مصطفى جواد البعيد عن السياسة .. القريب من العلم والعلماء

مصطفى جواد البعيد عن السياسة .. القريب من العلم والعلماء

توفيق التميمي
كان العلامة جواد بعيدا عن السياسة ومشكلاتها ولا يعنى بمتابعة مجرياتها حتى قيل إنه لو سُئل عن مدير شرطة بغداد لصعب عليه معرفته ولكن لو سُئل عن رئيس الشرطة في زمن هارون الرشيد لقال إنه فلان ابن فلان عُين لرئاسة الشرطة سنة كذا وعزل من عمله عام كذا وتوفي عام كذا واستخلفه فلان الذي... الخ

ولأورد تاريخ الشرطة في ذلك الزمن من دون أن يعنى بالحاضر لاشتهاره باهتماماته التاريخية وانصرافه للعلم وحده حرص على ان يضع حدا فاصلا بين طريقه في البحث والعلم وبين السياسيين والحكام .
وربما كان هذا درسا حرص على تلقينه لاولاده مستقرئاً مستقبل مكانة العالم وما ستؤول اليه من انهيار هيبته وخذلانه في ازمان حكومات جاهلة لاتقيم وزنا للعالم والمفكر والمثقف بقدر ما كانت تغدق من اموال ومكاسب على جنرالتها وجلاديها وجيوش مخابراتها ولكن برغم ابتعاده عن السياسة والاعيبها ودهاليزها العلنية والسرية ،الا ان جواد كان وطنياً صلبا لايحايد في الاعتراض على ظلم يحيق بعامة الشعب ولايخبأ راسه عند الخطوب الكبيرة والاحداث الجسام ،كانت لديه الوطنية والالتزام بها وتحمل تبعاتها قضية مبدا ورسالة تختلف في معناها ومبناها عن السياسىة ومقاصدها في التكسب والسلطة ، ودفع جواد لهذه الوطنية قدرا كبيرا من صحته التي استنزفت رويدا رويدا حتى وافتها الغلطة القلبية اواخر عام 1969(كم كنت اراه في الصباح واثار السهر والاعياء باديات في رسوم وجهه وعينيه المتعبتين فيطبق جفنيه احيانا ويسترخي في اغفاءة قصيرة من حيث لايشعر ، ثم ينتفض ويعود الى كتاب يقرأه او حديث يتحدث به والمرء بطبيعته اذا طاوله الجهد والارهاق استرخى واستروح الى الراحة وسكن الى الهدوء مهما غالب ذلك وطال وصاول ولكن ابا جواد كان من الد اعداء الكسل والالتذاذ بالراحة والديدبان الذي لاينام وقد ظل على ذلك وفيا للعلم والكتاب وهو من وطأة مرضه معنى يذوب ويضنى حتى لفظ انفاسه الاخيرة رحمه الله .( كمال ابراهيم استاذ العربية في جامعة بغداد في ذكرى مصطفى جواد) .
عجز الدكتاتور أن يحارب شخص الدكتور مصطفى جواد لوفاته عام 1969، فانه أعلن الحرب على نصبه الذي كان يقف شامخا في مدخل مدينته «الخالص»، محاولا محو هذا المعجم اللغوي والتاريخي الوقور، كان هناك تمثال عن ثورة العشرين في ساحة مدخل «الخالص»، وتم رفعه ووضع تمثال الدكتور مصطفى جواد بدلا عنه، وبعد أكثر من عشر سنوات أي في ثمانينيات القرن الماضي رُفع التمثال لكن عن طريق التحطيم، فجرى سحبه من مكانه ورميه في معمل الاسمنت الراحل مؤيد الناصر، هو من صممه وساعده في ذلك الفنان علي الطائي».
