شولوخوف مؤلف  الدون الهادئ ؟

شولوخوف مؤلف الدون الهادئ ؟

صادق البلادي
كاتب راحل
إنهار الاتحاد السوفياتي وانتقل العالم إلى القطبية الأحادية، إلى حين حتماً. وكل شيء سائر باتجاه طمس كل أثر لما تحقق في تلك المرحلة التي تجري المساعي لتصويرها فقط بالانتهاكات الستالينية لحقوق الإنسان، وبالكولاغ رمزاً لها. فلم تسلم من محاولات الطمس حتى الروائع الأدبية. فرواية "الدون الهادئ"، وهي من شوامخ الروايات لتلك الفترة، ومؤلفها شولوخوف، لم تسلم من هذه المحاولات أيضاً.

وفي عهد غورباتشوف اكتسبت شعبية كبيرة تهمة انتحال الرواية الموجهة إلى شولوخوف، فاتهم بسرقة الرواية وانتحالها لنفسه. وخاض مؤيدو هذه التهمة ومعارضوها معارك ساخنة، لم يقدم أي طرف أدلة وإثباتات علمية تسند موقفه، بل اتسمت بالعاطفية والحماسة فقط، وما كان بقدرة أي من الطرفين أن يقدم الدليل القاطع: مخطوطة الرواية.
لم تكن هذه التهمة جديدة. ففي الستينات والسبعينات وجه سولجنستين الحائز - في خضم الحرب الباردة - على جائزة نوبل للآداب، كجزء من حملته ضد الاتحاد السوفياتي، هجوماً مركزياً على شولوخوف متهماً إياه بانتحال الرواية. وانتشرت نظرية "انتحال الرواية" انتشاراً واسعاً. وآنذاك رد اتحاد الكتّاب السوفيات المؤيد للحزب الشيوعي، على هذه التهمة بأنها من صنيع مخيلة "الخائن" سولجنستين الذي اسقطت عنه الجنسية السوفياتية، واحتضنه الغرب... ومعروف أنه عاد إلى روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي!
ومن الطريف أن هذه التهمة لم تكن جديدة تماماً، ففي أوائل الثلاثينات عند صدور رواية "الدون الهادئ"، التي اعتبرت حدثاً من الأحداث الأدبية الجليلة، اثيرت الشكوك حول أصالة المخطوطة. والأكثر طرافة ان التشكيك بوشولوخوف واتهامه بانتحال الرواية لم يصدرا من الأوساط الأدبية الروسية التي هاجرت بعد انتصار الثورة البلشفية، بل صدرت من "الاتحاد الروسي للأدباء البروليتاريين".
كانت الرواية الضخمة، المكتوبة باسلوب الأدب الروسي الكلاسيكي للقرن التاسع عشر، قد أثارت عبر شخوص الرواية التشكيك بضرورة الحرب الأهلية الدموية. ولم يرق هذا التشكيك بالحرب الأهلية للاتحاد الروسي للكتّاب البروليتاريين. وعبّر الاتحاد عن ظنونه بأن الرواية ليست من تأليف شولوخوف، بل من تأليف الروائي نيقولاي كريوكوف الأديب غير المعروف، وهو مثل شولوخوف من منطقة الدون، وكان قد نشر قبل ثورة تشرين الأول اكتوبر بعض القصص عن حياة القوزاق، وفي أثناء الحرب الأهلية كان قد تعاطف مع البيض المعادين للثورة.
لكن ستالين، بعدما قرأ الرواية، وجدها رائعة، فتبددت كل الشكوك والظنون من جانب الاتحاد البروليتاري، وتخلى عن الظن بأن شولوخوف استنسخ "الدون الهادئ" عن كريوكوف. وما كان لاتحاد الكتّاب البروليتاريين أن يفعل غير ذلك، فما كان يقوله ستالين هو القانون المقدس. وهكذا آمن ستالين نفسه بهذا الوهم. ففي اواخر حياته جرت مناقشات بين علماء اللغة حول نشوء اللغة وتفسير المادية لها، وكان رأي العلماء لا ينطلق من جمود عقائدي، بل من البحث العلمي. وناقشهم ستالين شخصياً، وعندما طرحوا آراءهم دحضها ستالين بقوله لهم: "ولكن ستالين يقول غير ذلك". فاقتنعوا! وبعد أن تراجع الاتحاد الروسي للكتّاب البروليتاريين عن موقفه، تبنت الأوساط الروسية في المهجر هذه التهمة وشنت حملة واسعة ضد شولوخوف معتبرة إياه "حبيب ستالين".
الأمر المثير لحيرة الباحثين هو سبب عدم قيام الجهات السوفياتية في البحث عن المخطوطة. فقد صرح البروفيسور اوشاكوف، رئيس قسم الأدب الروسي الحديث التابع لمعهد موسكو للأدب العالمي، ان معهده كان قد بحث سنوات طويلة عن المخطوطة، ولكن من دون جدوى. وأول خيط في العثور على المخطوطة وُجد اواسط التسعينات عندما تردد ان ورثة أحد أصدقاء شولوخوف عرضوا المخطوطة على دار سوذبي للمزادات في لندن لقاء نصف مليون دولار. وتتبع المعهد هذا الخيط حتى تمكن من شراء المخطوطة من الورثة بمساعدة الحكومة الروسية ورئيس الوزراء الحالي، الذي كان رئيس المخابرات قبل تعيينه لرئاسة الوزارة.
ودلت الأبحاث على أن شولوخوف كان قد جاء إلى موسكو العام 1928 ولم يكن معروفاً بعد، واتصل بكورداشوف من أجل نشر الرواية. ولحسن الحظ كان كورداشوف يملك آلة كاتبة، الأمر الذي لم يكن عادياً آنذاك، بل كان نادراً جداً بين الكتّاب في موسكو. كان شولوخوف يعرف عن وجود آلة كاتبة في موطنه، هي الوحيدة في حي القوزاق، وبالذات في مركز المخابرات الذي كان عملاؤه يراقبون شولوخوف باعتباره من "القادة الرئيسيين للردة القوزاقية". وفي بيت كورداشوف كتبت نسخة من "الدون الهادئ" على الآلة الكاتبة ارسلت للطبع، وبقيت المخطوطة الأصلية مع الإضافات والتصحيحات بخط يد شولوخوف في بيت صديقه كورداشوف.
وقام المعهد بعد حصوله على المخطوطة الأصلية بدراستها، واجراء البحوث عليها. واشترك مع المعهد في التدقيق والبحث ابن ميخائيل شولوخوف، وطلب المعهد مشاركة سولجنستين في التدقيق، لكنه رفض ذلك. وكانت نتيجة البحث التي أعلنها للصحافة البروفيسور اوشاكوف "ان ميخائيل شولوخوف وحده مؤلف "الدون الهادئ"، المخطوطة أصلية وهي تعود لشولوخوف. وهي تحتوي على العديد من الإضافات والتعديلات بخط يد شولوخوف، الأمر الذي يؤكد انها غير مستنسخة عن كريوكوف".
هذه المادة سبق ان نشرت وهي
للراحل صادق البلادي