ليوناردو بادورا بين تروتسكي وتفاصيل حياة مثيرة

ليوناردو بادورا بين تروتسكي وتفاصيل حياة مثيرة

نجيب مبارك
مباشرة بعد وفاة الزّعيم الكوبي فيدل كاسترو ظهرت في الصحافة العالمية مقالات مُستفيضة تحكي عن صداقاته الكثيرة ببعض كبار أدباء أميركا اللاتينية، أو لقاءاته بأدباء عالميين من أوروبا وأميركا مثل سارتر وهيمنغواي. لكنها، في المقابل، غفلت عن ذكر وضعية الأدب الكوبي المعاصر في ظلّ حُكمه الذي استمرّ نصف قرن، أو لم تُسلّط الضّوء بقدرٍ كافٍ على أدباء كوبا المحليّين،

لا سيّما الّذين عايشوا هذا النظام من الدّاخل، أو تعايشوا معه عن قرب على الأصحّ، طوال هذه السنين.

من بين هؤلاء يلمعُ بقوّة إسم ليوناردو بادورا فوينتس، أو ليوناردو بادورا اختصاراً، الذي يُعدّ اليومَ أحدَ أشهر كتّاب الجزيرة الكوبية في العالم. تُرجمت أعماله الروائية إلى لغات عدّة وتحظى بتقدير وحضور كبيرين في الأدب المكتوب بالإسبانية، إذ نال عنها جوائز مرموقة في الداخل والخارج، أبرزها بالتأكيد جائزة "أميرة أستورياس" الرفيعة، والتي تسلّمها العام الماضي من العاهل الإسباني في مدينة أوفييدو.
على عكس عددٍ من الأدباء الكوبيين، والذين اختاروا المنفى بعد نجاح الثورة، فضّل ليوناردو بادورا البقاء في كوبا للعيش والكتابة، على الرغم من الرّقابة الشديدة والضغوط التي مارسها النظام لعقود طويلة على حرية التعبير والإبداع. كان قراراً شجاعاً من كاتب لم يستسلم لحمّى الهروب والنضال من الخارج، مراهناً فقط على الإبداع الأدبي وسيلةً للتعبير والاحتجاج. يُبرّر بادورا هذا الاختيار: "إن الإحساس بالانتماء لا يربطني فقط ببلدي، بمدينتي (بسُور كورنيشها)، أو بالحيّ (أعيش في المكان حيثُ ولدتُ)، ولكن يذكّرني أيضاً بشيء أكثرَ تعقيداً: سأظلّ دائماً كاتباً كوبياً، حتى لو عشتُ في مكان آخر، سأكون واحداً من هؤلاء الكوبيين الذين لن يستطيعوا أبداً مغادرة كوبا".
وُلد هذا "الكاتب الكوبي المُقيم" سنة 1955 في حيّ مانتيّا، جنوب العاصمة هافانا، من أبٍ كان يعمل تاجراً ثمّ سائق حافلة بعد الثورة الكوبية. درسَ الأدب الإسباني والأميركي وأيضاً اللغة اللاتينية في كلّية اللغات بجامعة هافانا. بدأ صحافياً في ملحق جريدة "خوبينتود ريبيلدي"، حيث نشر مقالات أدبية ونقدية وريبورتاجات جريئة، تغوص عميقاً في بؤس الواقع الكوبي، سرعان ما منحته متابعة وتقديراً من طرف القرّاء، كما جرّب كتابة السيناريو، وأعدّ خلال هذه الفترة سيناريو فيلم حول موسيقى السالسا.
لكن مسيرته الأدبية لم تبدأ فعليّاً إلّا في عام 1991، بتوقيع أولى رواياته البوليسية، والتي اتّخذت بالأساس من شخصية المحقّق "ماريو كوندي" الخياليّة بطلاً لها. وقد افتتح هذه السلسلة برواية "الماضي الكامل"، والتي نُشرت بالمكسيك قبل أن تصدر في كوبا ثلاثَ سنوات بعد ذلك، وهي جزء من رباعية روائية بعنوان "الفصول الأربعة". لم يكتف بادورا بالروايات البوليسية، بالرّغم من أنّها منحته شهرة واسعة داخل كوبا وفي أميركا اللاتينية، بل كتب روايات أخرى أكثر تعقيداً، تستلهم التاريخ عموماً، وتاريخ كوبا على الخصوص، أو تضع فتراتٍ منه إطاراً لأحداثها، لقيت هي أيضاً نجاحاً كبيراً لدى النقاد والقرّاء على السّواء. كما أصدر دراساتٍ وقصصاً قصيرة وواظب على كتابة السيناريو لحساب مخرجين أجانب، بل وساهم في تحويل بعض من أعماله إلى أفلام سينمائية وتلفزيونية.

