما هو عاجز عن ذلك.
ورغم نيله جوائز عدة خارج كوبا، يعاني بادورا تهميشاً من وسائل الإعلام الكوبية الخاضعة كلها لسيطرة الدولة، إذ أن رواياته التي تعكس جوانب مظلمة من الواقع الكوبي تثير انزعاجا لدى السلطات.
وهو يقر بأنه "شبه مرئي" على القنوات الرسمية الكوبية بسبب ندرة إطلالاته الإعلامية.
ولا تتخطى نسخ كتب بادورا الصادرة في كوبا عتبة عشرة آلاف كتاب في المجموع بحسب الكاتب، في وضع مشابه لما يعيشه الكتاب "المثيرون للجدل" في الجزيرة بفعل الرقابة المشددة على أعمالهم التي تدفعهم إلى نشر أعمالهم بشكل محدود.
وقد أعيدت صياغة النسخة الإسبانية من كتاب "الرجل الذي أحب الكلاب" حوالى خمسين مرة في الخارج، كما أن سلسلة مغامرات ماريو كوندي اقتبست في مسلسل يحمل عنوان "أربعة فصول في هافانا" من انتاج مجموعة "نتفليكس" الأميركية العملاقة في مجال البث التدفقي.
ويدرك ليوناردو بادورا أنه محظوظ لكونه لم يكن قد بدأ الكتابة في فترة السبعينيات التي كانت تشهد "كم أفواه وتهميشاً" للفنانين المثليين أو أولئك الذين كانوا ينتقدون الثورة التي قادها فيدل كاسترو.
ويؤكد الكاتب أنه واحد من "المشتبه بهم الاعتياديين". فخلال عمله كصحافي بين سنتي 1980 و1995، عمد النظام الكوبي إلى تصنيفه كشخص ذي "مشكلات عقائدية" مع السلطات خلال كتابته في مجلة ثقافية. عندها تم ارساله للكتابة في صحيفة تابعة للحزب الشيوعي بهدف "إعادة تثقيفه".
وعلى رغم هذه العقوبة، يؤكد إنه استمر في كتابة "ما يريده" وتحدى المحظورات كما الحال في مدونات مخصصة لكوبا في الصحف العالمية.
لكن على رغم النقص في التقدير في كوبا والقلق على المستقبل، يؤكد الكاتب إنه لن يترك يوماً جزيرته لسبب بسيط هو أن "الكاتب ليوناردو بادورا ليس له وجود من دون كوبا".
على عكس عددٍ من الأدباء الكوبيين، والذين اختاروا المنفى بعد نجاح الثورة، فضّل ليوناردو بادورا البقاء في كوبا للعيش والكتابة، على الرغم من الرّقابة الشديدة والضغوط التي مارسها النظام لعقود طويلة على حرية التعبير والإبداع. كان قراراً شجاعاً من كاتب لم يستسلم لحمّى الهروب والنضال من الخارج، مراهناً فقط على الإبداع الأدبي وسيلةً للتعبير والاحتجاج. يُبرّر بادورا هذا الاختيار: "إن الإحساس بالانتماء لا يربطني فقط ببلدي، بمدينتي (بسُور كورنيشها)، أو بالحيّ (أعيش في المكان حيثُ ولدتُ)، ولكن يذكّرني أيضاً بشيء أكثرَ تعقيداً: سأظلّ دائماً كاتباً كوبياً، حتى لو عشتُ في مكان آخر، سأكون واحداً من هؤلاء الكوبيين الذين لن يستطيعوا أبداً مغادرة كوبا".
وُلد هذا "الكاتب الكوبي المُقيم" سنة 1955 في حيّ مانتيّا، جنوب العاصمة هافانا، من أبٍ كان يعمل تاجراً ثمّ سائق حافلة بعد الثورة الكوبية. درسَ الأدب الإسباني والأميركي وأيضاً اللغة اللاتينية في كلّية اللغات بجامعة هافانا. بدأ صحافياً في ملحق جريدة "خوبينتود ريبيلدي"، حيث نشر مقالات أدبية ونقدية وريبورتاجات جريئة، تغوص عميقاً في بؤس الواقع الكوبي، سرعان ما منحته متابعة وتقديراً من طرف القرّاء، كما جرّب كتابة السيناريو، وأعدّ خلال هذه الفترة سيناريو فيلم حول موسيقى السالسا.
لا شكّ أن الرواية التي كرّست شهرة بادورا ومهّدت طريقه نحو العالمية هي روايته "الرجل الذي أحبَّ الكلاب" (2009). تحكي هذه الرواية قصّة حياة الزعيم الشيوعيّ ليون تروتسكي، مُؤسّس الجيش الأحمر الروسي ومفوّض الشعب للشؤون الخارجية، منذ 1929 حتى اغتياله بالمسكيك يوم 21 أغسطس/آب 1940، في تداخل مع حياة قاتله الشيوعي الإسباني رامون ميرثيدير، والذي جنّده الكي.جي.بي بأمرٍ من ستالين، وكذلك قصة حياة إيفان، البيطري الكوبي الذي يرغب في أن يصير كاتباً، والتي تجري في الزمن الحاضر. هي ثلاثة أزمنة، ثلاث حكايات متشابكة وثلاث شخصيات تسعى كل واحدة لتحقيق حلم ما. لكن ما يهيمن على الرواية هو مساران متكاملان: حياة تروتسكي في منفاه بعد طرده من روسيا، وقصة إعداد وتكوين العميل السرّي المكُلّف باغتياله. ومن وراء هذين المسارين، تغطّي الرواية القرن العشرين بالكامل تقريباً، وهي تعالج في العُمق فشلَ التّجربة الاشتراكية في كوبا.

عن وكالة الانباء الفرنسية