ناجح المعموري
يقود الحديث عن اليوتوبيا الى التذكير بالمرجع الموسوعي عن الايديولوجيا واليوتوبيا لبول ريكور وترجمة الاستاذ فلاح رحيم وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات القاها في جامعة شيكاغو عام 1984وطبعت لاحقاً عام 1988ونشرت بطبعتين عن دار الجديد .
استفاد بول ريكور من ماركس طاقة المخيال السياسي والاجتماعي وتمركز بوضوح حول المؤسسة الدستورية وتقديم السلطة . أما المخيال الاجتماعي فهو الوسيلة / اللغة القادرة على خلق الافكار .
وانطوت محاضرات بول ريكور على اشارات واضحة على ردود انثربولوجية وفلسفية حول الدعوات الخاصة بدعوات موت الايديولوجية التي استولدها ـ كما يبدو ـ موت الله النيتشوي وموت المؤلف لرولان بارت وموت البنيوية فوكو . ويبدو لي بأن هذه المواقف من الايديولوجية جزء من الحملة المضادة للاتحاد السوفيتي والتي لعبت دوراً بارزاً لاستكمال نشاط الاخر من اجل تحقيق انهيار النظام الاشتراكي .
لقد استشرف بول ريكور بعقل علمي رصين بالذي سيحصل في العالم آب /1991 وتعامل بذكاء مع اثني عشر مفكراً وفيلسوفاً ، قرأ لهم ما كتبوا عن الايديولوجيا واليوتوبيا بتفاصيل واسعة . وافرد خمس محاضرات موسعة عن ماركس ومن بعده كارل مانهايم / التوسيرم ماكس فيبر / كليفورد غيرتس / سان سيمون / فوريه .
ما يميز جهد المفكر بول ريكور هو المجال الانثربولوجي الفلسفي أما كامل شياع ، فقد تأطرت رسالته بالانثربولوجية ــــ الثقافية ، وكان أكثر تركيزاً واختزالاً مثلما أضاع العديد من المركز ، لكنه التقط بذكاء وحدات مهمة من المخيال الاجتماعي والسياسي ، مثل اليوتوبيا والعنف / الدكتاتورية / العنف والاندفاع نحو السياسة القهرية والاجتماعية .
يجب على مقال مختصر ذهب نحو عرض تجربة أغفلتها الثقافة العراقية ضرورة التأشير على الجهد الفلسفي المهم لأحد مفكري القرن العشرين . وبإمكاننا اعتباره الأكثر إثارة للاهتمام في توجهه العميق لقراءة الايولوجية واليوتوبيا . لأنه استطاع بعقله العلمي ووعيه العميق استبق تحقق الانيار بكشوف موضوعية لما قاد لاحقاً في آب 1991 .
اليوتوبيا خيال محفز
اليوتوبيا تصورات خيالية ذات طاقة محفزة لتنشيط الافراد والجماعة لمواجهتها وهي تتسع باستمرار . ومثل هذا الخيال له صلة وثيقة بكل ثقافة موجودة وتتمتع بحضور في التداول والتواصل . لكن التمركز هو الحضور الأكثر وضوحاً في العالم الآخر ، لأنه يمثل خطاباً مستقبلياً من أهم النصوص اليوتوبية المعروفة وهي « اليوتوبية « لتوماس مور . وجمهورية أفلاطون ، واخوان الصفا .
واليوتوبيا لا تذهب بشكل جدي الى تفسير العالم ، بل تقترح تحويله وتغييره ، وهذا مفتاح الغنوص المسيحي . والتحول باتجاه العودة للماضي / الفردوس المتعايش فيه كل الناس ، بالإضافة الى توعية الجماعات حول الضرورة القصوى للحلم بعالم بلا خطايا وذنوب ، بحيث يصير العالم تحققاً موجوداً على صورة الحلم المسيحي المعروف : الأب / الإبن / الروح القدس ومن خلال هذه الإشارات الصريحة تتضح لنا اليوتوبيا بتجاورها مع اللاهوت المسيحي والغنوصية ، لكنها مختلفة مع يوتوبيات الفلسفة المتعددة في العالم . وهذا تحصيل حاصل – كما قال كامل شياع – من خلال معرفة بعض المفاتيح في الديانة المسيحية والفكر الغنوصي . وهي الفردوس المفقود أو جنة عدن . وصارت هذه القيم الدينية بالديمومة أحلاماً في الديانتين اليهودية والمسيحية . وهيمنت إسطورة الفردوس فاعلة ومؤثرة . حتى نجح هذا الحلم بالتمدد وبسيرورة الحراك نحو الدين الفرعوني ومن بعده الاسلام . ونجح الفرد المصري بتأكيد تصور حيازة اليوتوبية في الحياة المجتمعية وتعامل مع الروح بوصفها شكلاً يوتوبياً « ليس ثمة يوتوبيا يمكن أن تخفي حنينها للماضي السعيد « وتميزت الديانة الفرعونية بانتقال السعادة الحاضرة في حياة الفرد اليومية الى العالم الآخر.
