صراع بريطاني ـــ امريكي في مجلس الاعمار في الخمسينيات

صراع بريطاني ـــ امريكي في مجلس الاعمار في الخمسينيات

بشـار فتحـي العكيـدي
يعد تأسيس مجلس الاعمار نقطة تحول أساسية في حياة العراق العامة وبداية سياسة انشائية تستهدف النهوض بالعراق اجتماعياً واقتصادياً وعمرانياً وثقافياً. وحددت المسؤوليات المجلس بأن يبحث في إمكانيات العراق ويتحرى موارده الانتاجية وقدراته الطبيعية، أما مالية المجلس فتتكون من 70% من مجموع حصص الحكومة من واردات النفط المقبوضة من الشركات ذوات الامتيازات.

ان مشكلة الخبراء كانت من المشكلات التي تواجه الحكومة العراقية، حيث جذب المجلس الكثير من الأجانب إلى العراق، فاستخدم المستشارين وعين الخبراء وسعى المتعهدون وممثلو الشركات الأجنبية لعرض خدماتهم على المجلس. إذ أن المشكلة كانت تكمن في المنافسة بين الخبراء البريطانيين والأمريكان المنتشرين في المجلس، حيث كان الصراع يتمثل بصورة خفية في مظاهر شتى وبصفة خاصة في السكك الحديد وما يتخلل تلك المنافسة من ملابسات قد تؤدي إلى تضارب بين مصالح الشركات الأمريكية والبريطانية وتزاحم على المقاولات والتعهدات، وقد تجر إلى تدخل السفارة البريطانية في إنهاء عقود بعض الخبراء والمستشارين.
وأوضح صورة على التنافس البريطاني الأمريكي في المجلس هو ما حصل عندما انتهى عقد الخبير الأمريكي وزلي نلسن، فقد كان عقد الخبير الأمريكي ينتهي في عام 1956 وكان هذا الخبير على درجة عالية من الكفاءة، وكفاءته معترف بها في داخل القطر وخارجه وكان نوري السعيد من المعجبين به جداً، إلا ان الذي حصل هو أن السفير البريطاني في بغداد قام بزيارة السفير الأمريكي ولدمار غلمن بسبب انتهاء عقد نلسن في 21 كانون الأول 1955، وخلال الزيارة تبين للسفير الأمريكي ان السفير البريطاني لا يريد تجديد عقد نلسن في المجلس، حيث رأى السفير البريطاني إبدال نلسن بخبير آخر يجعل عمل المجلس أكثر انسجاماً، إذ اتضح ان العضو البريطاني في المجلس كان قد قابل السفير البريطاني وأخبره أن العلاقة بينه وبين نلسن متوترة ويجب إبداله، إلا أن السفير الأمريكي أخبر السفير البريطاني أن مسألة إلغاء عقد الخبير الأمريكي هي قضية تخص الحكومة العراقية وليس لأي شخص حق التدخل فيها.
اتضح فيما بعد ان رغبة العضو البريطاني في إزاحة نلسن موجهة بالأساس ضد الحكومة والشركات الأمريكية التي أخذت تتدفق إلى العراق لغرض المساهمة في المشاريع التي أوجدها مجلس الاعمار، حيث أن العضو البريطاني كان لا يرغب في تجديد عقد إحدى الشركات الأمريكية الموجودة في العراق والتي تعمل ضمن مشاريع مجلس الاعمار، إذ أن وجود نلسن يمنح تحقيق رغباته والتجأ إلى السفير البريطاني لغرض انهاء عقد نلسن، وبالفعل تم انهاء عقد نلسن بسبب الضغوط البريطانية على الحكومة العراقية مما أثار ضجة كبيرة على الحكومة،إذ أن رؤساء الوزارات السابقة جاءوا محتجين على إلغاء عقد نلسن قائلين أن العراق لا يزال بحاجة إلى خدماته، واحتجوا أيضاً على تدخل البريطانيين في شؤون العراق الداخلية.
لقد كانت مسألة الخبير الأمريكي نلسن إحدى المسائل التي دار الخلاف عليها بين الطرفين البريطاني والأمريكي والتي من خلالها تبين مدى استياء الخبراء البريطانيين من وجود الخبراء الأمريكيين بينهم ووجود الشركات الأمريكية التي تعمل في العراق، حيث كان البريطانيون يريدون أن يبقوا هم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة في العراق بغض النظر عن متطلبات العراق واحتياجاته ورغبته في التعامل مع الدول الأخرى. في محاولة للتخلص من النفوذ البريطاني وسيطرته على مجلس الاعمار سعى العراق لإقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، إذ تم في آب 1952 عقد اتفاقية ثنائية بين العراق وأمريكا نصت على استخدام خبراء أمريكان للعمل في العراق في مجال التنمية الاقتصادية وللمساهمة في المشاريع التي يخطط لها مجلس الاعمار.
