هل كان موقفه صحيحا؟   حول شهادة مزاحم الباججي امام محكمة الشعب

هل كان موقفه صحيحا؟ حول شهادة مزاحم الباججي امام محكمة الشعب

فهد أمسلم زغير
جاء قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 تعبيراً عن بداية عهد سياسي جديد في العراق، فلقد سقط النظام الملكي، وقام على انقاضه النظام الجمهوري وفي هذه الفترة كان مزاحم الباجه جي خارج العراق، فسارع لارسال برقية تهنئة الى الزعيم عبدالكريم قاسم بانتصار الثورة وسقوط الملكية وكانت هذه المناسبة فرصة له لكي يثبت في برقيته " لتحيا القومية العربية والوحدة وليسقط الاستعمار"

رغم انه تألم على المصير الذي ألم بالعائلة المالكة العراقية من قتل وسحل في الشوارع وتمثيل في الجثث، فضلاً عما حل بغريمه نوري السعيد الذي قتل في اليوم التالي من قيام الثورة في أحد شوارع بغداد.

كان أثر الثورة العراقية عام 1958 عميقاً في نفس مزاحم الباجه جي لانه اعتقد انها حققت ما كان يصبوا اليه ويبشر به في السنوات الاخيرة من خمسينات القرن العشرين لأنها " أعادت العراق الى حظيرة القومية العربية، وجعلت منه عنصراً فعالاً في اشاعة روح التضامن والتفاهم بين البلاد العربية، وفي التمهيد لتحقيق اهداف العروبة المقدمة في الاتحاد والوحدة "، وان الانجازات التي حققتها من عمرها القصير " كانت عظيمة".
لم يكد مزاحم الباجه جي يعود الى العراق من جنيف في صيف 1958 حتى جاءه تبليغ من محقق معاونية تحريات الاجرام عبدالجبار القاضي في الثالث عشر من تشرين الأول 1958 للحضور امام المحكمة العسكرية العليا الخاصة التي عرفت بمحكمة ( الشعب) أو ( محكمة المهداوي) (للادلاء بشهادتـه بحـق أحمد مختار بابان وتوفيق السويدي، وكانت شهادته هذه من " اسوأ الاخطاء التي ارتكبها في حياته"، فقد كان عليه " ان يرفض الظهور امام المحكمة بصفته شاهد ادعاء. فالذين كان يهاجمهم وهم في اوج قوتهم وجبروتهم قد سقطوا واصبحوا ضعفاء لاحول لهم ولا قوة ، وهم يمثلون امام محكمة كان من المتوقع ان تصدر عليهم احكاماً بالاعدام أو السجن ، ولذا فان شهادته ضدهم ، وهم في هذا الحال ، قابلها الكثيرون من اصدقائه ومعارفه بالدهشة والنفور" على حد ما جاء نصاً في تقييم ابنه عدنان الباجه جي لوالده. ونضيف الى ما ذكره الابن بحق والده ما ذكره أحد المؤرخين العراقيين بحقه بعد ادلاءه بشهادته بحق آخر رئيس وزراء في العراق الملكي وهو أحمد مختار بابان ان مزاحم الباجه جي وقف " بهذا الرصيد من التاريخ السياسي ، والانتماء الارستقراطي النبيل ، والامكانات الفكرية والادارية الفذة التي يقرها له الجميع، بمن فيهم أحمد مختار بابان ..، وقف أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة ليقول عن أحمد مختار بابان مالم يقله عنه حتى اليسار المتطرف الذي كان يمتلك اكثر من مبرر ليدينه على رؤوس الاشهاد ، مما أجبر بابان على ان يدلي بمعلومات غير معروفة دفاعاً عن نفسه".