من الملاحظات التي يثيرها عرض اطروحة المفكر كامل شياع هو حياديته حول مقولات العلاقة بين اليوتوبيا واللاهوت المسيحي والفكري الغنوصي ورضاه بالإحالة غير الموضوعية لأن الفردوس المفقود وجنة عدن لم تكن من مكونات اليوتوبيا في الديانة المسيحية ، لأن أصلها الميثي معروف بشكل واضح ، ولأن صمت المفكر كامل شياع ملحوظ جداً ، فسأضطر للإشارة اليه بتركيز .
معروف لمن اهتم بالفكر العراقي القديم ، وتابع طقس الزواج الإلهي المقدس ، هيمنة هذا الطقس كثيراً وصار خاضعاً للعود الأبدي – الذي تجاهله كامل شياع – ولم يشر له أبداً وله أيضاً – علاقة روحية واحتفائية مع اللاهوت المسيحي . وتركت بدئيات الديانة السومرية عملاً تشكيلياً عن وجود إلهين وبينهما نخلة وأفعى متجاورة مع الآلهة .
أشار العلامة أحمد سوسة الى أن هذا الرقيم الفني هو معني بأسطورة الفردوس التي حاز عليها الكتبة العبران فترة وجودهم في العراق ، وأعيد انتاجها . ويبدو لي بأن قصدية صمت المفكر كامل شياع وحياديته نتيجة ضغط مباشر أو غير مباشر للأستاذ المشرف وضغط ثقافته المعنية بالتمركز الغربي ، وهذا موقف معروف وقديم ، ابتدأ لحظة الكشف عن اللوح التشكيلي والتلاعب بما انطوى عليه من سردية ، كما نعرف بأن الآخر ما زال حتى الان يشطب على الملمح العراقي للحضارة السومرية .
لا يستطيع الاستشراق الذي تحدث كثيراً عن جنة عدن فهي ليست من مكونات الديانة المسيحية ، بل السومرية وارتحلت اليها بذات الطريقة التي أخذت بها الفردوس المفقود لأن جنة عدن كانت البحرين – دلمون – وتم الكشف عن وجود تأثيرات سومرية مهمة للغاية .
ذهب كامل شياع الى أن اليوتوبيا نتاج للوعي وتتحرك غبر خط جدلي ، يبدأ من المستوى المجرد باتجاه آخر ملموس ، ويصبح الأخير وثيق الصلة وأعمق في علاقة الإنسان بما يحيط به . ويؤدي دوراً مشاركاً في الحياة وما تقتضيه من امكانات لتطوير العلاقة مع الحلم .
إن تاريخ اليوتوبيا ، قد ابتدأ بوصفه تاريخاً أدبياً وهذا التاريخ شكل من أشكال اليوتوبيا المتمتعة بفكر نقدي فعال . واتضح للقراءة ارتباطاً بالملاحظة الأخيرة السبب الذي جعل كامل شياع يختار عنوان رسالته « اليوتوبية معيراً نقدياً « لكنه – شياع – حذر من مخاطر وجود عالم بدون يوتوبيا ، لأنه سيكون فقيراً ، لأن مثل هذا العالم يتعطل فيه الفكر والعقل الانسانيين ، ولن تكون له أهمية تذكر . لأن اليوتوبية ديانة كما أرى أنا لأن الماضي معيش باستمرار ولن يقوى الكائن على التخلي عنه .
اهتم المفكر كامل شياع بشكل واضح بالنظرية الفلسفية الخاصة بكارل بوبر ، التي لم تستطع توفير قناعة بالافتراضات الخاصة بالصراع بين الهندسة الاجتماعية التدريجية وبين الهندسة الاجتماعية اليوتوبية ، مثل الهندسة المعمارية وتقنيات الفضاء الحديثة . حيث يفترض بالثانية أن تكون بديلاً للأولى .
أخيراً لابد من التذكير بالدور الذي لعبته اليوتوبية منذ القرن السادس عشر وحتى التاسع عشر في تكريس العلمانية والايمان بها ومن هنا – كما اظن – ذهبت تصورات المفكر د. فالح عبد الجبار الى ان العلمانية ليست فكراً يروم الفصل بين الدين والسياسة ، بل هي مجال معرفي .
أدت اليوتوبيا واللاهوت المسيحي / البروتستانتي الى تراجع دور الذات والاندغام بالمقدس العميق وليس الطقوسي ، وتخلخل الأنا ، مما ادى الى تراجع دور المثقف النخبوي مما أدى الى ثورة مايو 1968 في فرنسا ، لأنها عكست دور ومكانة المثقف كما قال د. محمد سبيلا.