كالفينو:  الوصايا والإبداع

كالفينو: الوصايا والإبداع

سعد محمد رحيم
الرواية؛ مغامرة إبداعية في أرض مختلفة ، واستثمار للممكن الإبداعي بوسائل لا يتيحها ألا المجال الحر، الفذ، والاستثنائي لهذا الجنس الأدبي .. وكما يقول كونديرا فان (( السبب الوحيد لوجود الرواية هو اكتشاف ما تستطيع الرواية وحدها اكتشافه . إن الرواية التي لا تكتشف عنصراً مجهولاً في الوجود هي رواية لا أخلاقية.. ))

وكثيرٌ هم من جربوا كتابة الرواية، لكن قلة من هؤلاء استطاعت اكتشاف ما هو خاص بالرواية، أي خلق عالم روائي يشتغل في إطار ما تقترحها الرواية من قوانين سردية، وفي الوقت نفسه لا يشبه أي عالم آخر. والروائيون الكبار هم أولئك الذين شيّدوا عوالم روائية ميـّزتهم من غيرهم، وبوأتهم مكانة عالية في دنيا الأدب.
وعلى وفق هذه الأطروحة فان الروائي الإيطالي( ايتالو كالفينو) هو واحد من هؤلاء الكبار، وعالمه هو نتاج لغة راقية، و أسلوب جذاب وساحر، ورؤية عميقة للوجود الإنساني وخيال خصب، خلاق، على الرغم من اتهام بعض النقاد له بأن كتبه ذات كمال شكلي وتفتقر إلى اللمسة الإنسانية.
ينشئ كالفينو في كتاب( مدن لا مرئية) مدناً تناظر مدن العالم الواقعي وتفارقها أيضاً.. إنها مدن يعبر القارئ الواحدة منها إلى الأخرى مشدوهاً لينجز سفراً زمانياً ومكانياً إلى زمان ومكان آخرين، قائمين بقوة التخيل.
وفي روايتي (ماركو فالدو) و(السيد بالومار) يقدم لنا كالفينو روايتي سيرة لشخصيتين من ذلك النمط الذي كتبه هيرمان هسة كروايات(سدهارتا ـ كنولب ـ دميان ) مع تباين في الأسلوب والأفكار والمقاصد.
إن كالفينو في الروايتين الأخيرتين يفصح لنا عن المعنى القلق والمحرج لوجود الإنسان في عالمنا المعاصر، ومأزقه وهو يحيا، ويقيم العلاقات، ويسّمي الأشياء ويفسرها، ويعود لينظر إلى دخيلة نفسه. فالسيد بالومار، مثلاً، ((إنسان عصبي المزاج يعيش في عالم متشنج ومحتقن. لذا يريد أن يقلل علاقاته بالعالم الخارجي، ولكي يحمي نفسه من الانهيار العصبي يحاول أن يسيطر على مشاعره قدر ما يستطيع))
خاض السيد بالومار تجربته الفريدة والمؤسية والممتعة وهو يراقب موجودات الكون بدءاً من الأشياء الصغيرة للإمساك بكينونتها الخفية وشعرية وجودها. فهو يبحث عن تلك النظرة الصافية البريئة التي لا تختلف، على سبيل المثال، عن نظرة البجعة والنورس إلى الجسد البشري الأنثوي العاري المستلقي على ساحل البحر، غير((أن وطأة التقاليد المتزمتة تمنع الناس من فهم أكثر النوايا وضوحاً .. هذا ما استنتجه بالومار بمرارة)) وهو يرى المرأة العارية تغطي نفسها وتبتعد متذمرة وقد فسرت خطأ نظرته الملحاح إليها.
وفي رواية(( قلعة المصائر المتقاطعة)) تتعزز نباهة القراءة وفراسة القارئ .. القارئ، هاهنا ، هو الراوي الأول الذي يلج القلعة في وسط الغابة بعد عناء ويجد نفسه على طاولة مع عابرين آخرين تقاطعت طرقهم فالتقوا ليحكوا بعضهم لبعض حكاياتهم، إلا أنهم جميعاً يفاجأون بفقدان مقدرتهم على الكلام فيلجأون إلى أوراق التاروت ـ أوراق لعب ـ فيلقون بهذه الأوراق باختيار حاذق فيحدث نوع من القراءة السيميائية للصور المرسومة على الأوراق والتي بتتاليها تتصاعد أحداث الحكايات.
إن القصة تروى لا شفاهاً ، ولا من طريق الكتابة، ولكن من خلال رصف الأوراق بعضها إلى جانب بعض.. ولاشك أن القراءات تتعدد بتعدد الجالسين حول الطاولة. وفي النهاية نكون إزاء قراءة أولى هي قراءة الراوي الأول، والتي ينقلها لنا (( كتابة)) فنغدو في مواجهتها قراء خارجيين نحلل ونؤول ونفكك، ليست الكلمات المكتوبة وحدها ـ بل الصور وقد صفـّت على صفحات الكتاب مثلما صفّها رواة الحكايات على الطاولة في تلك القلعة العجيبة( قلعة المصائر المتقاطعة) لتجري وقائع أكثر من لعبة: لعبة الورق التي تحكي، ولعبة قراءة الراوي الأول وهو يؤول علامات الورق ويرسلها لنا كتابة، ولعبة قراءتنا ونحن نشهد احتمالات شتى وتأويلات مختلفة في أثناء هذه القراءة(( فالأشياء والمصائر منثورة أمامك، المتغير منها وما لا يتغير. وقد ضل من يعتقد بأنه يحسم أمراً)) .
