توماس مان يقرأ «دونكيشوت »

توماس مان يقرأ «دونكيشوت »

إبراهيم الخطيب
في شهر أبريل من سنة 1934، دعا الناشر الأميركي ألفريد كنوب Alfred Knopf، توماس مان (1875ـ 1955) وزوجته كاتيا لعبور المحيط الأطلسي، والمكوث عشرة أيام في نيويورك، بمناسبة صدور الترجمة الإنجليزية للجزء الأول من رباعية الكاتب الألماني «يوسف وإخوته» التي استوحاها من نص التوراة. امتطى الزوجان متن الباخرة «فوليندام »

في أواسط شهر مايو، حيث انشغلا طيلة المدة التي استغرقها عبورهما المحيط بممارسة رياضة الغولف، ولعبة الشطرنج، ومشاهدة الأفلام السينمائية، لكن توماس مان كرس جزءا مهما من وقته لقراءة رواية «دونكيشوت» في طبعة ألمانية من أربعة أجزاء، مع تدوين انطباعاته الأولى عنها، قصد صياغتها فيما بعد.
كانت الأوضاع في ألمانيا تتطور بسرعة كبيرة منذرة بخطر وشيك بعد استيلاء هتلر على السلطة، وكان المثقفون الألمان المعادون للنازية يستعجلون توماس مان التعبير عن موقفه منها بعد عودته من منفاه الاختياري في سويسرا. لكن الكاتب، فيما يبدو، آثر الصمت مؤقتا، وعوض ذلك انكب على صياغة تحليله لرواية سرفانتس في شكل مقالة طويلة.

قراءة عائلية
كان توماس مان قارئا نهما لا يتوقف عن قراءة الكُتّاب الذين أعجب بهم، كلاسكيين كانوا أو معاصرين، إلى درجة أنه كان، في كثير من الأحيان، يشرك زوجته في قراءاته لكل من بلزاك وستاندال وغوته وزولا وكافكا ورومان رولان وهرمان هسه وستيفان زفايغ، بل كان يشرك حتى أطفاله في ذلك، حيث كان يتلو عليهم آناء المساء نصوصا مختارة لبعض الكتاب، وخاصة سرفانتس وغوغول وتولستوي. وتعتبر «يوميات» توماس مان، التي نشرت بعد وفاته، مصدرا لا غنى عنه لمعرفة نوعية قراءاته، وطبيعة تأثير هذه القراءات في كتابته: في هذا الصدد يمكن ملاحظة أنه شرع في قراءة «دونكيشوت» بصورة جدية في أوائل سنة 1934، وأنه تأثر بأسلوبها أثناء صياغة «يوسف وإخوته»، معترفا باستلهامه مشاعر عطف سانشو بانثا على سيده أثناء معالجته علاقة النبي يوسف بزوجة العزيز. لقد تنبه توماس مان حينئذ إلى أهمية «دونكيشوت» ودلالاتها الكونية، لكنه لن يعمد إلى الكتابة عنها إلا في شهر أغسطس من السنة المذكورة، حيث توخى إدراج تحليله لها ضمن سياق متميز هو سياق سفره الأول إلى أميركا، ومن هنا اختياره «رحلة عبر البحر صحبة دونكيشوت» عنوانا لمقالته التي سيصدر القسم الأول منها على صفحات Neue Zucher Zeitung يوم 5 نوفمبر 1934. لقد صاغ الكاتب الألماني مقالته على شكل يوميات سفر، تتوفر على تلوينات روائية حاذقة، حيث كان يعمد إلى وصف مجريات الحياة اليومية على ظهر الباخرة معلقا بين آونة وأخرى على التصرفات الغريبة لبعض الركاب، ومسجلا انطباعاته عن طبيعة الأنشطة الترفيهية التي كان يقوم بها هو وزوجته. غير أن ما قد يبدو في الظاهر سياحة مرتجلة في نص رواية سرفانتس، إنما يتجلى في الواقع دراسة محكمة للكتاب ولمصادره المحتملة، بحيث يغدو واضحا أن توماس مان تعمق في البحث طويلا قبل الإقدام على الكتابة، مستفتيا في ذلك مراجع شتى، من بينها صديقه ومراسله عالم الأساطير الدكتور كارل كيرينيي. هكذا، خلال 111 صفحة، تمكن الكاتب الألماني من الإمساك بثراء نص لم تستطع مؤلفات عديدة، ومونوغرافيات لا حصر لها، من إمتاع القراء بمتابعة تطوراته والتوقف عند أدق تمفصلاته، ولا من إبراز طبيعة علاقة كل ذلك بالروح الإسبانية حيث « ترفع أمة عريقة شكل المحاكاة الساخرة، ونسق هجاء الخصائص القومية (مثل الفخار والمثالية والكرم) إلى مصاف تخييل نموذجي تتعرف فيه على نفسها. ألا يعد هذا أمرا رائعا؟».

