مكتبات شارع السعدون ..ذكريات

مكتبات شارع السعدون ..ذكريات

علي عبد الأمير عجام
حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كان «شارع السعدون» يستعد كل مساء ليكون قلب بغداد النابض، فيما تخلد الاطراف الاخرى من المدينة الى بعض من الراحة جراء نهار عمل طويل. قبل ان تنطفئ في بغداد معالم كثيرة، منها «شارع السعدون» الذي صار الشارع الاشهر في العاصمة بعد غروب مجد «شارع الرشيد»، وتحديدا منذ اواسط سبعينيات القرن الماضي، كان «السعدون» يبدأ حياتيا من جهة اليمين اذا كنت قد دخلت اليه من جهة ساحة التحرير،

فثمة اشارتان الى حيوية اي مدينة معاصرة: وسائل الاسترخاء و وسائل المعرفة.

من ركائز امكنة الاسترخاء في المكان كان كافتيريا « كيت كات» وفيها كان موعدي مع اولى مغامراتي العاطفية في الجامعة، قبل ان ينفتح المكان لمشاوير اخرى تختلط فيها اصوات الاصدقاء الضجرين بنبرات خافتة لكتاب وصحافيين كانوا يجدون بعض الراحة في المكان القريب من ابرز مكتبات بغداد الحاشدة بالمعرفة واثاث الغنى الروحي، فثمة «مكتبة النهضة» لصاحبها المكتبي هاشم والتي عملت فيها بعضا من الوقت، و»مكتبة التحرير» لصاحبها بناي، ولاحقا « المكتبة العالمية» التي ادارها الكاتب والناقد جاسم المطير.
والى جانب « كيت كات» ثمة كافتيريا مشابهة هي « فلسطين اكسبريس». و المكانان كانا ملتقى لراحة عوائل بغدادية وعشاق ورجال انيقين تصحبهم كتبهم او صحفهم، فضلا عن سيدات جميلات كن يدخلن منفردات او ضمن حلقات من الصديقات اللائي كن يخرجن وقد توهجن بطعم القهوة التركية، وزادتهن «حلاوة» تنويعة من حلويات ومرطبات كانت تقدم بافانين من الاواني التي يتراقص فوق حليبها المثلج، فستق حلبي أخضر.
ومن كان بدأ جولته من المكتبات ولمسة النعومة في « كيت كات» سيخرج الى رصيف عريض ليلقي نظرة الى الجانب الآخر من الشارع الذي جاء نفق ساحة التحرير ليهشم منظور جمالياته المكانية، فمنع مجال الرؤية المطلوب لمشاهدة صحيحة لنصب الحرية، وغيّر الحضور المريح لامكنة ومعالم منها «عمارة مرجان» بلمسات حانية (استدارة العمارة برشاقة من شارع السعدون الى الجانب الاخر المطل مباشرة على ساحة التحرير) صممها من يصفه استاذ العمارة الحديثة د. خالد السلطاني بانه « ابو العمارة العراقية الحديثة» المهندس جعفر علاوي العام 1954. ومن المحال المنفتحة على «شارع السعدون» انطلاقا من الطابق الارضي للعمارة الشهيرة، كانت هناك «مكتبة المثنّى» التي تأسست عبر مقرها الاصلي في « شارع المتنبي» في العام 1936، وحرص صاحبها قاسم محمد الرجب، على ان تكون منبر نشر امهات كتب التراث، فضلا عن كونها مصدرا لتزويد الكثير من مكتبات البلاد بما تحتاجه من كتب الدراسات التاريخية والسياسية والفكرية.
واذا كان الطرف السابق من « شارع السعدون» الذي يبدأ من « مدرسة الراهبات» التي حولها نظام البعث الى «ثانوية العقيدة»، قد توفر على ملمحي الاسترخاء الفكري(المكتبات) والجسدي (كافتيريا «كيت كات» ومن ثم محل حلويات جواد الشكرجي وقريبا منها «مطعم نزار» الشهير)، فان الطرف الثاني كان يحاكي هذين الملمحين وان بدرجة اقل، فالاسترخاء الروحي يمثله وجود «مكتبة المثنى» و «جامع الاورفلي» فيما الاسترخاء الجسدي كان يوفره «مطعم تاجران»، ومطعمان صغيران في شارع فرعي من شوارع البتاويين أولهما كان يقدم الاكلات الفلسطينية وابرزها الفول والحمص والقدسية واغلب رواده من طلبة الجامعة، والثاني كان يقدم « الكباب السوري» ويؤمه اصحاب المحال التجارية وحرفيو المنطقة القادرون على دفع ثمن الوجبة التي تزيد على الدينار اواخر سبعينيات القرن الماضي.
