«ناسك في باريس» للإيطالي إيتالو كالفينو… صورة الكاتب في نصوصه

«ناسك في باريس» للإيطالي إيتالو كالفينو… صورة الكاتب في نصوصه

كه يلان محمد
نادراً ما تُصادفُ كتاباً مُنفتحاً على نصوص لا يجمعها نوع أدبي واحد، بل تتناثر على مساحته موادُ متفرقة من اليوميات إلى المذكرات والحوارات والمقالات، أي تتجاور الفنون والأنواع الأدبية في فضاء مشترك. وهذا ما يتميز به «ناسك في باريس» الصادر مؤخراً عن المدى، حيثُ يضمُ الكتابُ آثاراً أدبـــية متنوعة للكاتب والروائي الإيطالي إيتالو كالفينو. وذلك ما يُعينُ القارئ على فهم عالم صاحب «مدن لامـــــرئية» وآرائه حول مفهوم الإبداع الأدبي، إضافة إلى انهمامه على الكتابة الإبداعية.

من الواضح أنَّ إيتالو كالفينو كان منظراً لفن القص وله اجتهادات في هذا الصعيد. أكثر من ذلك تتبينُ من خلال هذه النصوص ما تتصفُ به شخصية الكاتب وتجاربه في مراحل مفصلية في تاريخ بلده إيطاليا وخصوصياته الأُسرية. كما يحكي تفاصيل انضمامه إلى الحزب الشيوعي الإيطالي، ومن ثُمَّ انسلاخه من التزامات حزبية، إثر أحداث براغ وتدخلات الجيش السوفييتي وإبانة تبعية الشيوعيين الإيطاليين وعدم استقلاليتهم. فضلا عما يلتقطه القارئ عن علاقة استثنائية بين إيتالو كالفينو وبعض المدن، منها تورين التي راقتْ له مناهضة مُثقفيها للنازية ورفضهم المُساومة، وزاد ارتباط الكاتبِ بهذه المدينة وثوقاً، عندما وجد فيها مُعلمه تشيرازي بافيزي الذي يُقدم كاليفينو إلى الصحافة ويتابعُ كلَ ما يكتبهُ، لذا يعتقدُ ابنُ سان ريمو أنَّ ما تعلمهُ من تورين يعادلُ ما راكمهُ من مُصاحبته لبافيزي. ويرى كالفينو أن تورين تتوفر على العنصر الذي يوفر مناخاً محفّزاً على الكتابة وهو إن الماضي والمستقبل يكتسبان أهمية أكبر من الحاضر.
حول باريس يقولُ إيتالو كالفينو إنَّ هذه المدينة قبل أندريه بريتون ضمت كل شيء وصارت مكاناً خصبا لولادة السيريالية. وفي سياق ذي صلة يبدي كالفينو إعجابه بمدينة نيويورك ويجدُ فيها صورة المكان البسيط أو المواصفات التي يجبُ أن تكون عليها المدنُ حسب رأيه بخلاف أدونيس الذي يقول – نيويورك حضارة بأربع أرجل، كل جهة قتل، وطريقة إلى القتل-ويذكرُ الكاتبُ في يومياته التي دونها أثناء رحلته الاستكشافية في أميركا، انطباعاته عن طبيعة كل ولاية وأجوائها الاجتماعية.
يسردُ كالفينو نتفا عن طفولته ونشوئه في عائلة كل اهتمامها كان ينحصر في مجال الزراعة، إلى أن يحدثُ انزياح عندما ينتقلُ الابن من كلية الزراعة إلى الآداب ويتخصص في جوزيف كونراد.
يبدأ إيتالو كالفينو هذه الرحلة في تشرين الثاني 1959 ويصادفُ وجود الكتاب برفقته وهم من جنسيات فرنسية وإسبانية وإنكليزية. ويشيرُ إلى أن غونترغراس لم يتمكن من دخول أميركا لأنَّه لم يجتز الفحص الطبي. وتُطالعك بعد مقدمة إيستر كالينو وحوار مع زوجها، يوميات الكاتبُ في الولايات المتحدة الأميركية. إذ قسمها على وحداتٍ معنونة باسم المدينة أو منطقة مشهورة مع ذكر التواريخ، وفي ذلك تمثل لقاعدة فليب لوجون الذي يقولُ «ضع التاريخ وقُلْ ما تشاء». إلى جانب ما تختصُ به اللغةُ من الوضوح والتعبير عما يشعرُ به المتجولُ بين الولايات. وكما أسلفنا الذكر فإن نيوريوك تلفتُ انتباه كالفينو أكثر من أي مدينة أخرى، ويزورُ مرافقها الاقتصادية والثقافية ويبلغ إعجاب الكاتب بعاصمة المال إلى درجة يقول، ستفكر في كل شيء فور وصولك إلى نيوريوك ما عدا العودة إلى ديارك. ويلاحظُ إيتالو كالفينو، تجذر حب المال لدى الأميركيين، بحيثُ يتوقع أنَّه إذا نشأ جيل جديد في المستقبل يتخلى عن عبادة المال ستتلاشى الولايات المتحدة الأميركية. تزامنت زيارة كالفينو إلى أميركا مع حملة الانتخابات الرئاسية لذلك فمن الطبيعي أن يهتمَ بآراء متداولة بشأن فرص فوز هذا المرشح أو ذاك، حيثُ يتوقف عند الاحتمال الأرجح بتتويج