قراءة في بعض تراث الدكتور مصطفى جواد

قراءة في بعض تراث الدكتور مصطفى جواد

د . زهير غازي زاهد
كان لقاء الدكتور مصطفى جواد حلمًا يراودنا قبل انتظامنا في الدراسة الجامعية. كانت أخباره وأحاديثه الإذاعية تملأ نفوسنا شوقًا للتلمذة على يديه، وتحقق ذلك الحلم سنة 1960 من القرن السابق. لقد التقينا بمن نحلم أن نلتقي به وسمعنا صوته في قاعات الدرس بكلية التربية،جامعة بغداد، ومرت أربع سنوات ونحن نتابعه ونحاوره في مادة الأدب في السنة الأولى وفقه اللغة في الرابعة ثم الدراسات العليا مادة تحقيق النصوص سنة 1964.

كنا نسمع صوتًا وعلمًا يختلف عما نسمعه من غيره من الأساتذة الآخرين معرفة وحفظًا واجتهادًا، وكان الأستاذ الآخر الذي أفدنا منه وأثر فينا هو الدكتور أحمد عبد الستار الجواري رحمه الله.
مصطفى جواد عالم لغوي محقق كان همه وغايته التي سعى لها طيلة حياته الحفاظ على سلامة العربية وإشاعتها على ألسن الناطقين بها. كان لذلك سعيه في قاعات الدرس وفي المؤتمرات العلمية وفي نشر مقالاته إذاعة، وأحاديثه حتى ابتدع وسيلته الإعلامية لإيصال صوته إلى كل بيت بوساطة الإذاعة والتلفاز ببرنامجه البديع (قل ولا تقل) فجعل اللغة حديث المجتمع نخبتهم وعامتهم ،وهو منهج جعل مصطفى جواد يتردد على كل لسان يسمعه ويسمعه بشوق وانتظار برنامجه الذي كان يؤديه ببراعة نافذة أثرها في قلوب السامعين بكل طوئفهم(1).
بقينا نتابعه ونستمع أحاديثه ونراسله لمعرفة ما يلتبس علينا من اللغة والتاريخ حتى جاء نعيه صدمة لمريديه ومحبيه،فودعناه بكلمة تأبينية ألقيت على جثمانه في ركن سادن الصحن العلوي الشريف في النجف الأشرف عصر يوم 19 كانون الأول 1969. ووري الثرى فكان قبره في بداية شارع كربلاء العام يضم أكبر أعلام الحضارة في العراق في القرن العشرين.