ألاعيب سرفانتس
اهتم توماس مان أيضا بالتغلغل في ورش عمل الكاتب الإسباني بغية اكتشاف «حيله وألاعيبه» ورغبة منه في معاينة الأنساق السردية التي وظفها والتي وجد بعضها موازيا للعديد من الأنساق التي استعملها في كتاباته. لقد أثار انتباهه بصفة خاصة كيفية معالجة سرفانتس لمخلوقه الفكاهي والحزين في نفس الوقت، حيث لاحظ نموه الإشكالي على امتداد الحكي، وكيف يغدو في خاتمة المطاف «شخصية رمزية ذات بعد إنساني معاصر». تنبه توماس مان كذلك إلى ما اعتـُبر من طرف العديد من النقاد «أخطاء سردية» أو «هنات ناتجة عن السهو»، لكنه ردّ ذلك إلى كون المعايير السردية في عهد سرفانتس كانت متراخية ومختلفة عن المعايير الصارمة المستعملة لدى الروائيين المعاصرين.
لم يكن الكاتب الألماني أثناء قراءته «دونكيشوت» يعبُر المحيط الأطلسي فقط، بل كان يعبر أيضا محيط الحكايات العديدة والمتداخلة التي تشكل لـُحمة وسدى رائعة سرفانتس، والتي بدت له دلالات بعضها وكأنها تردد أصداء حديثة العهد لكونها ذكّرتْه بما كان يجري في ألمانيا حينئذ من ممارسات خرقاء. لكن ما سجله توماس مان من ملاحظات لم يكن فقط مديحا وتنويها بالرواية: فإثر إشارته إلى تعاطف المؤلف بصورة إنسانية مع شخصياته، بل وتضامنه معهم، لم يتردد في التعبير عن استغرابه من قساوة «دونكيشوت»، مشيرا إلى أن بطل الرواية يتلقى من أصناف العقاب الجسدي المتكرر أضعاف ما تلقاه لوسيوس في قصة «الحمار الذهبي» لأبوليه. بيد أن ما يبرر تلك القساوة، في اعتقاده، هو ما أسماه «سادية السخرية» التي كانت أحد العيوب الاجتماعية السائدة في القرن السابع عشر، عصر الكاتب الإسباني. إن من شأن هذه الملاحظة أن تذكرنا بما تنبه إليه فلاديمير نابوكوف أيضا في دروسه المكرسة لرواية سرفانتس (هارفارد 1951 – 1952) حيث اعتبر الكتاب «موسوعة للقسوة والعنف المجاني».

ثقافة الشطّار
لم يكف توماس مان، وهو يقرأ «دونكيشوت»، عن استدعاء ثقافته الواسعة، وخاصة في مجال نظرية الرواية، حيث أدلى بملاحظات بالغة الحصافة حول المحاكاة الساخرة والشخصية الروائية متسائلا عن الوشائج الخفية التي تصل معيش سرفانتس بتخييل روايته، وعلاقة كل ذلك بالثقافة الشطارية. ويمكن القول بأن مفهوم السخرية شكل محور اهتمام الكاتب الألماني منذ روايته «الجبل السحري»، وأنه سبق له أن عرفها في مقالته «غوته وتولستوي» بكونها «تقاطب بين نقيضين يؤدي إلى حصول انسجام غير متوقع». وفي خطابه الذي ألقاه بسالزبورغ سنة 1952 تحت عنوان «الفنان والمجتمع» أبرز توماس مان أن الفن « إذا كان يدفع الناس تلقائيا إلى السخرية، فإن الأمر لا يتعلق بسخرية حادة وهجائية، وإنما بوعي مرح تنتفي فيه الكراهية ليحل محلها إحساس عميق بالتحرر». من هنا يبدو لنا أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن يختم توماس مان مسيرته الأدبية برواية (لم يتمكن من إنهائها ) يطغى عليها طابع المفارقة الساخرة وتحمل عنوان «اعترافات فارس الصناعة فيليكس كرول»، والتي قال بصددها في يومياته (1918 ـ 1936) إنها، مثل رواية سرفانتس، «ترمي إلى حث الناس على السخرية بصورة بناءة، وهو ما يعني إغراءهم كي يتمكنوا من التعرف حقا على نفوسهم».

الاختباء من العاصفة بالسخرية
عقب عودته من رحلته إلى أميركا، فكر توماس مان مليا في قطع علاقاته بألمانيا، واختراق حالة الصمت التي كان يتخبط فيها عن طريق الإدلاء بتصريح علني يتضمن موقفه النهائي من الأحداث المتسارعة. بيد أن الكاتب ظل مترددا في اتخاذ قراره الحاسم، الأمر الذي أدى إلى حدوث خلافات بينه وبين ابنه كلاوس وابنته إيريكا، فضلا عن تفاقم علاقاته بأخيه الكاتب هاينريش مان. هكذا كتب في « يومياته» بتاريخ 31 يوليو 1934: «أحاول مواصلة كتابة « يوسف وإخوته »، لكنني لا أتمكن من تحبير سوى بضعة أسطر في اليوم ... والحال أنني أفكر في أمور أخرى تشغلني. بالضبط أفكر في الكتابة عن ألمانيا، وإنقاذ روحي بواسطة رسالة عميقة موجهة إلى العموم». لقد كانت الرسالة عميقة فعلا، لكن توماس مان لن يقوم بنشرها إلا في خريف سنة 1936 . تبقى هنالك أسئلة معلقة من المحتمل أن تخامر قارئ كتاب «رحلة عبر البحر صحبة دونكيشوت»، الذي صدر بطبعة حديثة بالإسبانية، بمناسبة الاحتفاء بالمئوية الرابعة لولادة «دونكيشوت».
لكن ما الذي حدا بتوماس مان، وبلاده تغوص في أزمة سياسية وخيمة العواقب، إلى الانكباب على قراءة «دونكيشوت» والكتابة عنها؟ هل فعل ذلك حرصا منه على تلافي مواجهة العاصفة؟ أم بدافع التحايل على ثقلها المبدد للقوى بغية النظر إليها من زاوية ساخرة؟
عن جريدة الحياة اللندنية