والسؤال الذي يفرض نفسه علينا هو، هل أن ما يفعله كالفينو هو محض مناورات شكلية، وأنه يبرز لنا فسيفساء من الحكايات المتداخلة التي لها جمالها الخاص وتفتقر إلى الحس الإنساني؟
أظن أن الإجابة هي ؛ كلا، ذلك أن كالفينو وهو يسرد حكاياته من خلال رواته العديدين إنما يظهر جغرافيا متشعبة ومعقدة الوجود الإنساني وعلاقات الإنسان وصراعاته ومواجهاته لنفسه ومصيره،ه مشتغلاً على الموضوعات الأساسية لذلك الوجود وهي؛ الحب والحرية والحرب والألم والموت … الخ.
إن كل راو يسعى إلى تأصيل حكايته في ذاكرة الآخرين أملاً الحصول على التفهم والمواساة.
إن كالفينو وهو يعرض أوراق التاروت مع تأويله لها أنما يمنحنا فرصة أن لا نكتفي بتأويله ذاك، ويكون من حقنا أن نقرأ ونؤول الصور مثلما نرى ونشاء، تترى مالا تحصى من الحكايات أمام عين مخيلتنا.
تتشابك الحكايات، ويتبارى الرواة للحصول على الأوراق فتتشكل خريطة معقدة على الطاولة، وبذلك تتحقق التقنية السردية التي تشبه إلى حد ما التقنية التي استخدمتها شهرزاد وهي تروي حكاياتها لشهريارـ الملك ـ ..فتتفرع الحكايات ثم تلتقي فتستقل كل حكاية بذاتها على الرغم من التقائها مع الحكايات الأخرى.
يجعلنا كالفينو نبصر العالم في رواية( قلعة المصائر المتقاطعة) من خلال مرايا. وهذه المرايا ليست مستوية، وبذا يظهر العالم بأبعاد هي غير أبعاد العالم الواقعي في ظاهره، مانحاً ايانا رؤية أشمل وأعمق لأشياء والوجود الإنساني. فعالم كالفينو عالم متعدد باحتمالات تكوينه، واختلاف تلويناته، ومساراته، فهو عالم لانهائي، دقيق وواضح ومتسق، أيضاً، خفيف وسريع.. أي أن وصايا كالفينو التي تركها للألفية الثالثة قبل وفاته وضمنها في كتابه(( ست وصايا للألفية الثالثة ـ محاضرات في الإبداع)) هي في حقيقة الأمر خلاصة رؤيته للعالم (الحقيقي والمتخيل ) .. للذات الإنسانية والوجود الإنساني والإبداع . وقد عمل على تجسيدها في نصوصه .. يقول في فصل التعددية : ( من نحن، من هو كل واحد منا أن لم نكن مركباً من تجارب ومعلومات وكتب قرأناها وأشياء متخيلة ؟ كل حياة هي موسوعة، مكتبة، مخزن، أشياء، سلسلة من الأساليب، ويمكن أن يستبدل كل شيء باستمرار ويعاد تنظيمه بكل طريقه يمكن تصورها..) .. ألا يبدو أن كالفينو في هذه المقاطع أنما يتحدث عن رواية ( قلعة المصائر المتقاطعة ).
استهوت اللعبة كالفينو حينما راح يكوّن من أوراق التاروت قصصاً فكتب جزءاً أول بعنوان ( قلعة المصائر المتقاطعة) وعثر على نوع ثانٍ فكتب( نزول المصائر المتقاطعة) استحوذت عليه فكرة كتابة جزء ثالث فراح يبحث عن أوراق التاروت من نوع مختلف .. يقول في ملاحظاته الأخيرة في كتاب(القلعة) :
(( نشرت هذا الكتاب لأتحرر منه، فقد تملكني سنوات، بدأت بمحاولة لتتبع أوراق من التاروت دونما انتقاء كي أرى أن كنت مستطيعاً قراءتها. برزت لي حكاية (المتذبذب) وشرحت بكتابتها. بحثت عن صلات، ترابطات أخرى في الورق من النوع نفسه، فأدركت أن مجموعة التاروت هذه ماكنة لصنع القصص، ففكرت بكتاب .. )) .
تنتهي رواية (السيد بالومار)حين يقرر بالومار أن يبدو ميتاً ليرى كيف يسير العالم من دونه (( من قبل كان يعني بـ( العالم ) العالم زائداً نفسه؛ المسألة الآن نفسه زائداً العالم ناقصاً هو .)) بيد أن رواية( قلعة المصائر المتقاطعة) تنتهي نهاية مفتوحة كما لو أن الحكايات التي رواها نزلاء ( القلعة ) و( النـُزل ) هي إرهاصات أولى لحكايات ممتعة كثيرة يستطيع القارئ المتروي والذكي الاسترسال بصياغتها حالما يفرغ من قراءة الكتاب.

هذه المادة للروائي والكاتب الراحل سعد محمد رحيم سبق ان نشرت في صحيفة المدى