خزعل مهدي.. سطور من ذهب

خزعل مهدي.. سطور من ذهب

عوّاد ناصر
جوز منهم.. لا تعاتبهم بعد إنهم لا يستحقون، هم دوماً يضيقون بالفن والفنانين، ونحن معجبوك عاجزون أيضاً عن إنصافك ولا نملك سوى أن نقرأ عليك سورة الفاتحة ونتذكرك بكلمات لا أكثر.
أنت الذي انبثقت من أناملك آهات الخذلان مثلما خرجت ألحان الحب، أنت الفنان الذي عاش سنوات الجمر والخذلان، ولو كنت في غير بلدك مثل الآخرين، لكنت نجماً عربياً وارف الضوء في ليالينا الكئيبة المفعمة بآهات لا تنتهي.

وفي ورقة من كتاب الأغاني العراقية ثمة سطور من ذهب عصي على الصدأ كتبها خزعل مهدي أحلاماً وتوريات لا تسمح بها موسيقى الضجيج والهتافات، رغم فطرته واكتفائه بالموهبة الخفية غير القابلة للصراخ.
سئل الشاعر الغنائي المصري مأمون الشناوي عن رأي بالأغنية السياسية فأجاب ليست ثمة أغنية سياسية وأغنية عاطفية، هناك أغنية حسب، وما شاع مما تطلقون عليه أغنية سياسية هو محض هتافات ملحنة .
آخر مرة رأيت فيها الفنان الراحل خزعل مهدي على فضائية ما، قبل أكثر من عام، وكان في حال تستحق الرثاء، بدءاً من بدلته المهلهلة التي لا تخلو من أناقة، وليس انتهاء بمقعد تقطعت قماشته وبان خشبه الرديء في الزمن الرديء.
خزعل مهدي فنان متعدد المواهب مخرجاً وكاتب أغان وملحناً ورائداً إذاعياً وتلفزيونياً وسينمائياً أمتع مشاهديه ومستمعيه بأعمال لا تنسى رغم كسل الذاكرة العراقية وقلة حيلتها وندرة وفائها لفنان مثل هذا الفنان، فلا يوجد في بلدنا تقليد التوثيق ولا بيبلوغرافيا ولا موسوعة ولا… تحفظ للباحثين والنقاد تراث بلدهم الفني حتى القريب منه، وخزعل مهدي واحد من مكتشفي النجوم وصناع البهجة الذين لا تتوفر عنهم معلومات كافية تليق بإنجازهم الجميل.
جوز منهم كما غنتها فنانة العراق المرموقة عفيفة اسكندر هي تعبير عن حال فنان أكبر من العتب وأقل من الإنكار، لم تسعفه مواطنته في أن يستحق ما يستحق ولم يشفع له فنه في أن يحيا حياة تليق به إنساناً قبل أن تليق به فناناً وتلكم من عادات الدول القاسية التي لا تعبأ بفنانيها ولا تمنحهم فرصة الإبداع في درجتها المقبولة والسوية، فعاشوا عند نقطة الصفر الإبداعي وهم يجترحون المآثر الجميلة في حدود المتاح والممكن مكتفين بالقليل ليعطوا الكثير.
مثل عشرات غيره، منحونا البهجة، بل أسسوا لها وكانوا أساتذتها ومعلميها ونجومها، عاش خزعل مهدي ورحل ومعه كوكبة من نجوم منسية، أو على وشك الصمت، أمثال يحيى حمدي وداود العاني لحن له أغنية أحبه وأطيعه ومحمد عبدالمحسن وهناء وعدنان محمد صالح وغادة سالم وسيتا آكوبيان وغيرهم.
وفي زمننا إذ تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة صارت التكنولوجيا تغني بدلاً من المغني والشاعر نجاراً يلبي طلب الزبائن في صناعة أثاث حديثي النعمة والموسيقي سائق تاكسي يقل في موسيقاه الصم الذين لا يعيرون آذاناً لما يسمعون بل عيون لما يشاهدون من راقصات تغني بعجيزاتهن الصادحة.
رحيل خزعل مهدي مثلما هو لحظة على غاية الحزن والأسى على زمن فني جاد ممثلاً به ومن يشبهونه، واستعادة لنقاء الفنان وإخلاصه واحترام موهبته، فهو وقفة تأمل نقدي لغنائنا وموسيقانا في مشهدهما الرديء.
العراقيون يستحقون أغنية جديرة بأحلامهم وهم قوم ذو ذوق ويتحسسون الجميل ويستنكرون أنكر الأصوات، فرحمة بهم.. وما زالوا، رغم المفخخات والعبوات اللاصقة وضجيج السياسيين وفوضى الأصوات النشاز قادرين على تمميز الغث من السمين، فهل ثمة مراجعة نقدية جادة وشجاعة لتوقف الزعيق وتنظف آذاننا من هذا الضجيج السافر؟