في ذكرى ولادتها في 23 اب 1923 نازك الملائكة : هكذا نظمت قصيدة (الكوليرا)

في ذكرى ولادتها في 23 اب 1923 نازك الملائكة : هكذا نظمت قصيدة (الكوليرا)

في عام 1942 بلغ نشاطي الشعري واللغوي، والفني، والادبي اوجه، فاندفعت اطلب الثقافة، والعلم في نهم لا يرتوي، وحرارة لا تنطفئ، ففي السنة نفسها سجلت نفسي طالبة في فرع العود بمعهد الفنون الجميلة، ودخلت طالبة في فرع التمثيل، وانتميت الى صف لدراسة اللغة اللاتينية، وكنت اذ ذاك – فوق هذا كله – طالبة في السنة الثانية من دار المعلمين العالية، وقد وهبت نفسي، في حرارة لا مثيل لها، الى هذه الدراسات كلها، وكنت احبها اشد الحب.

خلال دراستي في دار المعلمين العالية، كنت اساهم في حفلات الكلية بالقاء قصائدي، وكانت الصحف العراقية تنشر تلك القصائد في حينها، غير اني اهملت ذلك الانتاج المبكر، ولم ادرج منه شيئاً في مجموعاتي الشعرية المطبوعة، لاني بقيت انظر اليه على انه شعر الصبا قبل مرحلة النضج، والواقع انني اقبلت على نظم الشعر اقبالاً شديداً منذ عام 1941 يوم كنت طالبة في الكلية. فقد دخلت في ذلك العام بداية نضجي الروحي والعاطفي والاجتماعي فضلاً عن انه العام الذي شهد ثورتنا القومية العظيمة التي هزت كياني هزاً عنيفاً وهي ثورة رشيد عالي الكيلاني، وكنت اتفجر حماسة لتلك الثورة ونظمت حولها القصائد المتحمسة التي لم انشر منها أي شيء: فسرعان ما انتصر الحكم البوليسي في العراق، ونصبت المشانق للاحرار، ولم يعد في العراق من يستطيع التنفس. ولكننا ، انا وامي، استمررنا ننظم القصائد الثائرة سراً، ونطويها في دفاترنا الحزينة.
وفي عام 1947 صدرت لي اول مجموعة شعرية، وقد سميتها "عاشقة الليل" لان الليل كان يرمز عندي الى الشعر، والخيال، والاحلام المبهمة، وجمال النجوم، وروعة القمر، والتماع دجلة تحت الاضواء، وكنت في الليل اعزف على عودي في الحديقة الخلفية للبيت بين الشجر الكثيف، حيث كنت اغني ساعات كل مساء، وقد كان الغناء سعادتي الكبرى منذ طفولتي..
بعد صدور (عاشقة الليل) باشهر قليلة عام 947 م انتشر وباء الكوليرا في مصر الشقيقة، وبدأنا نسمع الاذاعة تذكر اعداد الموتى يومياً، وحين بلغ العدد ثلاثمائة في اليوم انفعلت انفعالاً شعرياً، وجلست انظم قصيدة استعملت لها شكل الشطرين المعتاد، مغيرة القافية بعد كل اربعة ابيات او نحو ذلك، وبعد ان انتهيت من القصيدة، قرأتها فأحسست انها لم تعبر عما في نفسي، وان عواطفي ما زالت متأججة. واهملت القصيدة وقررت ان اعتبرها من شعري الخائب (الفاشل) وبعد ايام قليلة ارتفع عدد الموتى بالكوليرا الى ستمائة في اليوم، فجلست ، ونظمت قصيدة شطرين ثانية اعبر فيها عن احساسي، واخترت لها وزناً غير القصيدة الاولى، وغيرت اسلوب تقفيتها ظانة انها ستروي ظمأ التعبير عن حزني، ولكني حين انتهيت منها شعرت انها لم ترسم صورة احساسي المتأجج، وقررت ان القصيدة قد خابت كالاولى، واحسست انني احتاج الى اسلوب آخر اعبر به عن احساسي، وجلست حزينة حائرة لا ادري كيف استطيع التعبير عن مأساة الكوليرا التي تلتهم المئات من الناس كل يوم.
وفي يوم الجمعة 27 – 10 – 1947 افقت من النوم، وتكاسلت في الفراش استمع الى المذيع وهو يذكر ان عدد الموتى بلغ الفاً، فاستولى علي حزن بالغ، وانفعال شديد، فقفزت من الفراش، وحملت دفتراً، وغادرت منزلنا الذي يموج بالحركة، والضجيج يوم الجمعة، وكان الى جوارنا بيت شاهق يبنى، وقد وصل البناؤون الى سطح طابقه الثانية، وكان خالياً لانه يوم عطلة العمل، فجلست على سياج واطيء، وبدأت انظم قصيدتي المعروفة الآن " الكوليرا" وكنت قد سمعت في الاذاعة ان جثث الموتى كانت تحمل في الريف المصري مكدسة في عربات تجرها الخيل، فرحت اكتب وانا اتحسس صوت اقدام الخيل:

