مثقف المدينة: بغداد السبعينات بين الشعر والمقاهي والحانات

مثقف المدينة: بغداد السبعينات بين الشعر والمقاهي والحانات

سعد محمد رحيم

المثقف والمدينة صنوان.. قد تستطيع المدينة الاستمرار من غير مثقفيها لكنها أبداً لن تكون كما هي في ذاتها.. بفقدان المثقفين تتخلى المدينة عن روحها، عن تناغمها الداخلي، عن طاقتها، عن صورتها الحضارية. ومن غير المدينة سيختنق المثقف.. المدينة للمثقف كما الماء للسمكة.. ومن غير أن تحضر المدينة في الوعي والذاكرة والمخيلة، وأن تصبح في مرمى الحواس، يصبح المثقف معلقاً في الفراغ والعدم، يتخبط في لحظة اغترابه القاسية.

يريد المثقف من مدينته أكثر مما بمقدور المدينة إعطاؤها له، وفي مسافة التوتر هذه يتجذر الشعور بالاغتراب. وهي المسافة ذاتها التي عندها يمكن لخطاب المثقف أن يتكون وينبثق. ولذا فإن أشد المثقفين عشقاً لمدنهم يكمنون شعوراً بالاغتراب في دخائلهم، حتى وهم قابعون في قلب أمكنتهم الأثيرة/ مدنهم.
كانت بغداد وحتى ثمانينات القرن الماضي، على الأقل، رحماً ثقافياً خصباً وحاضنة دافئة تسامح آنا، وتضيق ذرعاً آناً آخر، بمثقفيها الجادّين والبوهيميين، الحقيقيين والأدعياء، اليساريين واليمينيين، المتمردين والمؤدلجين.. يقول الشاعر هاشم شفيق في كتابه (بغداد السبعينات: الشعر والمقاهي والحانات/ دار المدى/ بيروت 2014):"كان الشعر في تلك الآونة الذهبية هو زادنا اليومي، بغداد كانت معنا على الدوام، كانت تقول اقرأوا جيداً، كي تعرفوني جيداً، ولهذا انطلقنا في ماراثون القراءة فيما بيننا، بملابسنا الغريبة وشعورنا الطويلة، بوهيميين، عدميين، محبوبين ومنبوذين، شتّامين ومشتومين، كنا نجسِّد الشعر الملعون والناس تتهامس من حولنا؛ إنهم الشعراء الملاعين، مرذولون، يبحثون عن الرذيلة والغرائبي".
كان ديدنهم كما يشير شفيق التهام العالم دفعة واحدة من طريق البحث عن الجديد والغريب والمثير، ولذا انكبوا على قراءة كل ما يقع تحت أيديهم. وما كانوا يكتبونه وهو يطأون أرض الأدب والشعر الخلابة للمرة الأولى"لم يكن سوى تدريب على الجمال، وتمرينات على الموسيقى ومحاولات للعثور على الفن... تنويعات من أجل الاقتراب من المحراب الذي يسكن فيه أبولو".
وبغداد النائمة مطلع السبعينات على العشب المندّى، والمغمورة بالحكايات والسحر والحكمة والفن، كانت طفلة بتوصيف شفيق.. أما أبناؤها الشعراء فكان يحلو لهم أن يوقظوا تلك"الطفلة من نومها الساحر الحالم بالمستحيل لكي تلعب معهم بين المياه والأنوار، (يقول) كنا نحن المشاكسين نجرّها إلى الطرقات والأزقة لتدّلنا على خفاياها وثمائنها الفريدة المخبأة بين دروبها القديمة".
يتحدث هاشم شفيق عن كرنفالات ثقافية ذات هالات براقة ساطعة في المسرح والسينما والفنون التشكيلية والموسيقى.. يستحضر نكهة تلك السنوات مطلع ومنتصف سبعينات القرن الماضي، مستعيداً صور علاقات التواصل المنتجة بين الشعراء وغيرهم من مبدعي حقول الأدب والفن الأخرى.. وجولة هاشم شفيق السبعينية هي خلاصة لمدوّنة جيل ثقافي عراقي بين المقاهي والحانات والمكتبات ودور السينما والمسرح قبل أن تطل الديكتاتورية برأسها الشرس، وقبل أن تُقرع طبول الحرب المرعبة، وقبل أن يتفرق الجمع المثقف بين المنافي والمقابر ووحشة مدن البلاد.
كانت كتابة المكان في سرديات الشعوب المستعمَرة شكلاً من أشكال المقاومة للخطاب الكولونيالي. وكان تمثيل المكان المحلي في الخطاب الأدبي والنقدي في عهد ما بعد الكولونيالية محاولة رد اعتبار للحقيقة المغيّبة والمشوّهة في الإنشاء الأدبي والفني لكتابات الرحالة والمستشرقين ورسوماتهم، والذي كان إفرازاً لتمركز الغربي حول ذاته ورؤيته الآخرَ من علٍ. غير أن ما جرى مع هيمنة العسكريتاريا الاستبدادية الوطنية على مفاصل الحكم في كثر من البلدان المستعمَرة (بعد الاستقلال) أوجد حالة جديدة من تخريب المكان وتشويهه، وهذه المرة واقعاً على الأرض قبل أن يجري مسخ ذاكرة المكان، بالمخلب الإيديولوجي، وتحريف سرديته التاريخية. وأزعم، أنه، في هذا السياق الإشكالي، تكمن لا بعض العوامل المسببة للصراع فقط، وإنما جزء مهم من مفاعيله وآثاره كذلك، بين النخبة المثقفة والسلطة.. يصبح المكانُ الموقعَ الذي يتبارى فيه المثقف مع السلطة لنقش دوال الهوية. وتوصل السلطة، إذا ما كانت متخلفة وجائرة، الأمر إلى نقطة الأزمة، حيث يُطرح السؤال؛ مَنْ مِنْ حقه تمثيل المدينة في خطابه؛ المثقف أم ماسك مفاصل السلطة فيها؟. وفي هذا الحقل كان الخطاب الثقافي يواجه الخطاب السياسي لا في قنوات الإعلام فقط وإنما في الشارع أيضاً.

هذه المادة سبق ان نشرت في المدى
للراحل سعد محمد رحيم