الكتابة عن مصطفى جواد ليست سهلة تكتنفها أسئلة مهمة: هل هو لغوي؟ نعم لقد كان يمتلك المعرفة اللغوية وفلسفتها والتبحر فيها .هل كان أديباً؟ نعم، فقد نظم الشعر وكتب في قضايا الأدب وتاريخه. هل كان مؤرخاً؟ نعم،فقد كان واعيًا التاريخ وأحداثه وحقق كتبًا مهمة فيه هل كان محققًا؟ نعم، لقد امتلك كل خصائص التحقيق العلمي، أمانته، فقد استخدم فكره وملكة حفظه النادرة وفطنته، وإبداعه في التعبير ومعرفته اللغوية والتاريخية وذاكرته الحادة ومعرفته اللغوية والتاريخية في تحقيق النص.
لقد كان منهجه في اللغة وتحقيق النص واحدًا وأهم خصائصه إشاعة المعرفة والأمانة العلمية والدقة في التتبع والاجتهاد في الرأي.
لقد كان مصطفى جواد علما من أعلام الحضارة العربية ومبدعًا في حفرياته اللغوية والتاريخية للوصول إلى هدف البحث، فهو أديب لغوي مؤرخ محقق شملت ثقافته كل هذه المعارف لكن اللغة وتحقيقها غلبت عليه، فاتخذ من اللغة عالمه ومن التحقيق مجاله الذي أبدع فيه، ومنهجه الذي سار عليه ولم يفارقه. فكان مكتبة تمشي وقاموسًا ينطق.
يعد كتابه (المباحث اللغوية في العراق) ومقالاته في سلامة اللغة العربية ووسائل نهوضها أهم ما صدر في القرن العشرين في العراق في دراسة أصول العربية نحوها ومفرداتها ومصطلحاتها، ويقرن كتابه المباحث اللغوية في العراق بكتاب العالم الألماني برجستراسر (التطور النحوي للغة العربية) لتشابه منهجهما التاريخي المقارن في تنقيبهما ومتابعتهما أطوار العربية التاريخية نحوها وأصول مفرداتها وأساليبها، ويزيده مصطفى جواد في اجتهاده واقتراحه وسائل النهوض بها.
لقد كان يتابع التطور العظيم الذي أصاب حياة العصر وأيقظ الأفكار والعيون على أسبابه ومخترعاته ووسائله المادية وتطوره الاجتماعي وماجدّ فيه من أفكاره، فبالرغم من الجهد في تنمية اللغة بقيت العربية غير مستوعبة لوسائل العصر وقضاياه الاجتماعية والفكرية (مع أنها من اللغات المنطوية على عناصر الحياة الكامنة فيها قوة النماء والإثراء والانتشار والازدهار)(2).
لقد كان نشاط مصطفى جواد اللغوي في عهد مبكر من حياته مع الأب أنستاس الكرملي في مجلة (لغة العرب) وغيرها من المجلات ثم المحاضرات والندوات والمؤتمرات العلمية ومشاركته في الترجمة أيضاً. ثم استخدم الحديث الإعلامي والإذاعة والتلفاز وبهذه الوسيلة نقل القضية اللغوية إلى آفاقها الواسعة، فمشكلاتها وصراعها مع الوافد اللغوي والشائع الملحون لم يعد حديثها وحوارها منحصرًا في قاعات الدرس أو قاعات المؤتمرات اللغوية وإنما شارك العامة والخاصة فيه من الناطقين بالعربية.
إن المصطلحات من أعمال الخاصة من علماء اللغة، أما العامة فيستعملون المسمى من الآلات والأشياء بأسمائها التي تأتي معها من الخارج وقد كثرت النقاشات في مجمع اللغة العربية في القاهرة، فكان على المجامع العلمية والمؤسسات اللغوية أن تضع الأسماء والمسميات قبل أن تشيع بين العامة بأسمائها الأجنبية والذي يجري العكس من ذلك، فبعد أن يشيع الاسم الأجنبي على الألسن يوضع الاسم العربي،
ولذا يعاني اللسان العربي هذا الصراع اللغوي بين الفصيحة والعامية والمصطلحات الأجنبية والأسماء التي غزت اللسان العربي من الصعب تغييرها بعد شيوعها وإن كان الحسّ اللغوي أو الملكة اللغوية لدى العرب تضع المصطلح المناسب للجديد فتستعمله كما كان في وضع مصطلح (السكة الحديد) أو (سكة الحديد) عند دخولها مصر وغيرها.
كان الدكتور مصطفى جواد يؤمن باجتماعية اللغة وتطورها وبالاجتهاد بوضع المصطلحات والألفاظ، وإن اللغة (لم تبق وقفًا على ما سمع من العرب الأولين ولا مقصورة عليه) وللعربية قابلية طبيعية لمجاراة الزمن والتطور تطورًا معتمدًا على طبيعتها في الاشتقاق والتعريب والنحت، ومعرفة هذه الطبيعة واجبة على من عني بها ووكل إليه الحفاظ على سلامتها)(9).
وقد قال: (ان القدماء لم يسدوا باب المجاز .. فأهل هذا العصر يحق لهم استعمال عدد من الكلم على سبيل المجاز ويحق لهم الاتساع في التعبير على شرط أن لا يؤدي إلى المسخ والتغيير)(10).
إن هذا الشرط في قوله الأخير (أن لا يؤدي إلى المسخ والتغيير) جعل له موقفين في كثير من الأحيان:
الأول:
إبداعه في وضع المصطلح وقبوله إذ كان موافقًا لما اختزنته حافظته من أصول الألفاظ واستعمالاتها في أطوار مختلفة من التاريخ. وموقفه هنا يريد به أن لا يتناقض معناها الجديد ومعناها القديم أوله علاقة به.
وقد جعله هذا من نوادر اللغويين الحفاظ العارفين بطبيعة اللغة وباطلاعه واستقرائه استعمال المفردات في مختلف عصورها،وهذا جعله منسجمًا مع ما يعتقده من وسائل تنمية اللغة وأولها الاشتقاق فطبيعة اللغة العربية أنها لغة اشتقاقية، وكان يتخذ من القرآن الكريم المصدر الأول والأفضل لإتباعه، والقياس على استعمالاته وبعد القرآن ما يثق بفصاحته من كلام العرب من النثر والشعر.
وهو يرى أن اللغوي الذي يوكل إليه الحفاظ على سلامة اللغة ينبغي له أن يعرف هذه الخصيصة في اللغة، وإلا وقع في الاختلاط الذي قد يشوّه اللغة فالمصطلح الجديد أو الكلمة يرجع بها إلى العربية فإذا كانت مستعملة وأهملت أجاز قبولها أو يمكن اشتقاقها على وفق الصيغ العربية وإلا كان ردّ قول من قبلها.
هذه قاعدته في قبول الجديد أو رده، وبهذا جاء اقتراحه لكثير من المصطلحات وقبوله لكثير من الكلمات المقترحة من اللغويين والمجمعيين، كاقتراحه مصطلح (دائرة المعارف) مقابل الاسم الأجنبي (انسكلوبيديا) وعدم قبوله اقتراح الكرملي (معلمة) فالدائرة قد استعملها كبار المسلمين للعلوم .

الثاني:
رده مالم يوافق مبدأ الاشتقاق والاستعمال على سبيل الاتساع والمجاز فقد ردّ تخطئة إبراهيم البازجي من قال: (هذا أمر يأنفه الكريم (والصواب يأنف منه الكريم)(17).
وقد صوبه الدكتور مصطفى جواد، لأن صيغة (فَعِل) يجوز تعديلها لغير العيوب والعاهات الظاهرة بنفسه وبحرف الجر،مثل أمن منه وأمنه وخاف منه وخافه. وأنف منه وأنفه وسرد مجموعة من الشواهد من قديم الشعر ومولده ومتأخره تثبت استعمال (أنف) متعديًا بنفسه. فاتفق السماع والقياس، وقد عدّ حذف حرف الجر من الإيجاز البلاغي(18).
وبهذا المقياس كان رده وتصويبه كثيرا مما استعمله الكرملي في كلامه في هوامش كتاب المباحث اللغوية، كما رد تخطئة جملة من المصطلحات التي تضمنها مجلدات مجلة (لغة العرب) ومجموعاتها السنوية .
من ذلك تخطئة الكرملي جرجي زيدان في قوله (وقد تعاصر البابليون والمصريون قائلا: والأصح: وقد عاصر البابليون المصريين لأن (كذا)(19) لا وجود للتفاعل في مادة (ع ص ر)… أراد أن يقول: فلا وجود.