جاء ادلاء مزاحم الباجه جي بشهادته ضد أحمد مختار بابان اعتقاداً منه ان الاخير كان مسؤولاً عما لحقه من أذى في وزارة علي جودت الايوبي الثانية وبعدها ، لاسيما قضية اسقاط العينية منه ، أما شهادته ضد توفيق السويدي فجاءت بسبب كره مزاحم الباجه جي له وعلاقته السيئة به طوال العهد الملكي، ومهاجمة السويدي مزاحم الباجه جي ونعته بابشع النعوت في المذكرات التي ثبتها توفيق السويدي والتي عثر عليها في بيته عند تفتيشه، الا ان ذلك لا يبرر لمزاحم الباجه جي ما ادلى به من شهادة ضد هذين السياسيين اللذين تحملا بسبب ذلك تضحيات كبيرة، لرغبة النظام الجمهوري في معاقبتهما بعد ان حجز املاكهما في الحادي والعشرين من تموز عام 1958، فصدر بحق أحمد مختار بابان خمسة احكام على ان تنفذ بالتداخل نصت بمجملها على الاعدام شنقاً حتى الموت، وعلى حكمين بالاشغال الشاقة المؤبدة ، وبالحبس الشديد لمدة خمس سنوات، واخيراً بالحبس الشديد لمدة ثلاث سنوات، في حين حكم على توفيق السويدي بالاشغال الشاقة المؤبدة في التاسع عشر من تشرين الثاني 1958 ، فقضى من حكمه ثلاث سنوات في الموقف العام ليطلق سراحه في الرابع عشر من تموز 1961 استناداً الى المادة الرابعة من القانون رقم (65) لسنة 1959.
لم يكن مزاحم الباجه جي موفقاً في موقفه ضد أحمد مختار بابان وتوفيق السويدي ، فقد هاجم الأول بشدة وبالغ وغالى في التندر به ، الا ان احمد مختار بابان دافع عن نفسه خير دفاع في جو المحكمة القاسي والمشحون ضده، فخسر مزاحم الباجه جي جزءاً من تاريخه الذي بناه في العهد الملكي لان أحمد مختار بابان أوضح حقيقة موقفه عندما قال في دفاعه امام المحكمة " عندما كان مزاحم الباجه جي رئيس وزراء ، وانا كنت رئيس ديوان ، وقد كنا دائماً في اتصال ، هل شعر مني أني كنت بالوصف الذي وصفني ... لقد كنت اسمع منه عكس ذلك ... وكنت اسمع المديح والثناء ... ، لذلك لم يكن مزاحم الباجه جي بمستوى ما كان يدعو اليه ويبشر به من ضرورة عدم انتهاز الفرص وانتقاده أشباه الرجال، واراذل الناس الذين احتلوا " أدواراً وضيعة على مسرح مأساة البلاد "، وترك رغبته الطبيعية بالشماته والانتقام للادلاء بهذه الشهادة في المحكمة التي علق عليها أحمد مختار بابان قائلاً " أنا لا اقول شيئاً عن مزاحم الباجه جي ، سامحه الله ، لابأس في كل ما قاله ، لكنه اعترف بعداوته لي،وكان متشفياً ، ويجب ان يستفيد منها الشاهد باي وجه وان لا تدفع عنه مغرماً ، ولا تجلب له مغنماً ..." ، رغم ان احمد مختار بابان كان متهماً من قبل نوري السعيد بانه هو الذي " اتى بمزاحم الباجه جي" ونوري السعيد مازال في الحكم".
لم يتسن لمزاحم الباجه جي ان يبقى في العراق بعد ان نشبت الخلافات بين الزعيم عبدالكريم قاسم ورفاقه ، فغادر بغداد في نهاية شهر تشرين الثاني 1958 الى جنيف ، وهناك عرضت عليه احدى السفارات في اوربا ، فقبلها بعد تردد ، وعندما طلب اليه رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم القدوم الى بغداد لمباحثاته بخصوص اقتراحه دمج بعض السفارات في اوربا توخياً للاقتصاد وتجنباً للازدواجية ، اعتذر بحجة سوء صحته عن العودة الى بغداد، فبقي في جنيف حتى عام 1962، ليعود منها ويزور الزعيم عبدالكريم قاسم في مكتبه ، واصطحبه الزعيم في جولة ليلية في بغداد . وخلال السنة الاخيرة من حكم الزعيم عبدالكريم قاسم التقى به مزاحم الباجه جي أربع مرات ، وكانت آخر مقابلة له مع الزعيم في 18/كانون الثاني/1963، اذ سأله عبدالكريم قاسم فيها عن الطرق الدستورية في انتخاب رؤساء الجمهورية ، ويبدو ان الزعيم كان " يفكر في وضع دستور جديد يقوم على النظام الرئاسي".

عن رسالة ( مزاحم الباجه جي
ودوره في السياسة العراقية )