غلبة الجانب الروحي والاسترخاء الفكري هي للجهة الاولى من « شارع السعدون»، فما ان تخرج من « المكتبة العالمية» لتنعطف نحو الشارع الفرعي المؤدي الى «شارع أبي نواس»، حتى تكون قريبا من اكبر ورشة للثقافة العراقية في توهجاتها التجديدية خلال ستينيات القرن الماضي وقسما كبيرا من سبعينياته، حيث « مقهى المعقدين» في تسمية شعبية تهكمية للمنشغلين في الثقافة واسئلتها، ووصفهم بـ»المعقدين». شخصيا لم اتعرف على الغنى الروحى والانساني في اجواء ذلك المقهى، الا انني كنت قريبا منها لنحو سنة يوميا حين عملت في « مكتبة النهضة»، ولاحقا كأمين صندوق في «مطعم الرصافة» أو «مطعم ابن ضعيفة» في تسمية مناكفة لمطعم شهير آخر قريب هو «ابن سمينة». ومع كل مرة كنت احتسي فيها الشاي المعطر بورقة خضراء (تسمى «عطرة» وهي ليست من ورق النعناع ولا من حبات الهيل، بل هي اقرب الى طعم الهيل ولكن بمظهر ورقة النعناع الخضراء)، ويقدمها لي صاحب المقهى ابراهيم او ابنه خليل، مستعيدا في المقهى وان كان ضيقا، فضاءات من اثر مبدعين عراقيين حلموا بالثورة والعدالة والتغيير ثم افترقوا بقسوة الوطن وسياساته بين منفيين ومعدومين ومنتحرين ويائسين صامتين من جهة، ومن صاروا جزءا من المؤسسة الثقافية لنظام البعث من جهة اخرى.
وفي حين كنت تستمر بالمسير في شارع السعدون بعد ان تعود اليه اذ انتهيت من احتساء الشاي المعطر بارواح «المعقدين» واثرهم الذي اضاء ليل بغداد وداعب روحها لسنوات، كنت ستصل الى «مكتبة الطريق» التي شعت مع اجواء الانفتاح السياسي في سبعينيات القرن الماضي، وكانت محطة للشيوعيين واصدقائهم المعروفين بنهم القراءة وحب المعرفة، فيما من الطرف الاخر كانت هناك «مكتبة الصياد» التي عمل فيها الصحافي علي حيدر، وكانت مصدرا جيدا لكتب الثقافة الادبية المعاصرة، لكنها كما « مكتبة الطريق» التمعت فجأة لتختف بطريقة مفاجئة أكبر. وفي الثمانينيات ظهرت في مكان قريب من «ساحة النصر» مكتبة هي أسم على غير مسمى، فـ»مكتبة اصالة البعث»، كانت تضم اكبر عدد من الكتب المناهضة لفكر البعث، وكان صاحبها (ابو طه) الذي وسع عمله من بائع للصحف الى مكتبي خبير، يقدم لمن يثق بهم اصدارات وكتبا مخبأة تتصل بافكار ومفهومات مناقضة لفكر البعث.
الاتصال مع المجتمعات الاخرى كانت له علامات اخرى في شارع السعدون، ومنها «مكتبة مكنزي» الشهيرة التي تراجعت مكانتها مع منتصف سبعينيات القرن الماضي تزامنا مع صعود قيم التشدد « الوطنية» و» القومية» والاتجاه الى التعريب الاجباري في الثقافة والتعليم العالي. وليس بعيدا عن تراجعها واغلاقها لاحقا ان البلاد كانت تزداد انغلاقا وعزلة وصعودا لقيم العداء للاخر وووصمه بالمؤامرة. واذا كانت « مكتبة مكنزي» ضحية هذه القيم في عدائها للاخر «الاجنبي»، فان مكتب صحيفة « طريق الشعب» التابعة للحزب الشيوعي والمقابل تقريبا لـ»مكتبة مكنزي» كان النسخة «الوطنية» من ضحايا قيم التشدد الوطني والقومي البعثية، فقد اغلق الباب المؤدي الى بيت انيق مطل على الشارع، ومعه اغلق الطريق الى مكان تعلمت منه اولى معارفي الصحفية، واولى مباهجي في النشر الادبي وتحديدا في كتابة قصيدة النثر، ذلك الشكل الكتابي الذي ستمتنع الصحيفة عن نشره لاحقا، حين ابلغني لاحقا الشاعر حميد الخاقاني بان قصائد النثر تثير حفيظة السلطات في وزارة الثقافة والاعلام وتحديدا الوزير الشاعر شفيق الكمالي الذي كان يعتبر « قصيدة النثر مؤامرة على الامة العربية».