ربما كان رحيل جواد مبكرا في العام الاول من حكومة البعث الثانية قدرا بصالح عمره القليل بسنواته المديد بعطائه ، فجواد اغمض عينيه بغلطة قلبية مباغتة وهو لم يفارق طلابه الذين كان يصحح لهم ويغدق عليهم بتصويباته على اطروحاتهم الجامعية وهو على فراش الموت ليعطي مثالا نادرا للوطنية الحقة بعيدا عن التبجح بالشعارات والعبارات الحماسية والخطب البلاغية رحل مصطفى جواد قبل ان يشهد وهو الحساس المرهف هجوم برابرة البعث على العلماء وزملائه المفكرين والحط من قدرهم بالتسقيط والملاحقة والتشريد واجبارهم على عسكرة الجامعة وتسميم اجوائها العلمية والاستخفاف بقدر وقيمة ومكانة زملائه التدريسيين الذين كانوا يحسدون جواد في قبره لانه لم يشهد مهازل البعث ولاما ارتكبه الصداميون بحق زملائه من التدريسيين والمفكرين والقامات الثقافية الكبيرة ومع غيابه عن عالمنا لم تسلم اثار مصطفى جواد وبقاياه ولا رسائله ولامخطوطاته وفقرات وصيته من العقوق والعبث ولاحتى قبره الذي خصصت ارضه الحكومة له .
خلال سنة 1925 تعرف د مصطفى جواد بالعلّامة اللغوي الأب أنستاس الكرملي وكان للكرملي مجلس أدب ولغة في الكنيسة اللاتينية يؤمه أدباء الدرجة الأولى في بغداد، وفي جلسته الأولى أثار مصطفى جواد معركة حامية حول العامية والفصحى، وكان يبزهم في الأدلة والبراهين، فمال إليه الكرملي منذ لحظته الأولى قائلا: «أريدك يا أخ اللغة أن تحضر مجلسي كل أسبوع». عند حضوره في الأسبوع الثاني كلفه الكرملي بأن يهندم مكتبته على التنظيم العصري وكانت من خيرة مكتبات بغداد، فنظمها وجعل لها فهارس وأخرج منها العابث والمكرر، ثم اقترح عليه الكرملي الكتابة في مجلته الشهيرة لغة العرب، فكتب أبحاثا لغوية ونقدا في التراث اللغوي وزاوية خاصة بـ»التصويبات اللغوية» وكان الكرملي مثله سيدا في اللغة ومثله تعرض لخصومات جيرانه التي أرادت أن تبطش به لولا دفاع مصطفى جواد عن جواهره وانجازاته في لغة العرب، وكتب مقالة بحق الكرملي في مجلة السياسة المصرية في الثلاثينيات كان بها ينهي خصومة الكرملي وهو القائل على قبره:
ياسائرا، ووجيب القلب صـــاحبه
لنا ببغداد من بين القســــوس أب
أب عــزيز وذو علـــم ومعــــرفة
قضى السنين بشوق العلم يكتسب
عند زيارتنا لبيت ابنته المربية الفاضلة والمشرفة اللغوية فائزة مصطفى جواد في حي الجامعة شتاء عام 2013 ، لتتبع اثاره واضاءة سيرة والدها العلامة مصطفى جواد والحصول على بعض الوثائق والرسائل النادرة التي تفيدنا بتأصيل هذه السيرة المباركة ، حصلنا فيما حصلنا عليه من مراجع نفيسة شريطين مسجلين بصوت مصطفى جواد كان قد سجلهما قبل وفاته بايام قليلة يستعرض فيهما ذكرياته وابرز ما مر خلالها من احداث جسام ووقائع مثيرة ، اختلط فيها الخاص بالعام وامتزجت السيرة الشخصية بسيرة وطن ووقائعه .
كان ذلك التسجيل بناء على رغبة والحاح من ابنته فائزة التي يعتز بها اعتزازا كبيرا ،احساسا منها بانه بدأ يدنو من ساعاته الاخيرة بعد ظهور علامات الاعياء والاجهاد واضحة عليه لما كان يبذله من جهد وارهاق في انشغالاته المعرفية والجامعية والاعلامية، وكأنه يسابق الزمن ويغالبه حتى سقط في الضربة القاضية للغلطة القلبية حسب تصويبه لكلمة لعبارة (الجلطة القلبية السائدة )، فلم يكمل سرد كامل ذكرياته .