وفي الوقت الذي نشاهد فيه تطور في العلاقات العراقية-الأمريكية من الناحية الاقتصادية لم تكن بريطانيا غافلة عن هذا التطور الذي كانت تدرك أنه موجه بالأساس ضدها، لذلك عملت بدورها على زيادة النشاط التجاري في العراق في محاولة منها لعدم رمي العراق بثقله الاقتصادي إلى الولايات المتحدة، حيث استقدمت مديرية البلديات العامة وضمن خطة مجلس الاعمار وبتوجيه من العضو البريطاني في المجلس مهندسين بريطانيين في هذا المجال، حيث وصل أول مهندس بريطاني إلى العراق في تشرين الأول 1954 وأسمه بيل وهو مهندس مدني ذو خبرة واسعة ولسنوات عديدة في بريطانيا لمساعدة الحكومة العراقية في إنشاء مشاريع الماء والكهرباء الجديدة وفي مختلف أنحاء العراق، أما المهندس الآخر فانه وصل إلى العراق في فترة لاحقة للمساهمة في وضع التصاميم للمشاريع المقترحة في نفس المجال.
وبالاهتمام نفسه وعلى غرار تقوية موقع بريطانيا الاقتصادي في العراق قررت بريطانيا القيام بعمل معرض تجاري لها في بغداد في 25 تشرين الثاني 1954، حيث يمثل هذا المعرض أكبر واجهة تجارية لعرض الصناعة البريطانية، إذ يؤكد المعرض على مدى قوة العلاقات العراقية-البريطانية (من وجهة نظر بريطانيا) ومدى الثقة الكبيرة التي توليها بريطانيا للعراق من الناحية الاقتتصادية.
منذ عام 1953 أصبح التنافس البريطاني-الأمريكي في العراق تنافساً جلياً وواضحاً لبسط النفوذ على العراق والفوز بمشاريع التنموية الجديدة لمجلس الاعمار، حيث أن السفارة البريطانية لم تخف مشاعر القلق من السياسة الأمريكية في العراق خصوصاً وأن بعض المسؤولين في العراق أخذوا يوضحون رغبتهم في الحصول على المساعدات الأمريكية الاقتصادية. ومما زاد في هذه المخاوف فشل بريطانيا في إقناع العرب بالمشاركة معها والغرب في تأسيس منظمة إقليمية للدفاع عن (الشرق الأوسط)، حيث دفع هذا فشل الولايات المتحدة الأمريكية متمثلةً بوزير خارجيتها جون فوستر دالاس بأن يطرح مشروعه المعروف بحلف دول الجوار الشمالي والذي أسس عليه فيما بعد حلف بغداد عام 1955، حيث راقبت السفارة البريطانية بحذر واسع هذه الزيارة بوصفها دليلاً على رغبة أمريكا بتعزيز نفوذها في منطقة (الشرق الأوسط). ومما زاد مخاوف بريطانيا مجيء فاضل الجمالي إلى رئاسة الوزراء في 17 أيلول 1953 والذي اشتهر بموالاته للأمريكيين، حيث أن حكومة الجمالي هي التي مهدت الطريق أمام تقدم ونمو النفوذ الأمريكي في العراق، إذ طالب الجمالي ومن خلال مذكرات بعثها إلى الخارجية الأمريكية الحكومة الأمريكية بتطوير علاقاتها مع العراق على نحو سريع في المجال الاقتصادي منطلقاً من إيمانه بوجود قوى تتمثل في بريطانيا تعارض وبسخط كبير إعطاء الولايات المتحدة دوراً مهماً في العراق. إذ أن تعزيز مركز الولايات المتحدة في المنطقة والعراق بالتحديد دفعها إلى المنافسة مع بريطانيا والقيام بهدم النفوذ البريطاني فيه والحلول محلها في الميادين التجارية والاقتصادية.
لقد أنشأ مجلس الاعمار مشاريعاً كبيرة في البلاد، حيث تم في 1 نيسان 1956 تدشين سد سامراء والذي يسيطر على مياه فيضان دجلة ويوجهها إلى الثرثار والذي يأتي بفوائد ضخمة للشعب العراقي، حيث كان ذلك الحدث مناسبة سعيدة للجالية الأمريكية في العراق، إذ تولت بعثة العمليات الأمريكية في العراق –وهي وكالة تامة بموجب اتفاقية التعاون الفني مع العراق- نشر دعاية واسعة كانت الحكومة بأمس الحاجة إليها عن منجزات وزارة الاعمار، حيث أصدرت بعثة العمليات الأمريكية بطلب من ضياء جعفر (وزير الاعمار) وبموافقة نوري السعيد نشرة مصورة تصف بها المشاريع المقرر افتتاحها خلال اسبوع الاعمار، كما نشرت صوراً فوتوغرافية للاحتفاليات التي جرت لتوزع في أنحاء البلاد وأخرجت فلماً ملوناً عن حوادث الأسبوع.
ولما جاء اسبوع الاعمار لعام 1957 اصبح المنهاج أكثر تنوعاً وبدا من المناسب أن تقدم واشنطن للعراق هدية كانت تفكر بها منذ زمن، حيث أهدت الحكومة الأمريكية في 24 آذار 1957 للحكومة العراقية مختبراً للطاقة الذرية كتذكار لاهتمام الحكومة الأمريكية في استخدام الطاقة الذرية للغايات السلمية، فتم افتتاح المختبر وقطع رئيس الوزراء نوري السعيد (17 كانون الأول 1955-8 حزيران 1957) الشريط وأعلن أن المختبر جاهز للاستعمال بإدارة عالم عراقي متميز هو الدكتور محمد حسين ال كاشف الغطّاء الذي كان قد حصل على منحة من مؤسسة فولبرايت الأمريكية للدراسة في مختبر آرلون الوطني للجنة الطاقة الذرية الأمريكية في لامون بولاية آيلينوي.

عن رسالة (صراع النفوذ البريطاني – الأمريكي
في العراق 1939 – 1958 )