بعد وثبة كانون الثاني 1948 وانهيار حكومته.. كيف عاد صالح جبر الى واجهة الاحداث ؟

بعد وثبة كانون الثاني 1948 وانهيار حكومته.. كيف عاد صالح جبر الى واجهة الاحداث ؟

رحيم حسن الشامي
أجبرت الظروف السياسية التي مر بها العراق أبان أحداث وثبة كانون الثاني 1948 صالح جبر على تقديم استقالة وزارته في 27 كانون الثاني 1948 ، فتوجهت كتلته إلى الاشتراك في الانتخابات النيابية التي أجرتها وزارة السيد محمد الصدر في 15 حزيران 1948 ، تلك الانتخابات التي شهدت منافسة شديدة بين الأحزاب السياسية العلنية والسرية التي أعلنت اشتراكها فيها وبين رجال الكتلة التي أصبحت تسمى بـ"جماعة معاهدة بورتسموث"،

معتمدين على أموالهم الطائلة وما بقي لهم من النفوذ في خوض هذه الانتخابات ، وتركز نشاطهم الانتخابي على العشائر ، حيث عقدوا مؤتمراً لرؤساء العشائر في دار محسن أبو طبيخ يوم 21 آذار 1948 ، أوضحوا فيه الهدف من اشتراكهم في الانتخابات النيابية ، هو تحقيق الأماني الوطنية والتمسك بالنظام القائم ومقاومة كل دعاية وعمل يخالف القوانين المرعية والديانات المعترف بها وعدم التفريق بين الطوائف المختلفة للشعب .
وعلى الرغم من التعاون الذي جرى بين الأحزاب السياسية والكتل المشاركة في الانتخابات ، لافشال كتلة صالح جبر ، إلا أنها لم تحرز الكثير في الانتخابات ، بدليل فوز حزب الاستقلال بأربعة مقاعد فقط والحزب الوطني الديمقراطي بثلاث مقاعد وحزب الأحرار بمقعد واحد ، في حين حصلت كتلة صالح جبر على عشرين مقعداً ، ويتضح لنا مما سبقت الإشارة اليه ان فشل مشروع معاهدة 1948 الذي أثر في سمعة الفئة الحاكمة ، وقلل من الرصيد السياسي لصالح جبر نفسه ، لم يمنع أصحاب المناصب من المجاهرة بتأييده ، وممارستهم تأثيراً واضحاً في مجرى نتائج هذه الانتخابات النيابية بفعل ما لديهم من نفوذ .
ولما أخذت حدة السخط على صالح جبر تهدأ شيئاً فشيئاً بمرور الزمن ، بسبب ما خلفته الإدارة العرفية التي أعلنت في زمن وزارة محمد الصدر ، بعد أن استغلت تلك الإدارة العرفية لغير الأسباب التي أعلنت من أجلها ، أخذ صالح جبر يعزز كتلته ليسترد مكانته في بعض الأوساط التي لم تعد تخشى من المجاهرة بتأييده ليعود مرة أخرى مرشحاً احتياطياً من قبل البريطانيين ليحل محل نوري السعيد لرئاسة الوزراء في الوقت المناسب .
وعندما أجرى مزاحم الباجه جي تغييرات وزارية في وزارته الثانية (26 حزيران 1948-6 كانون الثاني 1949) بعد شهرين من تشكيلها ، استدعى فاضل الجمالي وهو من مؤيدي صالح جبر من القاهرة لتولي منصب وزير الخارجية ، وعين توفيق النائب وهو حاكم ومتصرف ، ومن أنصار صالح جبر وزيراً للداخلية ، وعين شاكر الوادي وهو من المقربين لصالح جبر أيضاً وزيراً للدفاع في تشرين الأول 1948 .
وبذلك تكون الظروف الجديدة التي مر بها العراق في أعقاب وثبة 1948 ،ساعدت صالح جبر على الظهور من جديد على مسرح الأحداث السياسية ، وأخذ أنصاره يجاهرون بتأييده مرة أخرى ، وأصدروا جريدتي النبأ والأمة عام الجريدتان اللتان أصبحتا لساناً غير رسمي لصالح جبر وكتلته .
