لنتذكر قاريء المقامات  عبد القادر النجار

لنتذكر قاريء المقامات عبد القادر النجار

حسين اسماعيل الاعظمي
إنَّ الفنانَ القدير عبد القادر النجار، عاش لقوت يومه، فقيراً بسيطاً، تعِباً طيلة حياته، فقد خلَّف من الأبناء ما يزيد على العشرة، بناتاً وبنيناً، وظلَّ يسعى في حياته من أجل إعالة عائلته الكبيرة..! وهو الرجل الذي كان ملتصقاً إلتصاقاً قوياً بالمقام العراقي محبَّاً شغوفاً به، دقيقاً حريصاً على الحفاظ عليه حتى أنه بدا غريباً علينا، شدة هذا الالتزام الوطني بتراث بلده …

ويبدو أن ذلك الاهتمام كان يعود الى نشأته الاولى، حيث ولد مطرب المقام العراقي عبد القادر عبد اللطيف محمود العلي العزي النجار عام 1939 في بغداد، وفي بواكير حياته بدأ تعلمه في (الكتاتيب) عند الملا عبد الله في محلة قهوة شُكُرْ، وبعد هذه المرحلة، دخل الى مدرسة العوينة الابتدائية، وبعد ست سنوات إستطاع أن يتجاوز إمتحان البكلوريا ويتخرج من الابتدائية..

بعد هذه المرحلة تفرَّغ عبد القادر النجار كما يبدو للعمل مع والده نجَّاراً في محلهِ الكائن في منطقة فضْوةْ عرب بشارع غازي.. وفي هذا المنعطف من حياة عبد القادر العملية، حيث وجه إهتمامه بهدوء ورصانه الى تراثه المقامي … وقد كان منذ بواكير حياته الفنية قد شرع بالكشف عن إمكانيته في تعلم ومعرفة المقامات العراقية، وكرس لأجل ذلك كل وعيه وإدراكه … لقد كان عبد القادر النجار حلقة حية في سلسلة الغناء البغدادي من خلال تجربته المقامية التي إستمرت حتى وفاته عام 2000.. هذه المقامات التي كان رُعاتها المؤدين الكبار في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ومن حيث أن محل والده أتاح له التعرُّف على الكثير من شخصيات الوسط المقامي وتعلم منهم أُصول غناء هذا التراث الوطني، فقد أكد تفاعله مع المجتمع المقامي من خلال صوته الجهيرالمتمكن وتعابيره البغدادية الاصيلة، وبذلك فقد أوجد وثبت له طريقاً وأُسلوباً أدائياً فنياً ميَّزه عن أقرانه المعاصرين … وقد كان هذا يشكل له حافزاً دائمياً لنتاج مقامات واغاني تراثية رصينة … وبمرور الزمن وزيادة التجربة وصقلها إستطاع الفنان عبد القادر النجار ان يرى بوضوح كيف يسير بفنه الى برِّ الأمان...
… وقد كان لأمر وعيه وإدراكه لقيمة المقامات التي يُسجِّلها في الاذاعة أو التلفزيون، أن يكون مجالاً واسعاً للبحث والتقصِّي عمَّا تريده مستلزمات نجاح مقاماته..

كان أولُ تسجيلٍ للمطرب عبد القادر النجار في الإذاعة عام 1968.. وقد كنت وأنا شاب يافع أستمع الى بعض مقاماته التي كانت تذاع من إذاعة بغداد، وتسعفني ذاكرتي لأتذكَّرَ أحدَ مقاماتِه التي كنت أستمع إليها وهو مقام الحويزاوي حيث يغنيه بإحدى قصائد الشاعر الصوفي الإمام عبد الرحيم البرعي..