المرشح الديمقراطي جون كينيدي رئيساً للولايات المتحدة. وهكذا يراقبُ مؤلف «طريق إلى بيوت العناكب» نمط حياة الأميركيين على مستويات اجتماعية وثقافية وسياسية وفنية، لافتا إلى أنَّ 70٪ من دور النشر أصحابها من اليهود، كذلك المسارح، كما لفت اهتمام كالفينو حماسة الأميركيين لبناء منازلهم وتركيب السلالم وطلي الحيطان والقيام بأعمال النجارة، بسبب عدم وجود أجرة العمل لهذه الوظائف. ويشير إلى طبيعة مجتمع الهنود في أميركا ورغبتهم في الانعزال وعدم مُخالطة غيرهم، ويُفضل تسجيل يومياته في الولايات الجنوبية أيضا منها نيوأورلينز، ويستشفُ وجود تشابه من حيث التصميم بين بعض المناطق في تلك الولاية مع مدن أوروبية منها فينسيا. ويقدم معلومات عن جذور مهرجان ماردي غراس وما يشهده من الفعاليات.
مفصل آخر من الكتاب هو الذكريات والحوارات التي أجريت مع الكاتب، إذ يسردُ كالفينو نتفاً عن طفولته ونشوئه في عائلة كل اهتمامها كان ينحصر في مجال الزراعة، إلى أن يحدثُ انزياح عندما ينتقلُ الابن من كلية الزراعة إلى الآداب ويتخصص في جوزيف كونراد. يُذكر أنَّ كالفينو يمتلك رؤية نقدية عميقة يبرزُ هذا الجانب من شخصيته عندما يتناول تجربة بافيزي بالإعجاب، علما أن أسلوب إيتالو كالفينو مغاير لما يعتمدهُ صاحب «الصيف الجميل» في كتاباته، فالأخير لم يؤمن بتوظيف الأسطورة التاريخية قناعا لشخصيات وثيمات أدبية. وأبان كالفينو بأنَّه لا يختار نوعية القصة التي يكتبها مسبقا، ولا يحددُ إطارا نفسيا أو واقعيا أو رومانسيا، لأن ما يهمه هو تعميق العلاقة مع العالم. وعطفا على ما سبق ذكره فإنَّ كالفينو يجدُ أهمية في كتابة الرحلات، بوصفها محاولة لتوثيق ما تمرُ به الدول من التحولات الجوهرية، كما هي أداة للتواصل بين ذات الكاتبة والواقع.
في رأي كالفينو فإنّ المؤلف لا يمكنه أن يكتبَ بطريقة جيدة إلا عن الأشياء التي تركها خلفه، لعَّل من أهم أجزاء الكتاب هو ما يستعيدُ فيه كالفينو تاريخ اتصاله بالحزب الشيوعي. ويقولُ إن ما دفع به نحو هذا الاختيار لم يَكُنْ دافعا أيدولوجيا بقدر الشعور بالحاجة للانطلاق من صفحة بيضاء، ولا ينكرُ تأثير والديه اللذين كانا من مؤيدي السوفييت ويبدو أن ما جذب كالفينو إلى الحزب الشيوعي هو نشاط الحزب وانضباطه. يبدأُ كالفينو في هذه الفترة بنشر قصصه الرمزية ويصبحُ مُنظما للشباب في الجبهة. هنا ينوه الكاتب بدور أمه في هذه التجربة ويعتبرها مثالا يحتذى في الثبات والإقدام وهي تتحلى بالعدالة وفضائل أسرية، على حد وصفه. إذن يقتحمُ كالفينو معترك المقاومة بدون سابق إنذار، بدون أن تدع له الظروف فرصة لتكوين إحساسه الداخلي بالمسألة، لأنَّ المأساة الخارجية شيدت بالإتقان، كما قال أحد اصدقائه. يؤكدُ إيتالو كالفينو على تمسكه بمبدأين في كل محطات حياته أولا: شغفه بالثقافة العالمية. ثانيا ما يتطلعُ إليه من تثقيف الطبقة الحاكمة تساهم في إعطاء المجتمع ملامحه. ويربطُ كالفينو سعادته بإقامته في مدينة تسمحُ له بأن يكون لامرئيا، ويبدو أنه كاتب انطوائي غير متصالح مع الكاميرا والأضواء الإعلامية، باعتقاده أن المبدعين الكبار ليس لهم شكل وسحنة واضحان، يضرب مثالا بشكسبير الذي تغيب معلومات عن حياته الخاصة، وهنا يتوصل إلى نتيجة وهي كلما كان الكاتب مجهولا يكبرُ حضوره الإبداعي وتأثيره.
وبما أن كالفينو عاش طفولته وشبابه في ظل الفاشية، لذا لا يقفزُ على هذه المرحلة، وكانت ذاكرته تخزن صور موسوليني، ومن المعلوم أنَّ الدوتشي استفاد من الصور لفرض هيمنته، حاله حال أي ديكتاتور آخر ويتتبعُ كالفينو مراحل تغول السلطة الفاشستية عبر رصد صور الزعيم، على اعتبار أن تلك الصور مرآة لعهد الفاشية في تاريخ إيطاليا، أخيراً ما يتفردُ به هذا المُؤَلف هو غزارة المعلومات بين دفتيه، بحيثُ ترسمُ سحنة الكاتب على المستوى الإبداعي والشخصي في ذهن المتلقي.