سكن الليل
اصغ، الى وقع صدى الانات
في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الاموات
ولاحظت في سعادة بالغة انني اعبر عن احساسي اروع تعبير بهذه الاشطر غير المتساوية الطول، بعد ان ثبت لي عجز الشطرين عن التعبير عن مأساة الكوليرا، ووجدتني اروي ظمأ النطق في كياني، وانا اهتف:
الموت، الموت، الموت
تشكوا البشرية تشكو ما يرتكب الموت

وفي نحو ساعة واحدة انتهيت من القصيدة بشكلها الاخير، ونزلت ركضاً الى البيت، وصحت باختي "احسان" "انظري لقد نظمت قصيدة عجيبة الشكل اظنها ستثير ضجة فظيعة، وما كادت احسان تقرأ القصيدة – وهي اول من قرأها – حتى تحمست لها تحمساً فظيعاً، وركضت بها الى امي فتلقتها ببرودة، وقالت لي: ما هذا الوزن الغريب؟ ان الاشطر غير متساوية، وموسيقاها ضعيفة يا بنتي، ثم قرأها ابي، وقامت الثورة الجامحة في البيت فقد استنكر ابي القصيدة، وسخر منها واستهزأ بها على مختلف الاشكال، وتنبأ لها بالفشل الكامل، ثم صاح بي ساخراً، "وما هذا الموت الموت الموت؟"
لكل جديد لذة غير انني
وجدت جديد الموت غير لذيذِ
وراح اخوتي يضحكون وصحت انا بأبي:قل ما تشاء، اني واثقة ان قصيدتي هذه ستغير خريطة الشعر العربي..
ومنذ ذلك التاريخ انطلقت في نظم الشعر الحر، وان كنت لم اتطرف الى درجة نبذ شعر الشطرين نبذاً تاماً، كما فعل كثير من الزملاء المندفعين الذين احبوا الشعر الحر، واستعملوه بعد جيلنا.
وفي عام1949، صدرت ببغداد مجموعتي الشعرية الثانية (شظايا ورماد) وقد صدرتها بمقدمة ادبية ضافية عرضت فيها عرضاً موجزاً لنظرية عروضية لشعري الجديد الذي نشرت منه في المجموعة عشر قصائد، وما كاد الكتاب يظهر حتى اشعل ناراً في الصحف، والاندية الادبية، وقامت حوله ضجة عنيفة، وكتبت حوله مقالات كثيرة متلاحقة، كان غير قليل منها يرفض الشكل الجديد الذي دعوت اليه، ويأباه للشعر، غير ان الدعوة لقيت اروع القبول في الاوساط الشعرية الشابة، فما كاد يمضي عام حتى كان صدى الدعوة قد تخطى العراق الى خارجه، وبدأت أقرأ في المجلات الادبية في مصر، ولبنان، وسوريا، وسواها قصائد من الشعر الحر، كان غير قليل منها يحمل لافتات اهداء نثري: "الى الشاعرة نازك الملائكة. "
وبعد، فهذه خطوات مركزة مختصرة من سيرة حياتي كتبتها تلبية لطلبات كثيرة ترد علي من الباحثين، وطلبة الجامعات الذين يكتبون رسائل ماجستير ودكتوراه. اما سيرة حياتي المفصلة، ففيها كثير من الغرائب الممتعة، وارجوا ان يتاح لي ان افرغ لكتابتها يوماً قبل الموت.

عن (نازك الملائكة، حياتي، على الالة الطابعة)