كربلاء كما وصفها الرحالة الهولندي كارستن نيبور

كربلاء كما وصفها الرحالة الهولندي كارستن نيبور

ترجمة: د.عدنان جواد الطعمة
الرحالة الهولندي كارستن نيبور اشهر الرحالة الذين جابوا العراق في القرن الثامن عشر. واليك بعض من مشاهداته في كربلاء. بقيت في الحلة في اليوم السادس والعشرين من كانون الأول1765م ، وفي اليوم التالي توجهت لمواصلة رحلتي إلى مشهد الحسين (الحضرة الحسينية)،

و هي التي بنيت في هذا المكان والمشهورة عند (المحمدية على حد تعبيره) المسلمين بإسم كربلاء.تقع و تبعد مدينة كربلاء حوالي باتجاه الشمال الغربي سبع ساعات أو خمسة أميال ألمانية عن مدينة الحلة.و على جنبي الطريق كله لا يرى المرء شيئا سوى الطهمازية، و هي قرية كبيرة تكثر فيها بساتين وحدائق النخيل التي زرعت فسائلها من قبل شاه عباس .

كانت مدينة كربلاء في ذلك الوقت الذي استشهد الحسين مع كثير من أقربائه و اصحابه غير مأهولة بالسكان، لكن هذه المذبحة (المعركة) أتاحت الفرصة لإسكان هذه البقعة.وقد تم مد وتوصيل المياه (بواسطة نهر الحسيينية - المترجم) من نهر الفرات إلى هناك، أما الآن فإن المرء يرى غابة نخيل كبيرة.
و مدينة كربلاء التي تقع فيها غابة النخيل هي أكبر و عدد سكانها أكثر من عدد سكان مدينة مشهد علي (النجف)، إلا أن بيوتها لم تكن مبنية بناءا متينا لكي تبقى دائمة، بل أنها بنيت مثل بيوت البصرة و الحلة و أغلبها من الطين و اللبن الغير محروق (مشوي).لدى سور المدينة خمسة أبواب، وسور المدينة بالمناسبة أيضا مبني من أحجار الطين و اللبن الغير محروقة والتي جففت فقط تحت حرارة الشمس.و سور المدينة الآن مهشم و متهدم كليا.
بهذا الزي التركي دخل كارستن نيبور إلى الحضرة الحسينية في كربلاء والغريب هنا أن يلاحظ المرء مشهدا كبيرا (حضرة كبيرة) فيه مصلى صغير يطلق عليه الشيعة بإسم مذبح الحسين.لقد بني المذبح فوق المكان أو الموضع الذي دعس الحسين بحوافر الخيول و دفن فيه، في حين يشك السنة بإمكان أحد أن يحدد موضع مذبح الحسين و دفنه بالضبط، وكأنهم ينكرون بوقوع لمذبحة (المعركة) في هذه البقعة.
رأيت من الخطر أن أرسم هذا الجامع (الحضرة الحسينية) لأنه أكثر خطورة من مشهد علي.ولم أسمح لنفسي الظهور أمام المدخل في النهار، و لكني ذهبت في المساء بصحبة مرافقي في السفر و ارتديت عمامة تركية و دخلت داخل الحضرة بمناسبة إحدى الزيارات والأعياد الكبيرة، حيث كانت كل من و الصحن و الأماكن مضاءة.
و الواجهة الأمامية لجدار الحضرة مملوءة بالنوافذ (الشبابيك) الزجاجية، منظر فريد لا يشاهد المرء مثله في مكان آخر في هذه البلاد إلا شبابيك خالية من الزجاج.
و لعل زجاج نوافذ الواجهة الأمامية او الجدار الأمامي كان هدية من تاجر إيراني الذي قام بنفسه بشحن و إرسال الزجاج من معمل في مدينة شيراز.
و خلف البناية الأمامية شيدت (تقوم) قبة عالية و تحتها دفن الحسين.و تحيط بالقبة أربع منائر (مآذن) صغيرة و خلفها شيدت (تقوم) أربع قباب عريضة نسبيا إلا أنها لم تكن عالية (مثل قبة الحسين)، ولهذا السبب لم يكن بإمكاني رسمها من هذا الجانب .و جميعها مشيدة و قائمة في ساحة كبيرة (يقصد بها صحن الحسين - المترجم) تحيط بها من أطرافها الأربعة مساكن السادة و العلماء و خدمة الروضة.