هم الاحبة إن جاروا وإن عدلوا
فليس لي معدلا عنهم وإن عدلوا

تعرَّفتُ شخصياً على المطرب عبد القادر النجار عام 1973 عندما كنت أتردد على مقهى المتحف البغدادي وأُغنّي في الحفلات الأُسبوعية التي كانت تقام في يوم الجمعة من كل أُسبوع بإدارة مطرب المقام العراقي المرحوم حمزة السعداوي، فكثيراً ما كنت ألتقي واتعرَّف على مطربي المقام العراقي في هذا المكان التراثي، منهم عبد الرحمن العزاوي ونجم عبود ومحمد العاشق وأبو عبد البغدادي وإبراهيم الخشالي وعلي إرزوقي وعبد الرحيم الأعظمي، فضلا ًعن عبد القادر النجار وحمزة السعداوي.. إضافة الى مطربي جيلي الذين إستمر منهم من إستمر وترك منهم من ترك.. مثل صلاح السراج وخالد القيسي وعبد الله المشهداني وفاروق الأعظمي وغيرهم... وعليه كثيراً مّا كنت أستمع الى عبد القادر النجار في هذه الحفلات، والحقُّ، أن له شعبية ًكبيرة ً لدى جمهور المُتحف البغدادي..
قبل دخول عبد القادر النجار الى دار الاذاعة ليصبح مطرباً معتمداً فيها، كان قد مارس عملاً إحترافياً في الاداءات الدينية كالمنقبة النبوية الشريفة والاذكار والتهاليل والمدائح النبوية أو التمجيد من منائر الجوامع.. قارئاً مرافقاً للملا الذي يقود هذه التقاليد الدينية، وكان أبرزهم الحافظ خماس والملا عبد الفتاح معروف الكرخي والملا عبد الستار الطيار وآخرين غيرهم.. وفي فترة شبابه إلتحق بخدمة العلم (الخدمة العسكرية) الالزامية وقضى فيها سنة وتسعة اشهر في فوج الحرس الملكي الاول.. وبعد إكماله وتسريحة من الخدمة العسكرية، عين موظفاً في وزارة الصحة.. وفي هذه المرحلة بالذات تقدم عبد القادر النجار بطلب الى دار الاذاعة والتلفزيون معلناً إستعداده للاختبار من قبل اللجنة الخاصة بمطربي المقام العراقي التي كان يرأسُها الحاج هاشم الرجب وبعضُ المقامييّن مع وجود الموسيقيين الكبار جميل يشير ومنير بشير وأحمد الخليل ..
وفي أحد تسجيلاته إستمعت إليه وهو يغني مقام الأوشار بهذه القصيدة المُخَمَّسة..

كف الملام ولا تقفوا على أثري
قد عدت للكأس والانغام والوتر
اليوم يوم، نباهي طيلة العمر
جاء الحبيب الذي أهواه من سفر
والشمس قد أثرت في خده أثرا

ثم يتبعها بعتابات بأُسلوب غناء الركباني

يابلبل الغار غنيلي واغنيلك
واشكي غرامك بعشق الورد واشكيلك
انت غناءك عذب لحنك تراتيلك
رددت لحنك ولكن بنغم محزون
ثم يتبع هذه الركبانيات بأُغنية يا بنت عينك عليَّ..

تعابيرُه المقامية
إنَّني أرى أنَّ عبدَ القادر النّجار في هذه المقامات والركبانيات والاغاني وغيرها بعدئذ، يبدو وكأنَّه وصل فعلاً الى النقطة التي إمتزج فيها مع المجتمع وجمهوره المتلقي بأوسع معانيها وأقواها … إنَّهُ إبن هذا المجتمع وبالتالي فهو المعبر عنه بإخلاص وصدق … وأكثر من هذا فإن الإنعكاسات التعبيرية الادائية لدى عبد القادر النجار ونوع صدقه في هذه التعابير التي عكست الخصوصية البغدادية خاصة والعراقية عامة، لايسعُنا إلا أن نجدها صادقة ومؤثرة اذا ما أخذنا بعين الإعتبار موقفه الأخلاقي من إنتمائه لعراقيته وبغداديته وأخيراً محليته البيئية … واذا تنحينا جانباً عن هذه الحقائق التي تبين لنا المطرب عبد القادر النجار، أنَّه شاهد لواقعه وبيئته وخصوصيته العراقية على نحو لا يشار إليه دوماً … فإننا نجد نزعته التعبيرية هذه في أدائه للمقامات والاغنية التراثية، كانت قبل كل شيء موقفاً أخلاقياً مهذباً فقد كان يُصِرّ على أقصى درجة ممكنه من عكس الثقافة المقامية وشموخ الفن الغناسيقي العراقي … إنَّ فكرَ ورؤية َالفنان الناضجة تجعل من أعماله ونتاجاته الفنية، إنعكاساً لثقافته وعمقاً لهذه الصفات … إذْ لايُعْقَل أن نجدَ عملاً فنياً جيداً يكونُ ناتجاً عن فكر ٍسطحي ٍّومتواضع..!! إن هذه المقدمة الإستطرادية تكفي لهدف موضوعنا في الكتابه عن مطرب المقام العراقي كمطرب وفنان قدير … إنَّه مطرب مقام وأُغنية تراثية قبل كل شيء..

عن ( محاور في المقام العراقي ــ الطريقة القبانجية )