دافعت الصحيفتان ومنذ صدورهما عن صالح جبر وكتلته فقد نشرت صحيفة النبأ في 23 آذار 1949 صوراً لصالح جبر بمناسبة نشر الوثائق المتعلقة بأحداث انتفاضة كانون الثاني 1948 التي أطلقت عليها "حركات الفئة المارقة" التي أرادت ان تحل الفوضى والفتن محل الاستقرار والطمأنينة ، في هذا البلد لقلب النظام القائم مبينة ان صالح جبر هو أول سياسي نظر بعيداً ، وأقدم بجرأته المعروفة على حل حزبي الشعب والاتحاد الوطني بعد ان لمس بأدلة قاطعة انحراف هذين الحزبين ، والمتمثل بالعمل لنشر المبدأ الشيوعي بين طبقات الشعب ، كما كان أول من نبه إلى ان أحداث كانون الثاني 1948 هي من تدبير الشيوعيين على حد تعبير الصحيفة . ومن جانبها أخذت صحيفة الأمة الدفاع عن "معاهدة بورتسموث" وصالح جبر ، مشيرة إلى ان كون المعاهدة بحاجة إلى الإيضاح والتفسير هو أمر مقبول من الجميع سواء من المعارضين ذوي النيات الحسنة أو من المؤيدين .
من جانب آخر حاول بعض الساسة استمالة صالح جبر وكتلته لاحتوائهما وضمهما إلى رصيدهم السياسي ، وفي مقدمة هؤلاء نوري السعيد الذي حاول ، عندما شكل وزارته العاشرة (6 كانون الثاني 1949-10 كانون الأول 1949) ، لم شمل بعض الأحزاب القومية مثل حزب الاستقلال وشخصيات أخرى للعمل معه إلا أنه فشل في ذلك ، فقرر التعاون مع صالح جبر لتأليف حزب باسم "الاتحاد الدستوري" وأرسل ضياء جعفر وزير الاقتصاد إلى صالح جبر ليخبره بالموضوع فوافق على ذلك ، وكان الاتفاق ان يقدم صالح جبر مع بعض الشخصيات القومية طلب إلى وزارة الداخلية لتأسيس الحزب.
ويبدو أن نوري السعيد اتفق مع موسى الشابندر ، ومحمد علي محمود ، أن يشتركا مع صالح جبر في تقديم طلب تأسيس الحزب ، ولما علم صالح جبر بذلك بدأ يماطل في التوقيع على الطلب ، لأنه كان لا يحبذ العمل مع هذين الشخصين لاشتراكهما في أحداث انتفاضة مايس 1941 ووزارة رشيد عالي الكيلاني الرابعة (12 نيسان 1941 – 29 مايس 1941)) ، فقرر نوري السعيد الانفراد في العمل الحزبي ، وتقدم مع أنصاره من دون صالح جبر بطلب إلى وزارة الداخلية التي وافقت على إجازة حزب الاتحاد الدستوري في 24 تشرين الثاني1949 .
لكن صالح جبر وأعضاء كتلته ، اشتركوا في وزارة توفيق السويدي الثالثة (5 شباط 1950-15 أيلول 1950) فشغل صالح جبر منصب وزير الداخلية والسيد عبد المهدي منصب وزير المواصلات والأشغال وعبد الكريم الازري منصب وزير المالية وسعد عمر منصب وزير المعارف ، إلا ان وزراء الكتلة سرعان ما دخلوا في خلاف مع رئيس الوزراء توفيق السويدي بسبب محاولة وزير الداخلية صالح جبر إصدار قانون للمطبوعات ، مما ولد امتعاض الوصي عبد الإله ، ولاسيما وان وجود صالح جبر وبعض أعضاء الكتلة جعل الوصي وبقية ساسة العراق يعتقدون بان الكتلة هي المسيرة للوزارة وبالفعل فقد كانت كلمة صالح جبر هي المسموعة والمؤثرة أثناء اجتماعات مجلس الوزراء ، مما أثر بشكل واضح في عمل الوزارة التي اضطرت بدورها إلى تقديم استقالتها في 15 أيلول 1950 مع ان الدور السياسي لصالح جبر وكتلته لم يقتصر على ذلك . فقد قرر لهما – أخيراً – أن يعبرا عن نفسيهما تنظيماً وفكراً ، فظهر حزب الامة الاشتراكي .

عن رسالة ( حـزب الأمـة الاشـتراكي1951-1954
دراسة تاريخية )