و أمام الباب الرئيسي للجامع (للحضرة الحسينية - المترجم) كان يوجد شمعدان كبير ضخم يحمل مصابيح و أضوية كثيرة لم يكن موجودا مثله في مشهد الإمام علي.و لم يلاحظ المرء يوم ذاك وجود الذهب في الروضة الحسينية.و على الرغم من وجود تحفيات نفيسة عند ضريح الإمام الحسين، إلا أنه لا يمكن مقارنتها بتلك النفائس التي كانت موجودة عند ضريح الإمام علي.
وقد شيّد للعباس (الأخ غير الشقيق للحسين) جامع كبير داخل المدينة تقديرا لمواقفه البطولية و تضحيته التي تحدث لي الناس عنها، وأود ذكر ما يلي عنها فقط:
عانى الحسين كثيرا من العطش الشديد، حيث أرسل أخاه العباس إلى الخيمه كاه (المخيّم) لجلب الماء، إلا أن العباس لم يجد في المخيم الماء.ثم ركب فرسه حاملا معه قرابه و اتجه نحو الشمال لمدة ساعة.و هناك ملأها بالماء.و في أثناء طريق عودته تعرض له الأعداء الذين حاولوا أخذ الماء منه و قطعوا إحدى يديه و مسك القربة باليد الأخرى، إلا أنهم بتروها أيضا.وأخيرا مسك العباس القربة بين اسنانه و في تلك اللحظة رمى أحدهم القربة بالسهم وثقبها و سال الماء , و هكذا عاد العباس إلى أخيه الحسين بدون ماء و لم يستطع إطفاء ظمأ الحسين ,
من المزارات أو الأمكنة العجيبة التي يؤمها الزوار هو المكان الذي سقط فيه فرس (جواد) الحسین براكبه و يجد المرء مثله خارج المدينة في طريقه إلى مشهد الإمام علي، و فوق هذا المكان شيّد مزارا صغيرا.
أمر الحسين بنصب خيمته لآخر مرة في الخيمه كاه (المخيّم).يبدو المخيم الآن حديقة كبيرة على الجانب الآخر من المدينة.و في المكان الذي لم يجد العباس فيحینه ماءا، يرى المرء بركة (أو بئرا) كبيرة.و يعتقد الشيعة أن تدفق ماء البئر نشأ من خلال معجزة، حيث تعتبر هذه البئر (البركة) مقدسة لديهم، بحيث يأتي الزوار الإيرانيون إلى هنا حبا للحسين و يتباركون بشرب الماء منها حتى الثمالة، و يعتقدوم بأنهم أيضا سيصبحون شهداءا.
و في هذه الحديقة يوجد أيضا مبنى مهجور يشير إلى أن خيمة الحسين نصبت هنا.و بالقرب من هذا المبنى يشاهد المرء مبنى صغيرا واطئا دفن فيه شهداء آخرون.
إن صاحبة المنزل الذي أسكن فيه سيدة عجوز أرملة ، فرحت كثيرا عندما سمعت بأني زرت قبر العريس القاسم.و هذا الشهيد كان بالنسبة لها من الشهداء المفضلين عندها.و في أثناء حديثها لي عن هذا الشاب الشجاع كانت الدموع تسيل في عينيها، حيث قالت أنه كان قد التزم بالعرس لأنه كتب و أمضى عقد الزواج بحضور شهود، و لكنه في يوم و ليلة عرسه أستشهد مع الحسين و الشهداء الآخرين.وكانت السيدة العجوز الطيبة تعلم و تعرف عن كل كلمة تحدث بها الحبيبان (المخطوبان) مع بعضهما قبل بداية الواقعة (المذبحة).
كنت هنا في شهر رجب عندما كان البدر كاملا ساطعا، وكان مئات الحجاج يفدون في ذلك الوقت من أجل أن يقضوا ليلتهم عند قبر الإمام الحسين.و لما لم يكن لديهم تقويما مطبوعا، وكانوا غير متأكدين من تاريخ أيام زيارتهم فإن أغلبيتهم يبقون ليلتين في الحضرة و الصحن، لكي يتأكدوا من عدم فوات مواعيد زيارتهم.رايت هنا و بكل تقدير و إعجاب كيف أن المؤمنين يؤدون صلاتهم و زيارتهم و كيف أنهم يقبلون باب المدخل الرئيسي للحضرة الحسينية بحماس.و في داخل الحضرة و بسبب حزنهم العميق على استشهاد الحسين يقبلون أرضية الحضرة الحسينية بشوق و حماس ايضا و قسم منهم يضربون رؤوسهم ضد الجدران و ضد شبابيك الضريح المعدنية بقوة.و حتى بعض الزوار و من شدة الحزن و الإنفعال و الصراخ يمر بمرحلة لاشعورية عند قبر الإمام الحسين الكبير يقتل نفسه لإعتقاده بأنه سيصبح شهيدا و يدخل الجنة مع الحسين و أهله و اقربائه و اصحابه الشهداء لأنه ضحى بحياته للحسين.