الرّجل الذي أحبَّ الكلاب
لا شكّ أن الرواية التي كرّست شهرة بادورا ومهّدت طريقه نحو العالمية هي روايته "الرجل الذي أحبَّ الكلاب" (2009). تحكي هذه الرواية قصّة حياة الزعيم الشيوعيّ ليون تروتسكي، مُؤسّس الجيش الأحمر الروسي ومفوّض الشعب للشؤون الخارجية، منذ 1929 حتى اغتياله بالمسكيك يوم 21 أغسطس/آب 1940، في تداخل مع حياة قاتله الشيوعي الإسباني رامون ميرثيدير، والذي جنّده الكي.جي.بي بأمرٍ من ستالين، وكذلك قصة حياة إيفان، البيطري الكوبي الذي يرغب في أن يصير كاتباً، والتي تجري في الزمن الحاضر. هي ثلاثة أزمنة، ثلاث حكايات متشابكة وثلاث شخصيات تسعى كل واحدة لتحقيق حلم ما. لكن ما يهيمن على الرواية هو مساران متكاملان: حياة تروتسكي في منفاه بعد طرده من روسيا، وقصة إعداد وتكوين العميل السرّي المكُلّف باغتياله. ومن وراء هذين المسارين، تغطّي الرواية القرن العشرين بالكامل تقريباً، وهي تعالج في العُمق فشلَ التّجربة الاشتراكية في كوبا.
لقد كتبها بادورا تحت تأثيرِ مثَله الأعلى، الرّوائي الكوبي الأشهَر أليخو كاربنتر، صاحب رواية " قرن الأنوار". فعلى منواله، يستحضر بادورا الماضي القريب أو البعيد، من أجل تسليط الضّوء على الحاضر بشكل أفضل. والأسئلة العميقة التي تطرحها شخصياته الرّئيسة، بغضّ النظر عن المرحلة التاريخية، هي أسئلته الخاصّة ككاتب، وأسئلة باقي الكوبيين الذين انجرفوا، على مدى أكثر من نصف قرن، مع تاريخ هذا البلد القاسي، والذي ما فتئ يتجاوزهم ويسحقهم في كلّ مرّة. تشهد هذه الرواية على براعة بادورا في التّحقيق والتوثيق، قبل صياغتها فنّياً بأسلوب ثريّ وممتع. يقول: "في أكتوبر/تشرين الأول 1989 بالمكسيك، صُدمت بعد زيارة البيت المحصّن لتروتسكي في كايوكان. كانت هذه نقطة الانطلاقة الفكرية لروايتي الجديدة". إنها انطلاقة صحيحة بالفعل، لأنه كان من المستحيل قبل سقوط جدار برلين الخوض في أمورٍ مشابهة. لقد اختار بادورا هذه اللحظة بالذات للتحقيق في حادثة اغتيال زعيم شيوعي كبير مثل تروتسكي، وإعادة سرد حيثياتها ووقائعها في رواية بديعة، قال عنها الكاتب والناقد الروائي المكسيكي ألفارو إنريغي: "إذا كانت رواية "الحب في زمن الكوليرا" لغابرييل غارثيا ماركيز قد حوّلت الرواية الرومانسية إلى أدب، فإن الروائي الكوبي ليوناردو بادورا - المعروف بأعماله البوليسية المثيرة للتشويق - قد وجد لنفسه مدخلاً إلى قانون الحداثة الأميركية اللّاتينية من خلال كتابة رواية عن شخصيّة روسيّة".

ماريو كوندي، الأنا الآخر لبادورا
ماريو كوندي شرطيٌ سابق في هافانا، لا يمتُّ بصلة لصورة الشرطة الكوبية التي تخدم الثورة، يعيش وحيداً ويمتهن تجارة الكتب المستعملة، محقّق مستقلّ في الجرائم حسب الطلب، يدافع عن الضعفاء والمظلومين، يحبّ معاقرة الخمر كأيّ شخص حزين، ولديه حنين دائم لحلمٍ قديم: أن يصير كاتباً يوماً ما. لقد رأى كثيرون في ماريو كوندي الأنا الآخر لمبدعه ليوناردو بادورا، وهم على صواب. يقول بادورا عن بطل رواياته البوليسية: "منذ البداية، يسّرَ لي كوندي مهمّةَ الوسيط بين الواقع الذي أردتُ أن أعكسه وأثرِ هذا الواقع في الأدب. إنها طريقتي في رؤية الواقع الكوبي، في استيعابه وتفسيره لذاتي عبر كلّ هذه القصص. حتّى إنّني تعمّدتُ أن يشبهني كلَما تقدّمَ في السنّ".
على امتداد ثماني روايات بوليسية، كان البطل ماريو كوندي يدرسُ بعناية الواقع المعاصر للمجتمع الكوبي، يدرس قِيم الناس وقناعاتهم وأحلامهم وأوهامهم، لكي يُلقي الضوء على أخطاء المسلسل الثوري برمّته، ويكشف أكاذيب وتلاعب بعض المسؤولين والأعضاء المقرّبين من الدائرة الحاكمة. لقد نجح بهذه الطريقة، تدريجياً، في تقديم رؤية مختلفة عما كانت تُروّج له الدولة عبر وسائل الإعلام الرّسيمة، تُساندها في ذلك الرواية البوليسية الثورية السائدة. إنّ هذه الرؤية العميقة، وهي تنتقد بشدّة الواقع الكوبي، كانت تكشف علناً لحظاتٍ من تاريخ البلاد، تعمّدَ الخطاب الرسمي تزويرها أو حذفها نهائيّاً من مقرّرات الدراسة.

عن الحوار المتمدن